ثورة فبراير 2011 – محاولة هادئة لقراءة اجتماعية ونفسية وسياسية (2-3)
يمنات
جلال محمد الحلالي
القضايا التي سأقترب منها في هذا الجزء هي الأكثر حساسية وخطورة؛ لأني سأتناول بشكل أساسي ومباشر القوى الدينية السياسية التي سيطرت على الثورة وشوهت مقاصدها، وليس شباب الحركة الإسلامية الذين انخرطوا بشكل فعال فيها.
جميعنا سمع هذه الجملة المراوغة مراراً وتكراراً من كل خصوم فبراير والتي تقول:-
“نحن كلنا مع التغيير، فالتغيير مطلب الجميع؛ وهو سنة الله في الأرض؛ لكن بعد أن سرقت القوى السياسية والدينية الفاسدة الثورة من الشباب الطاهر البريء وقادتها في غير وجهتها انتهت الثورة؛ ولو استمرت الثورة بيد الشباب لحافظت على عفتها وطهرها وكنّا أول الثائرين”.
هذه التميمة هي المضغة الأشهى والأسهل هضماً لدى خصوم شباب فبراير؛ يلوكونها في كل مقام، ويأنسون لحجيتها؛ ففيها شفاء للصدور وتخدير للعقول، بما فيها عقول قائليها.
تلك القوى هي القوى الدينية والقبلية والأحزاب السياسية.
لنبدأ بالقوى الدينية!
التهمة الأكثر خطراً على فبراير- من وجهه نظر الشباب الليبرالي – هي سيطرة التيار الديني على الساحات.
حينما صعد الأخ عبدالمجيد الزنداني (رئيس جامعة الإيمان) منصة ساحة التغيير وخاطب الشباب وهو في أبهى حلل العلماء قائلاً بصوته الخفيض “أحرجتمونا”، وبعد أن أنهى كلمته السياسية، تساءل في وقار العالم الجليل عما تكون تلك الأصباغ الملونة بألوان العلم الجمهوري في وجوههم وخدودهم! نصحهم بإزالتها مع الوضوء لتصح صلاتهم. حقاً كان عملاً درامياً ومسرحياً مدهشاً هتف له الشباب بحماس “حيو الزنداني حيوه.” حقاً كانت من أنجح الغزوات لساحة التغيير – غزوة الزنداني.
بعدها أحاطت مواكب الدين السياسي – بتحالفاته القبلية والدينية – بشباب فبراير إحاطة السوار بالمعصم؛ فشعر الشباب والشابات ذات النزعة المدنية العلمانية بأن ثورتهم صُودرت من قبل أصحاب اللحى المنسدلة والفتاوي العنيفة المتحفزة لمنع انحراف الثورة عن حياض الدين.
وفي تلك التطورات كمٌ غير قليلٍ من الحقيقة، لكنها ليست كل الحقيقة.
من الحقائق التاريخية الدامغة لدي أن تيار الدين السياسي – وعلى مستوى كل دول الربيع العربي – حاول أن يفرض منظومته القيمية بمرجعيتها الدينية المذهبية على الملايين في الساحات لتكون له السلطة الروحية – أن لم تكن الحاسمة فلتكن الحاكمة – وهدفه البعيد هو الإحكام على السلطة السياسية.
التجربة التاريخية تثبت بما لا يمكن نقضه أنه:- “عندما يكون الدين السياسي هو مرجع القيم تكون النتيجة هو الاستبداد المقدس تحت رايات مذهبية”. وذلك هو أسوأ أنواع الاستبداد.
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح شديد الآن هو: “هل كان لدى شباب فبراير القدرة على تجاوز هذا القوة المقدسة التي تمتلك أقوى التحالفات العسكرية ممثلة في اللواء “المناضل!” على محسن؛ والقبلية ممثلة في شيوخ القبائل يتقدمهم الشيخ “الثائر!” صادق الأحمر، والدينية ممثلة في خريجي وتلاميذ جامعة الإيمان والمعاهد العلمية؟! إنها المهمة المستحيلة ودونها خرط القتاد .(Mission Impossible)
علما الاجتماع والسياسية بكل مناهجهما التي حاولت دراسة الواقع اليمني لم يستطيعا حتى اللحظة الراهنة أن يقدما أي مقترح؛ ليس لإنهاء تأثير الدين السياسي، بل للتخفيف من تغوله. تلك حقائق اجتماعية تاريخية سياسية محكمة الإغلاق.
بحقيقة سيطرة التيار الديني على الثورة التى لا يساورها شك، يستطيع خصوم فبراير النيل من شبابها وثورتهم دون عناء وبأريحية تامة.
دعونا نتجه إلى الضفة الأخرى من الحقائق التي لا يرغب خصوم فبراير أن يلقوا لها آذاناً مصغية.
أولى هذه الحقائق أن شباب الحركات الدينية تمرد على مرجعياته بشكل لم تتوقعه تلك المرجعيات؛ بل ووجدت الأخيرة نفسها تكابد الضيق من شبابها أكثر مما تكابده من الآتي من الجهة اليسرى.
الشاهد هنا واضح؛ وهو أن شباب الحركة الإسلامية كان متقدماً ؛ بل وفي أحيان غير قليلة، ثائراً على قياداته المقدسة.
ثاني هذه الحقائق: أنّ تيار الدين السياسي واجه مقاومة شرسة من شباب كافة التيارات الأخرى ؛ القومية واليسارية والمستقلة والعلمانية – ولو على استحياء من الأخيرة.
الشاهد هنا بديع: شباب الجامعات المتعلم يدير بسقوف حرية أعلى أهم عملية حوار مجتمعي في أغلب المحافظات – لأول مرة في التاريخ – على أساس المصلحة المشتركة للجميع.
ثالث هذه الحقائق: أن الساحات تحولت إلى منتديات فكرية وسياسية ساهم فيها الجميع، وتمت مناقشة كل شيء، وكسرت الكثير من الحواجز والتابوهات، وتم تجريد التيار الديني من سلاح التكفير والتفسيق إلى درجة غير مسبوقة.
رابع هذه الحقائق: أنّ أساطين التيار الديني وجدو أنفسهم بلا خيارات مقدسة إلا في الحدود الدنيا.
خامس هذه الحقائق: أنّ المرأة في التيار الديني نهضت – وبشكل مفاجئ للجميع – بدور خارج عن كل السياقات الاجتماعية والسياسية، للمشاركة في فبراير بنقابها وبحجابها، بعد جمدت تباعات عقدة النقص التي فرضها عليها المجتمع والتيار.
الشاهد هنا ليس دور المرأة المتعلمة في ثورة فبراير بشكل غير مسبوق في التاريخ فحسب، بل دور المرأة التي خرجت من تحت عباءة التيار الديني. هذا أمر غير مسبوق حدث فقط في فبراير.
سادساً – وهو الأهم :- لا يجوز القول أبداً أن أيه ثورة يجب أن يتقدمها الليبراليون أو اليساريون أو القوميون أو العلمانيون. للأسف تلك قناعات بعضهم لا سيما الليبراليين التي لا تخلو من خفة ومن بقايا حلم استبداد المثقف.
الشاهد أنها ثورة شاركت فيها كل الفئات الاجتماعية بدرجات وأهداف مختلفة، ولم يتصدرها حزبٌ أو فئةٌ أو أيدلوجيا بالرغم من اليد الثقيلة للتيار الديني عليها.
في فبراير انخرط شباب الحركة الإسلامية مع شباب الضفاف الأخرى في حوار قائم على أساس المصلحة وليس على أساس الحق المقدس؛ فساهم الجميع في السياق العام لثورة فبراير، وانقلبوا – إلى حد ما – على مخرجات حوار يوم السقيفة.
يكفي ثورة فبراير أنها جعلت من المادة الدستورية “الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات” وجهة نظرٍ لتيارٍ سياسيٍ، ولم تعد مادة مقدسة. ورغم ورودها في مشروع الدستور الأخير إلا أنها لم تعد تؤسس لسلطة روحية خارج الدستور والقانون.
أختتم هذا الجزء المرهق والحساس من المقال بالقول إن فبراير كانت ثورة جيل كامل بكل أطيافه، خرج من الجامعات – في معظمه – وأبهر الجميع بسلميته وعفويته، لكن نجاح الثورة المضادة حمله كل أوزار ورزيا عقود الفشل الذريع التى سبقت فبراير.
هذا الجيل اليمني الوطني المتعلم الثائر يتبرأ منه الكثيرالآن لأنه أزعج سكينتهم حينما انتفض مطالباً بحريته وكرامته وكرامة الجميع.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.