عشر نقاط رئيسية وردت في مقابلة ابن سلمان الأخطر مع مجلة “أتلانتك” تلخص استراتيجيته المقبلة
يمنات
عبد الباري عطوان
بعد القراءِة المُتعمِّقة للمُقابلة التي أجرتها مَجلَّة “أتلانتك” الأمريكيّة الشَّهيرة مع الأمير محمد بن سلمان، وليّ العَهد السعوديّ، والنَّص الكامِل باللُّغةِ الإنكليزيّة على وَجه الخُصوص، يَخرُج المَرء بانطِباعٍ راسِخ مَفادُه أنّها المُقابَلة الأهم والأخطر، ليس لما وَرَد فيها من مَواقِف، ومعلومات جديدة، وإنّما أيضًا لِما يُمكِن أن يترتّب عليها من خَطواتٍ لاحِقة يُمكِن أن يُقدِم عليها الأمير الشاب بعد عَودَتِه من جَولتِه الحاليّة لأمريكا التي تَستغرِق ثلاثة أسابيع.
الأمير بن سلمان لم يَكُن يُخاطِب الشعب السعودي في هذهِ المُقابَلة، وإنّما صانِع القَرار، والمُشرِّعين، والدَّولة الأمريكيّة العَميقة، ويُقدِّم لهم نفسه ونَظرَته وسِياساته المُستقبليّة كحَليفٍ استراتيجيٍّ يُمكِن الوُثوق بِه، والاعتماد عَليه، وُصولاً إلى “الضُّوء الأخضر” الذي يتطلّع إليه لتَأييد خَطوتِه الوَشيكة وهي تولِّي كُرسي العَرش في المملكة العربيّة السعوديّة، وهِي خُطوة ربّما يُقدِم عليها بعد أيّامٍ أو أسابيع بعد عَودَتِه من هذهِ الجَولة.
من الواضِح أنّ الأمير بن سلمان اختار كَلماتِه بِعِنايةٍ فائِقة، وكان يَعرِف ما يُريد قَوله، وما يُريد تَجنُّبُه، والجِهة أو الجِهات المُستَهدَفة، وكان يُقدِّم أوراق اعتماده للحَليف الأكبر، ويَشرَح برامِجه السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، ونعتقد أنّه حقّق نجاحًا مَلموسًا في هذا الصَّدد، خاصَّةً في البيت الأبيض، و”حُكومة الحَرب” التي يتزعّمها الرئيس ترامب حاليًّا.
***
هُناك عِدّة أُمور يُمكِن استنتاجها، سواء من الأسئلة والأجوِبة وما بَين سُطورِها، أو مِن خِلال المُقَدِّمة الطَّويلة والمُهِمَّة للصَّحافي جيفري غولد بيرغ الذي أجرى المُقابلة، نُلخِّصها في النُّقاط التَّالِية:
ـ أوّلاً: اعترف الأمير بن سلمان، ولأوّل مَرّة مُنذ بِدء الصِّراع العَربي الإسرائيلي، بإيمانه بحَق اليَهود بإقامة دَولتِهم على “جُزء من أرض أجدادهم”، ووصف دينيس روس حامِل مَلف الصِّراع في عِدّة إدارات أمريكيّة والمُفاوضات التي جَرت بين العَرب والإسرائيليين أنّها المَرّة الأولى التي يَصدُر فيها مِثل هذا الاعتراف بالحُقوق التاريخيّة لليهود، فقد تَحدّث قادة عَرب مُعتَدلون في السَّابِق عن وجود إسرائيل كأمْر واقِع، ولكن لم يَحدُث مُطلقًا أن اخترق أي مِنهم هذا “الخَط الأحمر”.
ـ ثانيًا: لم يُوجِّه الأمير بن سلمان، وطِوال المُقابِلة، أو على هامِشها، باعتراف غولدبيرغ نفسه، أي كلمة سيّئة واحِدة لإسرائيل، بل أشاد بِها وتَجرِبَتها بطريق غير مُباشرة، عندما قال أنّ لديها اقتصادا أكبر من حَجْمِها.
ـ ثالثًا: لم يَتلفّظ الأمير، وطِوال المُقابلة المُطوّلة (20 صفحة طِباعة) بِكَلمة “الدَّولة الفِلسطينيّة، ولم يُشِر إلى القُدس المُحتلّة كعاصِمةٍ لها، واكتفى بالحَديث عن إيمانِه “بحَق الفِلسطينيين والإسرائيليين بأن تَكون لهم أرضهم”.
ـ رابِعًا: أعرب الأمير عن “قَلقِه الدِّيني” فقط، على مُستقبل المَسجد الأقصى في القُدس، وحَق الشَّعب الفِلسطيني، دون تحديد هذا الحَق، وترك الأمر عائِمًا، وأكّد أنّه ليس لديه أي اعتراض ديني على أيِّ دينٍ آخر، وتحديدًا اليهوديّة والمَسيحيّة.
ـ خامِسًا: قَسّم مِنطقة الشَّرق الأوسط إلى معسكرين (تمامًا مِثل تقسيم الشيخ أسامة بن لادن زعيم “القاعدة” مَعكوسًا، ولكن دون استخدام تعبير الفسطاطين)، مُعسكَر الشَّر الذي يَضُم إيران و”حزب الله” وحركة الأخوان المسلمين، ومُعسكَر الاعتدال الذي يَضُم الأردن ومِصر والإمارات والبحرين وسَلطنة عمان والكُويت واليمن إلى جانب المملكة، وكان لافِتًا أنّه استثنى المغرب ودُول أُخرى في شمال أفريقيا.
ـ سادِسًا: أكّد وليّ العَهد السعوديّ أنّ بِلاده استخدمت حركة الأخوان المسلمين كورقة لمُحاربة الشيوعيّة التي كانت تُهدِّد أوروبا وأمريكا والسعوديّة نفسها أثناء الحرب البارِدة، ووَصف نِظام الرئيس جمال عبد الناصر بأنّه كان “شُيوعَيًّا”.
ـ سابِعًا: نَفى نَفيًا قاطِعًا وجود “الوهابيّة” في المملكة، وأكّد أنّ هُناك أربعة مذاهِب سُنيّة فقط، وشَدَّد على عدم وجود أي فوارِق بين السُّنّة والشِّيعة في المملكة.
ثامِنًا: أنكَرَ أيَّ دَعمٍ ماليّ سُعوديّ للإرهابيين ومُنظّماتِهم المُتطرِّفة، ولكنّه اعترف أن بعض الشخصيّات السعوديّة في المملكة مَوّلَت بعض هذهِ الجَماعات، دون أن يُحدِّدها.
ـ تاسِعًا: رفض رَفضًا مُطلقًا الإجابة على أسئلة تتناول حَمله الفساد تَفصيليًّا، أو الحَديث عن ثَروتِه وشِرائِه يَختًا بقيمة نِصف مِليار دولار، وقال للصحافيّة نورا أو دونيل عندما سألته عن هذا اليَخت “بعَصبيّة” لافِتة أنّه يُريد الاحتفاظ بالأُمور التي تتعلّق بِحياتِه الشخصيّة لنَفسِه، وأكّد أنّه رَجلٌ ثَريٌّ، وأنّه ليس مانديلا أو غاندي.
ـ عاشِرًا: خَصَّ الإمام علي خامنئي بالهُجوم الأكثر شَراسَة، بل ربّما الوحيد في هذهِ المُقابَلة، عندما قال أنّه أخطر من هتلر، فهتلر حاوَل غَزو أوروبا واحتلالها، وخامنئي يُريد غَزو العالم كُلّه، ويجب وقفه، وعدم تِكرار خَطأ تَجاهُل طُموحات هتلر الذي ارتكبه الأوروبيّون.
***
ما يُمكِن استخلاصه من هذهِ النُّقاط العَشر وغيرِها من إجابات لوليّ العَهد السعوديّ في هذهِ المُقابَلة، أنّه يُخطِّط لتَحالُفٍ مُستقبليّ مع إسرائيل في إطار “مِحور اعتدال” عربيّ يَتصدّى لإيران وبِدَعمّ من الولايات المتحدة الأمريكيّة، والاعتماد عليها كشَريكٍ اقتصاديٍّ مُستقبليّ، وتَعزيز المَصالِح المُشترَكِة معها، ولكن في إطار سلام عادِل، ودون أن يَتطرّق مُطلَقًا إلى مُبادَرة السَّلام العَربيّة التي هِي في الأساس طَبعة سُعوديّة، وشُروطِها.
الاعتراف بالإرث التَّاريخي لليَهود وحَقّهم في إقامة دولتهم على جُزء من هذا الإرث، أي على أرض فِلسطين، تَطوُّر خَطير جِدًّا، لأنّه يعني أيضًا الاعتراف بحُقوق هؤلاء في أراضٍ عربيّةٍ أُخرى في خيبر واليمن ومِصر والمغرب والجزيرة العربيّة، وقد يَدفَع بتبرير ليس بالعَودة واستعادة هذهِ الأراضي وإنّما مَطالِبهم بالتَّعويض عن ألف وخمسمائة عام مُنذ طَردِهم من الجزيرة العربيّة، وحَقِّهم في ثرواتِها النفطيّة وغير النفطيّة بالتَّالي، فهؤلاء مِثلما ثَبُت بالتَّجربة التفاوضيّة مَعهم، لا يتنازلون عن أيِّ أرضٍ احتلّوها ويُطالِبون بالمَزيد دائِمًا، ويتبعون سِياسة المَراحِل.
صحيح أن العاهِل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز سارعَ بالتَّأكيد على مَوقِف المملكة المُؤيِّد لقِيام دولة فِلسطينيّة مُستقلّة عاصِمتها القُدس المُحتلّة، في “تصحيح” لما وَرد على لِسان وَليّ عَهدِه من تَصريحاتٍ حول “حَق” الإسرائيليين في أن تكون لهم أرضهم، وذلك في اتّصالٍ هاتفيّ جَرى اليَوْمْ مع الرئيس دونالد ترامب، ولكن الضَّرر قد وَقَع، والأمير بن سلمان هو الحاكِم الفِعلي في الرِّياض.
الأمير بن سلمان يسير في حَقل ألغام، وربّما يُفيد التَّأكيد بأنّه لم يُراهِن أي زَعيم عربي على الإسرائيليين، ويُقدِّم التَّنازلات لَهُم، إلا وَدَفع ثَمنًا غالِيًا، وما زال هُناك مُتَّسَعٌ من الوَقت للتأمُّل والمُراجَعة.. ونَكتفي بهذا القَدر.
المصدر: رأي اليوم