من أرشيف الذاكرة .. الفشل والبحث عن الذات من أجل المجموع
يمنات
أحمد سيف حاشد
– فكرت أن أكون شاعرا فوجدت الشعر عصيا، وفشلت مرارا أن أكون شاعرا.. تأكدت أنني لست من الشعراء ولست موهوبا في الشعر.. حاولت كتابة القصة القصير إلا أن محاولاتي كانت محدودة للغاية ولم استمر فيها..
– في كتابة القصة القصيرة، كانت لي محاولة بدت لي شاقة، ولم أفطن للمعايير الأدبية والجمالية التي يبحث فيها كتاب القصة القصيرة ونقادها، ولكنها محاولة وجدتها جزءا أصيلا مني، وهذا يعد سببا كافيا لاهتمامي بها، وقد ضمنتها بعض أرائي وفلسفتي الخاصة في بعض مناحي الحياة، وفيها تعرضت إلى أهمية التحرر من ربقة الماضي الثقيل، ومن ضروب التخلف التي تريد أن تفرض واقعها المظلم والسيء على حاضرنا ومستقبلنا، غصبا وكرها وعنوة..
– لقد رمزت للماضي المتخلف بشخصية “الشيخ عتيق”.. وفي المقابل رفضت الحاضر والمستقبل القادم باسم العولمة، والتي جسدتها في شخصية “حُضير” الذي يقدم المصالح على حساب الإنسان، وعلى حساب الحقوق والقيم والمثل والمبادئ التي تستشرف المستقبل، والعدالة التي أبحث عنها..
– انحزت، وتنحاز القصة وتنتصر في مجملها، بل وتفاصيلها أيضا، إلى الأمل والتمرد والثورة والحب والحرية والوفاء والعدالة والتضحية، فيما هي من جانب آخر تغالب التخلف والقيم البالية، وتقاوم اليأس والانكسار والفشل والخديعة..
– نشرتُ هذه القصة أو بالأحرى المحاولة في كتابة القصة القصيرة في العدد (18) من نشرة “القبيطة” قبل ما يقارب الـ 17 سنة، وتحديدا في تاريخ 15 ديسمبر 2001 وأعيد نشرها اليوم هنا كما نشرتها قبل 17 عام دون أي مس أو تغيير لكلمة فيها، لأعيد أكتشف نفسي فيها ومن خلالها مرة ثانية..
– بعد رحلة دامت قرابة 17عاما مضت وجدتها إنها لازالت جزء أصيل مني، لم تتغير هي ولم أتغير أنا، وجميعنا خلال هذه الرحلة نكبر ونسمو دون تقزّم أو سقوط. وإليكم القصة كما وردت، ولكم الرأي والحكم:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أمل والأشباح
أبو فادي
– الليل داج والطقس شات، والصمت الموحش مطبق على حال المدن التي لم تطل من التمدن غير قشره ونفاياته.. الرتابة والبلادة تكتم الأنفاس، والجدب والعطش لا يتركان مكاناً إلا ونال منه مقتلاً.. القرى البائسة هزيلة وشاحبة تبدو كأنها موميات يرجع تاريخها الى عهد ما قبل الفراعنة.. الخيبة كبيرة والحزن يلف بسواده القاتم بوابات الفرح الموصدة، وشرفات الانتظار المبلولة بالدم والدموع..
– (أمل) فتاة تجمع في طباعها بين عنفوان الشباب وروحه المتأججة، والحصافة والنضج ودماثة الأخلاق.. لا تترك أمراً قبل أن تتبينه، ولا تبدي رأيها فيه إلا إذا وجدته سديداً أو راجحاً في الصواب.. تحب الوفاء وتشغف فيه وتتحمل تبعاته وإن بلغ بها الأمر إلى دفع حياتها ثمناً لذلك الوفاء.. إن حبت أخلصت، وإن وعدت وفت.. تميل إلى الرفض والتمرد والثورة على ما ترى فيه استبداداً أو ضيماُ أو عبودية..
– سئمت (أمل) وضع البلاد والعباد.. تحررت من خوفها.. كسرت أغلال عبوديتها.. ثارت على الضيم الذي أستبد ببنات جنسها منذ عهود بعيدة، وخرجت من سجنها تحمل مشعل الأمل والحرية..
– خرجت (أمل) بمشعلها.. من محبس قبرها تشق لها طريقاُ في زحام العتمة وأشجار الصبار والعوسج تبحث عن حبيبها.. فارس أحلامها الذي قتلوه أو طردوه بتهمة حبه لها في بلد درج عرفه على اعتبار الحب رذيلة، ولقاء الأحبة جريرة لا تغتفر..
– (عتيق) شيخ مشهور بالزيغ والكذب وإيقاع النساء في حبائله حتى أطلق عليه البعض اسم (مُوقع ومروّض النساء) بلغ من العمر ستين عاماُ.. عمامته كبيرة، وقميصه الأبيض يفوح بالطيب والعطور..
– أعترض عتيق مسار(أمل) وهو يتظاهر لها بعفة حبه وحشمة وقاره وشغفه بحب الخير والادعاء لنفسه بالحكمة وإدراك بواطن الأشياء وعواقب الأمور..
– بعد تحية القاها عليها، ومجاذبة لأطراف الحديث معها قال:
– كم أنت جميلة يا أمل، غير إن بعض النساء لا يعرفن وزن جمالهن!
– لاذت أمل بلحظة صمت ثم قالت:
– الجمال جمال الروح أو لا تعرف هذا يا شيخ؟
– قال مستدركاً ومحاولاً القرب مما يروم:
– بل أنت جميلة الروح والجسد معاً؛ لقد حباك الله بجمال لم يعطه لغيرك من النساء؛ لماذا تعبثي به في البحث والسفر والترحال؟ المرء لا يعيش في هذه الدنيا مرتين.. لا أذيع سراُ إن قلت إنك تحتلين من القلب منزلة لم تطلها أو تتشرف بها امرأة من قبلك.
– قالت وهي كمن يلوذ إلى ملجا:
– إننا نسأل الله أن تكون منزلتنا عالية بين خلائقه يوم القيامة.
– لم يحسن إخفاء ما يعتلج في نفسه؛ فقال:
– إن كنت تصرين على العبث فالأمر سيان.. تعالي نعبث بالحب، فعبث الحب لذيذ..
– فقاطعته قائلة:
– نحن لا نعبث بالحب، ولا نحب العبث، إنني أبحث عن حبيب ذهب يصلي الفجر، فلم يعد ولم يطلع الفجر.
– قال:
– حبيبك مات وفجرك انتحر.. لا تضيعي شبابك تبحثين عن حبيب صار في عداد الموتى وحطام الأشياء.. لقد قتلوه وصلبوه قبل سنين.
– قالت وهي تتشبث بالأمل وتعض عليه بالنواجذ:
– هذا غير صحيح، فحدسي لا يكذب، ونفسي تحدثني بأنه حي، ولكنه يعاني من ضيق وشدة..
– قال وهو كمن يبدي مواساته لها دون أن ينسي مقصده منها:
– أما أنا فقد شهدت قتله وصلبه على باب المدينة، وكنت حزيناُ لمصرعه.. أوصيك يا أختاه أن تلوذي بالصبر.. الله لا يترك عبده ما دام العبد في عون أخيه.. الله سيعوضك بأفضل منه.. إن عوضه لا يبعد عنك بضعة بنان أو مدت يد واحدة.
– قالت وأثر الصدمة والمفاجأة بادية عليها:
– لا لم يمت ولم يصلب.. إنك توهمت الأمر أو إنك تكذب وتخادع..
– قال مؤكداُ ما يقول:
– صدقيني حبيبك مات وقد شبع موتاً وسكينة.. لا تتعلقي يا (أمل) بأمل ما عاد لك فيه غير الوهم والعدم.. ما تفعلينه عبث يكلفك الكثير دون أن تطالي من أمره شيئاً.
– قالت:
– إن كان ذلك هو العبث فقد صرت أحب العبث.. أني واثقة بأنني سأجده وإن طال البحث والترحال والسفر.. لن أترك ذلك ما دام في العمر بقية.
– قال محاولاً إدخال اليأس إليها:
– لن تطاليه، وإن طلتيه ستطولينه رميماُ دون روح أو جسد..
– قالت وقد بدت أكثر تشبثاُ بالأمل:
– الأمل لا يموت.. أسمعت عن بعض الأوفياء الذين قضوا العمر بطوله وعرضه ولم يسأمون من انتظار المهدي المنتظر، وآخرون ينتظرون عودة سيدنا المسيح دون أن يكلوا أو يملوا الانتظار.. وأنا لم أنتظر، بل تراني في بحث وترحال وسفر دائم.. من يعلم لربما بيني وبينة الآن رمية حجر.. إنني أسمع صوته يناديني، ويطلب مني أن نلتقي على سفح الجبل..
– قال ناصحاً ومحذراً، وهو يحاول أن يستعيد وقاره ويظهر بمظهر الشيخ الحكيم:
– لا تتهوري، ومن تهور لقى حتفه.. انظري.. هناك نحروا الشفق ، وهناك قتلوا الألق، وهناك تاهت الحكمة في مدلهم الغسق.. لا تغامري.. لا زلت في مقتبل العمر.. وأنا لا أريد أن يطالك عبث الموت.
– تحامي الجدل بينهما؛ فقالت وقد أدركت ما يبتغي:
– لعل الموت الكاسر أرحم من وحوش البراري.. انت لا تعرف الوفاء.. إن نال مني الموت فذلك يعني أن روحي ستتحرر من جسدي، وستعانق روحه ذات يوم دون موعد في عنان السماء الواسعة ورحاب الفضاء الفسيح.. الحب هناك حر طليق .. لا سجون ولا حدود .. لا حرس ولا خفر ولا عيون .. إن ذلك أفضل.
– قال وقد بدأ صبره ينفد:
– ما تقولينه هراء.. أنا أشتهيك ليس كما يشتهي الذئب طريدته، ولكن كما يشتهي المرء حبيبته.. اشتهائي لا يقاوم، وليس بوسع أحد كسر جماحه غيرك.. أترضين أن تكوني الزوجة الرابعة.. إن رضيت سأكون سعيداً بهذا الاختيار.
– قالت وقد بدأت تضيق صبراً:
– أنت كاذب ومخادع..
– قال وقد تداعى بعض اتزانه، ولعاب الاشتهاء تسيل من فمه كالذئب الذي أوشك أن ينقض على طريدته:
– لا بأس أن تكوني خليلة، فالخليلات كثير، غير أنني سأجعل لك السيادة والوصاية عليهن.. سأجعلك تسوسيهن كما يسوس الراعي القطيع..
– بلغ الغيظ منها مبلغه فقالت:
– ما وجدت لهذا.. نجوم الظهر أقرب لك مما تروم.. اتركني أذهب لحال سبيلي.. فقد أدركت وتيقنت من شر طويتك..
– أدرك الشيخ أن حيلته قد خابت، وصبره قد نفد، واسترضاءه لأمل قد فشل؛ فقال:
– النساء حبائل إبليس ومصائده.. كل القواميس والكتب قد ذمت النساء، ووضعت لهن من المنازل وضيعها.. الله يهب رحمته لأشد الخطاة وأكثرهم شراً وفظاعة إلا المرأة.. إن المرأة قرينة إبليس.
– قالت وقد فاض بها الكيل، وهي تحبس وراء كلماتها كرهاً شديداً:
– الآن فقط أدركت أكثر مدى ما تضمره من شرور وبشاعة..
– هاج غضبه وثارت شهيته كحيوان بري متوحش يريد استباحة الجسد بعد أن فشل أن يستبيح الروح والجسد معاُ، غير أنها تمكنت بعد شجار وحوار وحيلة من الإفلات من قبضته، بعد أن كشفت خبث مقصده وسوء نيته وفساد طويته..
– صفير الريح يقض المضاجع، والذئاب أشداقها فاغرة، وعويلها تزيد الظلمة وحشة، وفحيح الأفاعي تقشعر منها الأبدان.. الأشباح ترصد الأنفاس وتترصد الخطى، وتعتقل نسمات الهواء العليل، وتضمر لأمل الشر والغدر والفجيعة..
– وبينما كانت أمل غاشية بالبحث والتفتيش عن أملها بين حطام الأشياء وركام الرماد، ظهر لها رجل اسمه (حُضير) وسيماً وجذاباً يلبس قميصاً وبنطالاً ورباطة عنق، يدعى الثقافة والتحضر ويبدي في مظهره من الذوق ما يليق..
– بعد مجاملة وملاطفة من معسول القول قالت:
– عندما تتصادم المثل مع المصالح لمن تنتصر؟
– بعد لحظة تريث قال:
– نحن في عصر العولمة، والاهتمام بالمثل أقل بكثير من الاهتمام بالمصالح.
– قالت متوجسة:
– وهل أنت من أنصار المثل أم المصالح؟
– أجاب:
– أحترم المثل بالقدر الذي تسمح به المصلحة.
– وضحت الصورة، وأدركت (أمل) إن الأمل لا زال بعيداً، غير أن ذلك لم ينل من وفائها، ولم يفل عزمها، ولم يثنها عن السفر والترحال والبحث عن حبيبها.. لا تكل ولا تمل، ولا تعد الخطى، ولم تقعدها الحيرة والحزن ثكلى على قارعة الطريق تعد الحصى .. ظل الأمل عند (أمل) هاجساً حياً.. وإن وهنت قواها في الضيق والشدة، فجر الأمل فيها مكامن قوته ومعجزاته..
– ظلت أمل تبحث عن حبيبها في كل الزوايا والأمكنة القريبة والبعيدة إلى أن وجدته على سفح الجبل جريحاً يغالب الموت.. سمع إيقاع قدمي أمل فانتفض كالمارد على الموت.. خفقات قلبهما كانت تضرب كما تضرب الدفوف في ليالي الأفراح والولائم والأعراس.. أفرد يديه وفتح صدره بامتدادات شاسعة كالبحر ليحتضن حبيبته التي غالب الموت من أجلها..
– مشهد قيامي تفجر بالحب والوفاء والحياة.. كل واحد منهم أمطر الآخر بالقبلات والرعشات ليبلغ الحب مداه وذروته في سفح الجبل.. قبلاتهما وأنفاسها ورعشاتهما كانت تصعد إلى عنان السماء وتتكور شموساً تضيء سماء المحبين، وتبدد العتمة وتطارد فلول الأشباح..
– من سفح الجبل انبجست العيون، وساح الماء لامعاً كالنصال تحت أشعة الشمس الطالعة، ينحر الجدب والعطش.. ومطلع الخير يفتح ابواب الفرح الموصدة، والأمل يرتسم عريضاَ على الوجوه المتعبة التي أذبلها الشقاء وأعياها الانتظار..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.