تعز في زمن الصغار
يمنات
جمال عامر
عشرات بل مئات التصريحات التي هلّت ولا زالت تهلّ من كل حدب وصوب حول اقتراب تحرير محافظة تعز. بعض هذه التأكيدات قادمة من خارج الحدود، من قبل مسؤولين في أبو ظبي والرياض، وبعضها الآخر من مسؤولين حكوميين وعسكريين على رأسهم هادي.
ويتوج سياسيون وحزبيون وعدد من المشائخ المحسوبين على الفئتين السابقتين حقيقة ما يقال ويوعد باعتبار أن تعزّ صارت على بعد مرمى حجر من نصر ناجز لم يتبقى سوى الإعداد للاحتفال به.
لتمر أشهر ويليها أخرى خلقت سنوات ثلاث من نزيف دم متواصل وتدمير نال من قيم الناس قبل أن يطال أحجار المباني، ولكن دون أن يتحقق وعد بنصر أو حتى باستقرار آمن لمناطق تم تحريرها داخل المدينة وأصبحت ساحات يحكمها أمراء حرب متشددون، يتقاتلون فيما بينهم على الغنائم ويتسابقون في إطلاق فتاوى التحريم والتكفير.
وفي سياق الحديث عن الحسم، أذكر لقاء غير مرتب جمعني مع الشيخ حمود المخلافي، أواخر شهر مايو من العام الماضي في منزل الشيخ سلطان البركاني، في القاهرة وكان معنا عدد من وجاهات وأعضاء مجلس النواب من أبناء المحافظة.
كان المخلافي، وهو أحد قادة الفصائل التابعة لحزب «الإصلاح» التي تواجه «الحوثيين» قادماً من تركيا بعد أن وصلها قبل عام عقب رحلة واكبتها حملة دعائية وتغطية إعلامية رافقت مغادرته من تعز وحتى وصوله محافظة مأرب التي أعد له حزبه استقبالاً رسمياً وشعبياً باعتبار أن مقصد السفر ومحطته النهائية هي الرياض، بغرض شرح معوقات النصر للقيادة السعودية وجلب ما يهيئ لتحقيقه، ولتأكيد نبل الهدف، فقد تسلم مبلغاً كبيراً كتبرعات من محافظة مأرب، لم يعد البحث عن مصيره اليوم مهماً مع كل ما خسرته تعز.
في هذا اللقاء، وبعد كل هذه المدة من غياب طال بأكثر مما يمكن تصديقه عن إمكانية الوفاء بوعد حول عودة قريبة محملة بالنصر الموعود، كان الرجل يتحدث عن الجبهات بحماسة قائد لم ينفض عن ملابسه غبار المعارك بعد.
وسألته عن سبب إضاعته لفرصة تجنيب محافظته إراقة الدماء التي سالت والخراب الذي طالها حين تقدم «أنصار الله» في السنة الأولى من بداية الحرب بعرضهم المتمثل بالقبول بمغادرة مقاتليهم مقابل تأمين عملية انسحابهم، وذكّرته بما قاله في لقاء مع «الجزيرة» من أنهم رفضوا، باعتبار أن «أنصار الله» يريدون فقط الخروج بماء الوجه بعد أن شاهدوا نتائج عمليات القصف.
ولا أكاد أتذكر من رده، إلا أنه تلجلج بكلام لم أفهمه، قبل أن يتدخل أحد الحاضرين في مهمة إنقاذ، بالقول إنه استخدم كواجهة لهذا الرفض، واعتبرت سكوته موافقة، لأسأل مجدداً أنه وفي حال جدد «أنصار الله» موافقتهم على مغادرة تعز، هل يمكن التعهد بأن لا تكون منطلقاً للهجوم ضدهم؟
وهنا أجاب بصوت الواثق إن «من يقاتل من أبناء تعز قد أصبحوا ضمن جيش الدولة، وإنهم لن يتوقفوا إلا في مران بصعدة».
ولم أعلق حينها باعتبار أن ما قال سوف يضاف إلى مئات من مقولات بيع الوهم التي ترمي بأصحاب النوايا الصادقة من أبناء تعز إلى غياهب الموت أو إلى وجع الإصابات المقعدة، بينما تعود على هذا وأمثاله بملايين الدولارات تُغيّب هي أيضاً في بنوك اسطنبول وقطر، قبل أن تعاود الظهور كمشاريع استثمارية.
لازالت تعز منذ أول طلقة وحتى اليوم تنزف دماء حتى يكاد أن يرتوي ترابها، فيما أغلب مشائخها وقيادات أحزابها يبيعون كرامتهم ويستنزفون ماء وجوههم بين يدي أصحاب المعالي والسمو، سواء في الرياض أو أبو ظبي، لتبرير خلق محطات لصراع جديد بحثاً عن دور محتمل يتم تمويله في ظل وجود أطراف تعددت توجهاتها وانتماءاتها، وصار لكل منها موقعاً وساحة وسلاحاً ومهمة تصب في حفر مزيداً من القبور للضحايا وتقسيم المقسم بغرض سحق ما أمكن لإضعاف الجميع.
هؤلاء الصغار جداً، الباحثون عن أدوار قادمة في محافظة محطمة، هم من يتحملون كل ما آلت إليه، وبالذات من قاتلوا كأحزاب وجماعات وقبلوا أن يكونوا أدوات في يد الخارج الذي أخرجهم من المعادلة إما بإلحاقهم بقوائم الإرهاب كما حصل مع السلفي أبو العباس، أو بطردهم من مناصبهم وبلدهم كما حدث للمنتمين أو المشتبه بانتمائهم لـ«الإصلاح»، وعلى رأسهم المحافظ السابق علي المعمري، وحمود المخلافي، رغم كل ما قدمه هذا الحزب من تطمينات وتنازلات مذلة ومهينة.
ولا أدري إن كان كل من سبق ذكرهم قد اتعظوا ليسارعوا بإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقى من المحافظة من خلال اتفاق وطني ينهي الحرب من خلال تسليمها لمن يتم التوافق عليه من أبنائها … أم أن الأمر كله قد خرج من أيديهم إلى من يتولى أمرهم، مع أنهم يدركون أنهم هم المستهدفون بالقدر نفسه من حرب ليس دافعها الوحيد هزيمة خصومهم!