تغاريد غير مشفرة “146” .. التاريخ العربي يكتظ بالاستبداد وتسييل الدم وتكرار دورات العنف
يمنات
أحمد سيف حاشد
(1)
الخليفة هارون الرشيد سجن يحيى البرمكي الذي أخلص لهارون معظم عمره، وفداه هو وأولاده أكثر من مرة، ووطد ملكه، ولكن هارون أبقاه في السجن حتى مات، ولم يقبل شفاعة من كانت بمقام أمه “زوجة يحيى”، بل ورفض التماس ابنه المأمون للإفراج عنه، ويحيي البرمكي هو من تولى تربية المأمون.
حدث هذا لأن هارون الرشيد كان خائف و متوجس..
عندما يعترش الخوف رأس الوالي ـ أي والي ـ يكون ذلك طريقا لسفك الدماء، و انتهاك الحقوق، و تقييد الحريات..
الخوف المسكون فينا هو عدونا الأول..
(2)
تم تقديم الأمين على المأمون (الابن البكر) في ولاية العهد من قبل والدهما هارون الرشيد؛ لأن الأمين من عرق نسب هاشمي خالص، فيما المأمون ليس هاشميا خالصا.
تربى الأمين في كنف أمه الهاشمية زبيدة زوجة هارون، فيما تربى المأمون في كنف يحيي البرمكي الذي أهتم بتربيته وتفقهه، وتأهيله للحكم..
كان المأمون أفقه من الأمين وأكثر انفتاحا وانحيازا للعقل، فيما كان الأمين أضيق أفقا حيال العقل، ودون المأمون علما وثقافة وتأهيلا للحكم..
امتيازات النسب لا وزن لها في المعرفة والحكم والقدرات والملكات.. بل تتحول أحيانا إلى صد، أو تتموضع أحيانا بموقف الضد من كل من هؤلاء..
(3)
تاريخنا المكتوب فيه كثير من الدس، والانحيازات التي ربما لا تتوافق مع الحقيقة ومع كثير من الوقائع..
التشويه الذي طال وقائع تاريخ البرامكة لصالح هارون الرشيد تجعلنا نشك بصحتها، بل هناك اضطراب في الروايات، تجعلنا نرتاب بكل شيء إلى حد بعيد..
هل هارون الرشيد قتل وزيره جعفر ابن يحيى البرمكي، بسبب تآمر البرامكة على الخلافة، أم سببه دخول جعفر بالعباسة أخت هارون الرشيد أي كان صفة ذلك الدخول..؟!!
لماذا تلك القسوة البالغة الذي جعلت هارون يقتل جعفر البرمكي صديقه وأخوه من الرضاعة، ويقتل أيضا إخوان جعفر، ويسجن والدهم يحيي البرمكي حتى مات في سجنه، والذي كان بمقام أب لهارون، والرجل الأول في حكمه، وهو من عضده في المُلك وتوليته الخلافة، فضلا أنه هو من رباه ووطد حكمه وأنضج حكمته.
(4)
ما يجري في القصور وبلاط الحكام من مخططات ومؤامرات ودسائس، وانقلابات، وتصفيات، تشعرك بالرعب المخيف، وتسجل أمام دخولك “خطر لا تقترب ” إنها مرعبه للغاية..
الهادي يغدر بولي عهده هارون الرشيد ويبعده عن ولاية العهد ويستبدله بطفله لولاية العهد، ويزج بيحيى البرمكي في السجن، فيموت الهادي بالسم، ويصير هارون خليفة، ويحيى البرمكي خاصته و وزيره الأول..
ثم بعد مدة وعهد يفتك هارون الرشيد بيحيى البرمكي وأولاده وينكل بكل ما هو برمكي، ثم يتآمر الأمين والمأمون على بعضهما، ويقتتلا.. وتستمر دوائر المؤامرات والتصفيات، ليصير الحكم كلعنة في القصور تطارد من يحكمون، وتفتك بهم واحدا تلو الآخر..
ومع ذلك تظل شهية السلطة والحكم ليس مثلها شهية..
(5)
في مشرقنا التاريخ يزدحم بأمثلة دورات المؤامرات والانقلابات والتصفيات التي تجري في قصور الحكام.. أتناول هنا نموذجا واحدا منه حافلا بالمؤامرات والقتل والانقلابات وكان محرك كل ذلك؛ الخوف، والتوجس والارتياب، وانعدام الثقة والشهوة الجموحة للسلطة والحكم..
في مصر مات الصالح أيوب، فاستدعت زوجته شجرة الدر ابنه توران شاه ليحكم، ثم اختلفا، فتآمرت عليه شجرة الدر، مع فارس الدين أقطاي، والظاهر بيبرس، وسيف الدين قطز، واستطاعوا الاطاحة به.
ثم تولت شجرة الدر الحكم باعتبارها زوجة الصالح أيوب، واستمرت في الحكم بحدود الثلاثة أشهر، وبسبب ما سجلوه عليها من اعتراض كونها امرأة، تزوجت عز الدين ايبك، وتنازلت له عن الحكم، وظلت شجرة الدر تحكم من خلال زوجها إيبك.
وعندما أحس ايبك وزوجته شجرة الدر، أن عز الدين أقطاي يزداد نفوذه في الجيش، قررا قتله بالتعاون مع مملوكه سيف الدين قطز، وتم تنفيذ ما قررانه بيد سيف الدين قطز.
وبعد أن بدأ ايباك يخرج عن طاعة زوجته شجرة الدر، تآمرت عليه وقتلته..
ثم قتل قطز، شجرة الدر، وتولى قطز الحكم، ثم أن الظاهر بيبرس قتل قطز، وحل محله في الحكم، ثم تم اغتيال ببيرس بالسم..
إن تعمقتم في قراءة تلك الوقائع والأحداث، ستجدون الخوف والتوجس وشهوة السلطة هي وراء كلما حدث.
لو تابعتم تاريخ الأئمة ستجدونه مماثلا لما تحدثنا عنه، بل هو أكثر نموذجا وتعبيرا وكثافة مما حدث في مصر، خلال فترة وجيزة من تاريخها.
(6)
بسبب الاستبداد والفساد والأنانية وكثرة المظالم والعصبيات بمختلف مسمياتنا، نجد معظم تاريخنا العربي مزدحم بالحروب والتمردات والاضطرابات والصراعات البينية التي لا تنتهي، وما نبنيه في ألف عام من الثقافة والعمران والتراكم المعرفي، نهده في فترة وجيزة ولامحة..
حال يستجلب أطماع القوى الخارجية وتتنافس القوى المحلية وزعماءها بتقديم الطاعة والولاء والتنازلات للأجنبي وللغازي والمستعمر مقابل الانتصار على بعضنا..
هناك من يتنازل عن عكا، أو القدس للفرنج، وهناك من يساوم على ولاء حلب للتتار، لينقذ كل حاكم ملكة فيها أو في غيرها، بدلا من أن يتحالف مع مصر أو مع بغداد أو دمشق لصد همجية احتلال المغول أو لطرد احتلال الفرنج.. تاريخ يتكرر بصورة أو بأخرى منذ زمن، ولا زال إلى اليوم موغلا بالتكرار والمأساوية، وعلى نحو أكثر خزي وعار.. وما يشهده اليمن اليوم أظهر وأجسد مثال.
(7)
تاريخنا العربي في الحكم يكتظ بالاستبداد والقسوة وتسييل الدم وتكرار دورات العنف.. تاريخنا طافح بالاغتيالات والغدر والتآمر والانقلابات وتوريث انتقال الحكم.. الاستبداد لا ينتج انتقالا سلميا للسلطة، بل ينتج قمعا وسطوة وتآمر واغتيال وغدر وانقلاب.. فتربع هذا يسود معه ذاك.
من السقيفة إلى الدولة الأموية إلى الدولة العباسية إلى دولة المماليك إلى عصر الانحطاط بل إلى يومنا هذا، تاريخ مثقل بشهوة الحكم، وبالثأر والدم الغزير والمآسي العراض..
المبشرين بالجنة قتلوا بعض، وآل محمد احتربوا مع بعض، والفتنة لم تنتهِ يوما، وإن تلاشت بعد مدة زرعت أخرى، وتستمر الضغائن والانتقامات وأثقال التاريخ تثقل كواهل و وجدان مجتمعاتنا وشعوبنا..
من أجل السلطة وشهية الحكم، الأخ يقتل أخيه والابن ينقلب على أبيه، والزوجة تقتل زوجها والقصر يتآمر بعضه على بعض..
الهادي يزيح أخوه ليورث ابنه، وأخيه هارون وأمه الخيزران يغتالان الهادي، والأمين يتآمر على المأمون، والمأمون يقتل أخيه الأمين، وعشرات الأمثلة..
يموت الصالح أيوب في مصر، فيورث الحكم ابنه توران شاه بدعم زوجة أبيه شجرة الدر، ثم تتآمر شجرة الدور عليه وتطيح به لتتولى هي الحكم، ثم تُرغم هي على التنازل، فتتزوج بإبيك، وتورثه السلطان بدلا عنها، ثم تقتل شجرة الدر زوجها إيبك، ويستمر تآمر القصر بعضه على بعض.. ويغتال بعضهم بعض وقد كانوا في القبل عصبة وحميم..
نموذج طافح وكثيف نورده هنا من التاريخ على سبيل المثال لا الحصر على صعيد إمارة صغيرة اسمها أبو ظبي خلال 200 سنة نعرف من خلالها كيف كان يتم انتقال الحكم، وكم كان التآمر والاغتيال والغدر حاضر في هذا الانتقال..
ذياب ابن عيسى اغتيل على يد ابن عمه هزاع ابن زايد، ليخلفه في الحكم شخبوط بن ذياب، حتى أنقلب ابنه محمد عليه، ثم أنقلب عليه أخوه طحنون بن شخبوط الذي اغتيل على يد أخويه خليفة وسلطان.
حكم الشقيقين فترة معا، ولكن خليفة أطاح بشقيقة، وأنفرد بالحكم، ثم اُغتيل على يد أفراد من العائلة.. وبعد صراع حكم سعيد بن طحنون، فتم عزله بالقوة من قبل أخوه زايد بن خليفة وحل محله..
ثم كان الصراع الدموي بين أبنائه.. بدأ بتولي طحنون بن زائد الحكم قبل أن يجبر بالقوة بنقل الحكم لأخيه حمدان، والذي تم اغتياله على يد أخوه سلطان، الذي تولى الحكم بعد ان أغتال أخيه..
ثم تبعه طحنون بن زايد، ثم خلفه حمدان بن زايد الذي اغتيل على يد أخيه سلطان بن زايد ، لكنه أيضاً اغتيل على يد أخيه صقر بن زايد، ، واغتيل هذا الاخير على يد ابن أخيه شخبوط بن سلطان، ثم تم تعيين زايد بن سلطان آل نهيان رئيسا للإمارات، ليتولى بعده ولي عهده ونجله خليفة بن زايد آل نهيان، ليستمر في الحكم اسما ولينتقل الحكم فعليا إلى شقيقه محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي.
هكذا نجد تاريخنا العربي يعج بالاغتيالات والاقتتال والمؤامرات والغدر كوسائل لانتقال الحكم كان في الإمارات أو الدويلات أو الدول أو الممالك وكل هذا يحكي تاريخ الاستبداد السياسي العربي الذي ساد في سدة الحكم وانتقاله من حاكم إلى آخر.
الحساب البديل لـ”أحمد سيف حاشد” بعد حضر حسابات الأخرى انقر هنا
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.