فضاء حر

الانترنت في متراجحة التضاد مع السلطة!

يمنات

خديجة سعد

دائمًا حين لا تثق السلطة من نزاهتها، تظلُّ مسكونة بقلق مَرَضيّ حاد، يصبح الأمر أشبه بفوبيا التضاد من أي وجهة نظر مناقضة لمفاهيمها وسلوكها السياسي أو الإداري، وهو بالضبط ما ينطبق حرفيًا على الواقع الذي نحاول بكل يأس أن نتصالح معه بقليل من الحكمة وكثيرٍ من الصبر.

في فضاءٍ كهذا، يقف وزير الاتصالات في حكومة صنعاء واثقًا يتقيأ هلوساتٍ بالية ظنّها منطقًا يكيل له تبريرات عسيرة البلع وهو يلوِّح بتقييد خدمة الانترنت في البلاد، ساردًا حيثياته فيما يشبه الموعظة الفجة عن سلبيات الانترنت. ويحض على “ترشيد” استخدامه، في الوقت الذي يدر هذا القطاع على الوزير وعلى حكومته إيرادات مليونية كل يوم.

ما حدث كان نموذجًا صارخًا على الفجوة الهائلة التي تفصلنا عن العالم في عصر الفضاء الحر. عصر الروبوت والمجتمع الخدمي، بينما نتأخر سنينًا ضوئية في مجاهل القرون، وكأننا خرجنا للتو من أحد الأسفار المقدسة القديمة.

كأن الرجل أراد أن يعيدنا إلى عصر الحمام الزاجل.. عصر ما قبل اختراع الآلة، يا لها من كارثة ويا لها من مفارقة أن يحدث مثل هذا في نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وهي الفترة نفسها التي أصبحت دول العالم الأول تسابق الزمن في امتلاك تقنية الـ 5G والـ 6G، وما دونها من التقنيات الحديثة.

الحديث عن حرمان اليمنيين من الانترنت من وجهة نظر شخصية في هذا التوقيت بالذات لا يبدو محض ارتجالٍ انفعالي قاله الوزير من قبيل الاجتهاد ووجهة النظر، بقدر ما هو تجسيد لتوجه عام يختمر لدى النخبة السياسية التي تساورها الرغبة في جعل الجماهير أليفةً أكثر، وبلا مخالب، عن طريق الحيلولة بينها وبين استخدام الانترنت الذي طالما كان النافذة المواربة أمام الشعب لبث معاناته وبعثرة كبته في الشبكة العنكبوتية ليتخفف من واقعه الثقيل والمزري.

حين أغلقت السلطة كل منافذ التعبير عن الرأي، بقي الانترنت هامشا رحبًا يبوح فيه الناس بقضاياهم وهمومهم، رغم حملات الـ “Brain Wash” المعمول بها في بدءًا من وسائل الإعلام المرئي والمقروء والمسموع مرورًا بأفواه الوعاظ ومنابر القداسة، وصولاً إلى مكبرات الصوت في جولات المرور والميادين العامة، امعانًا في تطبيق نظرية التأثير التراكمي في هندسة الرأي العام وعسكرته لخدمة فكرة معينة يجري تكريسها، أو على الأقل تقبُّلها واستساغتها دون تحفظ.

في هذه الدوامة المتداخلة من صناعة التأثير، ظلَّ الانترنت في اليمن الحلقة المفقودة الأخيرة في سلسلة تشكيل الوعي بمقاس “الأخ الأكبر” بتعبير “جورج أورويل” الذي تمثله السلطة. مع أننا في الحقيقة نعيش أزمة كفاءة الانترنت تضاف إلى قائمة الأزمات الطويلة التي تكتنف حياتنا في كل شيء، وكأنه لا يكفي أننا أصبحنا رهن واقعٍ يفرض عليك الولوج في دوامة بيروقراطية ليس آخرها “عاقل الحارة” إن فكرت في الحصول على أدنى حقوقك.

ليس غريبًا أن تكون السلطة الأوتوقراطية ناقمةً على الانترنت وعلى كل ما يجعل الناس على اتصالٍ ببعضهم، خصوصا أن المواقع التفاعلية استطاعت تخطي محاذير “حارس البوابة”، وأصبح بإمكان المرء أن يفشي مكنون نفسه وإنْ بدرجات تتفاوت ويخاطب جمهورًا عريضًا من الناس، ويجهر بمثالب السلطة فتصبح أكثر انكشافًا وعريًّا.

المجتمعات المغلقة على ذاتها لا يمكن أن تكون خلاّقة ولا منتجة. ليس في وسع العقل أن يبتكر وأن يبدع وهو مغتصب ومجبر على التعايش مع حدود تطوِّق آفاقه وتصادر فطرته في التحليق.

دائما لا يخلق الكبت إلا انفجارًا، هكذا جرت العادة، وهذا ما سيحصل بالضبط إن وضع الرقيب يده على جمر الشعب، الذي ربما اعتقد في لحظة زهو أنه مسالم يمتثل طواعية لرغبة الرقيب، فما لبث أن تململ على موقظه وكان غصّه في لهاته. ذلك أن الأمر ببساطة شديدة أن شد الخناق على عنق الملايين لن يفضي إلا إلى مزيد من الحنق والسخط تجاه سلوك السلطة. عسير على المرء أن يتخيل واقعًا كالذي أصبحنا ننزلق نحوه.. لقد تأخرنا كثيرًا أيها العالم!!

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى