قراءة قانونية في كنوز شرق المتوسط
يمنات
سليمان عبدالمنعم
ها هو شرق المتوسط يبوح جيولوجياً بثروات وكنوز من الغاز والنفط بقدر ما يطرح قانونياً وسياسياً من تساؤلات واحتمالات للصراع. خرائط المسح الجيولوجي في هذه المنطقة لا تكشف فقط عن مخزون من الغاز تتجاوز تقديراته 120 تريليون قدم مكعبة، ولكنها تنبئ أيضاً بخرائط علاقات دولية ترتسم فوقها تحالفات ومناورات وأطماع. المفارقة في هذه الخرائط الجيولوجية الجديدة أنها، وبمقدار ما صنعت الفرحة والتفاؤل لدى بعض شعوب المنطقة مثل مصر ولبنان، فإنها لامست الأعصاب السياسية والاقتصادية لدول أخرى مثل تركيا وإسرائيل فبدت مأزومة متوترة. هنا في الملاحظات التالية محاولة لقراءة ما يموج به شرق المتوسط وما تخفيه أمواجه من تفاعلات.
(1)
الملاحظة الأولى أن الاكتشافات الجديدة لحقول غاز «ظهر» و «شروق» المصرية وما يصحبهما من بشائر واعدة أخرى، تُؤكد أن مقولة المفكر الراحل جمال حمدان عن عبقرية موقع مصر لا تزال تتجدّد وتتجلّى عبر الزمن، وأن هذا (الموقع) لم يكشف بعد عن كل أسرار (الموضع). أما في الحال اللبنانية فإن هذه الإرهاصات كفيلة بأن تجعل من لبنان وبحق «سويسرا» العرب. لكن اكتشاف الثروات الجديدة المحرّكة للتاريخ مصحوبٌ، ربما في اللحظة ذاتها، بميلاد خريطة مصاحبة من التنافس والصراع. تدشّن منطقة شرق المتوسط نفسها مركز الثقل العالمي الجديد لإنتاج وتصدير الغاز سيد الطاقة البيضاء في القرن الحادي والعشرين الأقل كلفةً وإضراراً بالبيئة. ولعلّ هذه المتغيرات تقدم لنا تفسيراً للتنافس المحموم بين القوى العالمية والإقليمية حول سورية العربية المثخنة بالجراح. فمن يضع له اليوم قدماً في سورية يسعى لأن يحصل غداً على قسيمة اشتراك في ثروة شرق المتوسط، حين تضع الحرب أوزارها وتنطلق الشركات العالمية الكبرى للتنقيب عن الغاز والنفط قبالة سورية. هذا يعني أن أحكام القانون الدولي ومبادئ العدالة ليست وحدها مرجعية الفصل في منازعات الثروات الجديدة وشجاراتها، ولكن تشاركها شئنا أم أبينا أدوات السياسة وحسابات الاقتصاد ومصالح الشركات العالمية الكبرى، والتحالفات الجديدة وسرعة البديهة الاستراتيجية التي تميّزت بها دولة كمصر في المبادرة والتحرك في شأن ثروات شرق المتوسط، بصرف النظر عن أي تقييمات أخرى.
حسناً… ثمة خبراء يرون مثلاً أن مصر كان بوسعها أن تحصل على أكثر مما منحتها إياه اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص، وثمة جدلٌ قائم في شأن التفاوت في المسافة التي تفصل حقل غاز «ليفياثان» الذي تستغله إسرائيل، والذي ما زالت مسألة مدى قربه من مصر وإسرائيل عالقة. المعلومات الرائجة تقول إن هذا الحقل التي تُقدر احتياطاته بنحو 18 تريليون قدم مكعبة يبعد من شاطئ حيفا بمئة وثلاثين كيلومتراً، فيما يؤكد البعض أن الحقل يبعد من حيفا 235 كيلومتراً و180 كيلومتراً فقط من ساحل دمياط. بالطبع تظل مسألة «أزمة الرقم» وعدم إتاحة المعلومات أمراً سلبياً ومربكاً وجزءاً من ظاهرة أعم وأشمل، ربما ذات جذور ثقافية تتعلق بالشفافية. فلا أحد يعرف مثلاً هل التزمت قبرص في اتفاقيتها لترسيم حدودها البحرية مع إسرائيل في عام 2010 بما تنص عليه المادة 3 من اتفاقيتها السابقة مع مصر عام 2003 على أنه إذا دخل أحد الطرفين في مفاوضات تهدف إلى تحديد منطقتها الاقتصادية الخالصة مع دولة أخرى، يتعين على هذا الطرف إبلاغ الطرف الآخر والتشاور معه قبل التوصل إلى اتفاق نهائي مع الدولة الأخرى. لا أتصوّر، من منظور شخصي، أن تكون بنود التفاوض القبرصي- الإسرائيلي بعيدة من الآذان والعيون المصرية، لكن يبدو أن الرغبة في سرعة استباق الأحداث وترتيب الأمور بعيداً من تحرشات تركياً خصوصاً بعد 2013 كانت عنصراً مؤثراً في الموقف المصري.
اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص على وجه التحديد، ثم شروع لبنان في إجراء عطاء للتنقيب عن الغاز والنفط في شرق المتوسط، كانت كافية لإزعاج تركيا وإسرائيل. تركيا مأزقها قانوني أساساً، كما سنرى لاحقاً ليس فقط لأنها ليست طرفاً في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لسنة 1982، ولكن أيضاً لأنها لا تستطيع أن تعول كثيراً على ما قد تعتبره حقوقاً مكتسبة لشمال قبرص التركي في الاكتشافات الجيدة لحقول الغاز، لأن لا أحدَ في العالم باستثناء تركيا يعترف بدولة شمال قبرص. أما إسرائيل فإن موقفها يبدو فاضحاً لأن الدولة التي تزعم لنفسها في مواجهة لبنان حقوقاً اقتصادية في شرق المتوسط، هي نفسها سلطة الاحتلال التي تمارس حصاراً بحرياً فعلياً على شواطئ غزة، مخالفةً حكم القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
(2)
الملاحظة الثانية أن الاكتشافات الجديدة للغاز والنفط تقع ضمن ما يُعرف بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، وهي، وفقاً لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار المشار إليها، منطقة واقعة وراء البحر الإقليمي وملاصقة له، يُعتَرف للدول الساحلية فيها بحقوق سيادية عديدة أبرزها استكشاف واستغلال الموارد الطبيعية الحيّة وغير الحيّة للمياه التي تعلو قاع البحر ولقاع البحر وباطن أرضه، ويصل عرض المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى 200 ميل بحري تبدأ من خطوط الأساس التي يقُاس منها عرض البحر الإقليمي. تصطدم التصريحات التركية الأخيرة التي اقترنت بتهديد شركات التنقيب واستخراج الغاز في المنطقة بحقائق واقعية وقانونية مربكة للموقف التركي. فمن حيث الواقع تركيا ليست طرفاً في اتفاقية قانون البحار لسنة 1982، ويكمن سبب عدم انضمامها في تمسكها بحساب المنطقة الاقتصادية الخالصة (200 ميل بحري) ابتداءً من حدود الدول البريّة وليس من الجزر. لكن احتساب مسافة المنطقة الاقتصادية الخالصة من الجزر يعطي لقبرص واليونان أحقيةً في الحدود المشتركة بينهما. أما من الناحية القانونية فإن موقف تركيا لا يقل صعوبة لأنه وعلى رغم وضوح حكم اتفاقية قانون البحار في أن المنطقة الاقتصادية الخالصة لا تتجاوز 200 ميل بحري، تبدأ من خط الأساس العادي وتُطرح منها عرض المياه الإقليمية للدولة، فإن الاتفاقية لم تأخذ بالنسبة للمنطقة الاقتصادية بقاعدة خط الوسط والأبعاد المتساوية، وهي القاعدة المتبعة في تحديد المياه الإقليمية، ولكن بديلاً عن ذلك تنص الاتفاقية على أن يتم تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بين الدول ذات السواحل المتقابلة أو المتلاصقة من طريق (الاتفاق) بين الأطراف المعنيّة على أساس العدالة والإنصاف، وفي حال فشل الاتفاق يتم اللجوء إلى إحدى طرائق تسوية المنازعات المنصوص عليها في الاتفاقية. هنا أفضت سرعة البديهة المصرية إلى إبرام اتفاقية ترسيم حدودها البحرية مع قبرص، ثم الإسراع في الاتفاق مع شركة «إيني» وضغط فترة التنفيذ في شكل قياسي وصولاً إلى بدء الاستخراج الفعلي للغاز لتزيد من إرباك الموقف التركي وتفاقم توتره.
أحدث التصريحات التركية تشكو من انتهاك اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط لحقوق تركيا في ما يُعرف بمنطقة الجرف (الامتداد) القاري التي نصت عليها المادة 76 من اتفاقية قانون البحار المشار إليها. وبدون دخول في تفاصيل فإن الامتداد القاري يعني بالمفهوم الجغرافي المناطق المغمورة بمياه البحر ذات الضحالة النسبية، والتي تفصل عادةً ما بين الكتل اليابسة المكوّنة للقارات وقيعان البحار ذات العمق الكبير. لكن المفهوم القانوني لفكرة الامتداد القاري لا يطابق بالضرورة هذا المفهوم الجغرافي، ولهذا لا يخلو من إشكاليات عديدة لا تصب في مصلحة تركيا، يتبقى أيضاً مسألة تحديد المساحة البحرية لهذا الامتداد القاري، وهو أمر تحكمه اعتبارات فنية شديدة التعقيد. مرة أخرى، وبدون التطرق لتفصيلات، تتجاوز حدود هذه المساحة يكفي القول إن سيادة الدولة على امتدادها القاري التي تحاول تركيا إثارتها مشروطة ومقيّدة بعدم المساس بالحقوق والحريات التي يكفلها القانون الدولي للدول الأخرى في البحر العالي أو المنطقة الاقتصادية الخالصة، وهو ما يُعيدنا مرة أخرى إلى مسألة أهمية الاتفاق بين الدول المعنيّة، وهو ما التقطته مصر في اللحظة المناسبة تماماً.
(3)
الملاحظة الثالثة مبعثها أنه، يبدو طبيعياً ومتوقعاً أن تفرز اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية بين الدول المتقابلة في شرق المتوسط مثل هذه الإشكاليات بما في ذلك احتمالات تفاقمها مستقبلاً. وهناك أيضاً ما يحصل في جنوب البحر الأحمر قريباً من الساحل الشرقي لمصر. ولهذا يجب أن نهيئ أنفسنا كعرب من الآن فصاعداً للتعامل مع قضايا القانون الدولي للبحار والتي تتعاظم أهميتها مستقبلاً أكثر مما كان عليه الأمر في الماضي، وما يمكن أن ينشأ عنها من منازعات. هذا يعني أنه ينبغي توظيف الأدوات الأكاديمية والبحثية لمواكبة هذه المتغيرات سواء من خلال استحداث والاهتمام بدراسة تخصصات علمية بينية جديدة، تجمع بين العلوم الاستراتيجية وعلوم البحار والمساحة البحرية والقانون الدولي للبحار، أو من خلال إنشاء مؤسسات ومعاهد بحثية لإعداد جيل شاب وكوادر فنية مؤهلة قادرة على التعامل مع هذه النوعية من القضايا.
(4)
يبقى سؤالان في نهاية المطاف. هل ثمة ما تؤسس به تركيا موقفها الرافض لما يحدث في شرق المتوسط؟ وما الذي يبقى لها من خيارات؟ سؤالان جديران بالنقاش من أكثر من زاوية لن يكون القانون الدولي سوى إحداها. فمن اللافت أن تركيا التي تعترض الآن، فجأة وبعد أكثر من أربع سنوات على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص المبرمة في كانون الأول (ديسمبر) 2013، هي ذاتها التي لم تعترض على الاتفاقية السابقة المبرمة بين البلدين في سنة 2003. ولعلّ تفسير ذلك أن تركيا كانت تعتبر الاتفاقية القديمة في مصلحتها، ولو نظرياً آنذاك، لأنها تمني نفسها أن يكون للقبارصة الأتراك نصيب مستقبلاً في الثروة المستخرجة من حقول الغاز المكتشفة. لكن المفارقة أن شمال قبرص كما سبقت الإشارة لم يحظ بالاعتراف الدولي سوى من الجانب التركي فقط، وهذا وجه آخر للمأزق التركي يعززه التصريحات الصادرة عن الاتحاد الأوربي منذ أيام والتي لم تمنح أدنى اهتمام للغضب التركي. أما عن الخيارات المتاحة فلن تكون سوى مراجعة تركيا لعلاقاتها مع الأطراف المعنيّة، وهي مصر واليونان وقبرص. فهل بوسع تركيا أن تفعل ذلك؟ ربما كانت سياسة تصفير المشكلات التي تبنتها تركيا منذ عشر سنوات في حاجة إلى تصفير جديد، لكن لا يعرف دروب إسطنبول أكثر من أهلها!