“أدونيس” نموذجاً
يمنات
د. صادق القاضي
المثقف العربي بين مخالب الأنظمة وأنياب الجماعات الدينية!
عندما نتحدث عن “أدونيس” نتحدث عن عبقرية عربية فذة معاصرة، متعددة المواهب، بالغة الشهرة والتأثير، اقترنت بـ”الحداثة”: كرؤيةٍ مناقضةٍ للقدامة على مختلف الجوانب، وموقفٍ مناهضٍ للوصاية على جميع المستويات.
مبدئياً، هذا يجعل الرجل خصماً لأطراف شمولية كثيرة، متناقضة ومتشابهة، وتمثل أجزاءً متكاملة في منظومة القدامة والوصاية التقليدية الأدبية والفكرية والاجتماعية والثقافية والسياسية.. السائدة في الوطن العربي.
وبشكلٍ عملي، تعرض أدونيس لكثير من الأذى منها جميعاً، باعتبارات مختلفة، فباعتباره معارضاً سياسياً مخضرماً، تعرض للقمع مراراً من قبل النظام، حتى إنه سُجن مرة مع مجموعة من المجانين في زنزانة صغيرة، وألهمته تلك التجربة إحدى أجمل مسرحياته الشعرية.
نتحدث هنا عن “مهيار الدمشقي”، وهو الاسم المستعار الأول الذي اتخذه الشاعر “علي أحمد سعيد” لنفسه، وعنون به بعض أعماله، وتكرر كثيراً في شعره كرمز للإنسان المعارض الثائر السلمي الحالم بالحرية، في مواجهة “تيمور” الذي رمز به للطاغية والديكتاتور في كل زمان ومكان.
لكن كل ذلك لم يشفع له عند خصوم “تيمور”، من الجماعات الدينية المسيّسة التي أعلنت على مهيار الحرب، لأسباب تخصها، منذ وقت مبكر، سابق بعقود لما سمي بالربيع العربي والثورة السورية.
من أول حرف إلى آخر نقطة في شعر ونثر وكتابة أدونيس.. هناك انحيازٌ مطلق لقيم الحرية والحق والحب والعدل والجمال.. وانزياحٌ مطلق عن ظواهر ومظاهر الاستبداد والقهر والجهل والتجهيل والاستلاب..
لا تحتاج مثل هذه الجماعات إلى ذكاء لإدراك أن مثل هذه الظاهرة تهددها وجودياً، فخاصمت أدونيس بهذا الاعتبار، وبطبيعة الحال فإن خصومة المعارض الرجعي لا يمكن إلا أن تكون بالغة الانحطاط، وأكثر خسة وإهانة للعقل والحياة من خصومة الحاكم التقدمي.
تم ذلك بأشكال متتابعة ومتداخلة:
أولاً: محاولة شيطنة أدونيس دينياً، بدوافع ليست لوجه الله أبداً، وإلا فالرجل مسلم صوفي حافظ للقرآن، وبكتابه “النص القرآني وآفاق الكتابة” وكتب ومقالات كثيرة أخرى.. مجّد القرآن، وخدم الإسلام والتراث الإسلامي أكثر من جماعات الإسلام السياسي كلها، هذا إذا كانت هذه الجماعات قد خدمت الإسلام بشيء.
ثانياً: محاولة شيطنته سياسياً. على الأقل منذ بداية الثورة السورية، بسبب اتخاذه كالأغلبية الساحقة من شعراء وأدباء ومفكري وفناني ومثقفي.. سوريا، موقف الرفض لهذه الاندفاعات الدينية الشعبوية الهائجة المسلحة.
هذا لا يعني أن “مهيار” بات في صف “تيمور”. لم يحدث ذلك مطلقاً، لا لأدونيس ولا لغيره، لكن وفق قاعدة “من ليس معنا فهو ضدنا، ومع خصومنا”، وهي قاعدة “إخوانية” بامتياز، اتهمه “الإخوان” بالطائفية، والانحياز للنظام.!
هذه التهمة وُجهت لصفوة النخب الأدبية والفنية والفكرية والعلمية والثقافية.. في الوطن العربي خلال الربيع العربي. هذه النخب رفضت أن تقف مع الأنظمة العلمانية التقدمية الحاكمة، لأنها مستبدة، وهؤلاء يريدون منها أن تقف مع تنظيمات دينية جهادية شمولية رجعية، لأنها -حسب قولهم- ثورية.!
قال أدونيس إنه لن يقف مع “ثورة تخرج من المساجد”، أي أنه لن يقف مع “راسبوتين” الذي هو أسوأ في كل حال من “القيصر”، وهذا هو موقفه المبدئي الثابت الذي أعلنه من أول ديوان شعري صدر له.
ثالثاً: محاولة النيل من قيمته وقامته الإبداعية: لا يعدو الأمر مشاغبات صبيانية سخيفة، تتم بتعميمات سياسية لأشخاص غالبيتهم لم تقرأ خاصةً لأدونيس، مع بعض نقاد مؤدلجين، للتقليل من أهمية أدونيس الأدبية، والانتقاص من شاعريته، والتعامل معها بمعايير دينية سياسية إيديولوجية.. لا تمت بصلة للموضوعية والمهنية النقدية.
الأصل في التقييم النقدي تقييم الشاعر من خلال النص، لا تقييم النص من خلال الشاعر، فالنص كائن مستقل بذاته، يستمد قيمته الفنية من حيثياته الداخلية، ومن السماجة بمكان تقييمه بناءً على معايير من خارجه، خاصةً تلك التي تتعلق بخصوصيات المؤلف الشخصية.
كان أجدادنا أكثر نضجاً فيما يتعلق بهذه النقطة، من خلال النأي بالنفس وبالنقد عن أي معايير لا تنتمي للفن والإبداع. وكانت درجة الشاعر ومكانته الإبداعية تتحدد بناء على نصوصه بغض النظر عن أي اعتبارات خارجية دينية أو طائفية أو سياسية أو اجتماعية.. أو شخصية من أي نوع.
كان أبو عمرو ابن العلاء، وهو من القراء السبعة للقرآن، لا يقدم على شعراء الجاهلية “الوثنية” أحداً، وأجمع نقاد التراث العربي على أن بشار بن برد، رغم مجوسيته، رائد الحداثة الشعرية العربية القديمة، ولا شك أن مكانة أدونيس لا تقل عن مكانة بشار، في الشعرية العربية المعاصرة.