العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. كم أنت عظيما يا أبي

يمنات

احمد سيف حاشد

– بعد انقطاع طال بين أبي و مهنته السابقة، عاد أبي مرة أخرى إليها مضطرا، بعد أن ألجأته إليها مسيس الحاجة و العوز، و بعد أن نفذ ما يملك و يدخر من مال، و بعد تشرد طاله لسنوات، على إثر مقتل أخي علي سيف حاشد في القرية، و مُلاحقة والدي من قبل سلطة صنعاء في ذلك الحين، و التي كانت تسعى لاعتقاله دون أن يقترف أي جريمة أو ذنب غير حمله لحزن ثقيل أناخ على كاهله بمقتل ولده علي.

– استمر أبي بهذا العمل للمرة الثانية “دباغة و تفنيد الجلود” قرابة السنتين أو أكثر، في حي “الخساف” بـ”كريتر” في ثمانينات القرن المنصرم، لدى صديقه الودود محمد عبد الحميد، رغم استمرار معاناة والدي من نوبات السعال الليلي، الناتجة عن عمله السابق بنفس المهنة في شركة “البس”..

– كان عمل أبي في دباغة و تفنيد الجلود هذه المرة مضطرا أكثر من المرة السابقة، و آثر والدي العمل في هذه المهنة التي يجيدها، أو كانت متأتية له للعمل بها، رغم أثرها على مستوى صحته، أو بالأحرى على ما بقي لديه من صحة .. و بين العمل في بداية العمر و غاربة عمر مديد و عمل كديد، و صحة تذوي، و لكنها تقاوم بعناد و صبر لا ينفذ إلا بطلوع الروح.. 

– هكذا هم الفقراء يؤثرون العمل على الصحة، مهما كان خطرا عليها أو مهددا لها .. أنهم يؤثرون العمل على ما عداه، و إن كان فيه تراجع أو تلاشي أكبر أو محتمل للصحة .. يموتون و هم يعملون بمثابرة دون أن يكلّون أو يملّون، و ذلك من أجل أن يعيلوا أسرهم بالرزق الحلال المندّى بعرق الجبين، و لو بما يفي بالحد الأدنى من كرامتهم، و كرامة أسرهم المحرومة من الكثير، و دون أن يخطر لهم بال، أو هاجس شيطان عابر، أو شيطان يجوس في الحمى، ليمارس النهب أو القتل، أو جلب “الفيد” و الغنيمة من تحت ظلال السيوف، أو يجني المال الوفير من مصدر مشبوه، أو عمل غير مشروع .. إنني أعترف لأباءنا .. لقد كانوا كبارا بحق و جدارة..

– عرفت أبي خلال مسيرة حياته أنه يقدس العمل، و يقدس مواعيده بدقة حد القلق، و يعمل بمثابرة دون تواني أو كسل، و يبذل جل اهتمامه و عنايته في العمل، ويسعى بمثابرة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإنجاز.. وينام مُرهقا ولكنه مستريح الضمير، ويقوم باكرا من فراشة، وبنشاط متجدد، ويقضه وجذوة، تستمر معه طوال ساعات العمل..

– في صنعاء خلال سنوات الحرب كتبت منشورا على صفحتي في “الفيسبوك” معتزا بمهنة والدي المتواضعة، و لأول مرة عرفت من صديقي و رفيقي القاضي عبد الوهاب قطران أن مهنة دباغة الجلود لدى بعض مناطق و قبائل الشمال مهنة محتقرة، و يعتبروا أصحابها ناقصين أصل، مثلهم مثل المزاينة و الحلاقين و الجزارين، و من في مستواهم، أو دونهم .. فيما بدا لي الأمر، أن دبّاغي الجلود قد تم إلحاقهم بالجزارين أو هم دونهم درجة في نظرة جل من يتعاطى مع هذه التراتبية الاجتماعية أو العنصرية الفجة وعيا و ممارسة..

– و عرفت شيئا آخر أثناء حديثي مع زميلي ورفيقي في الكلية العسكرية “حسين” من الجوف، والذي ألتقيت به خلال فترة هذه الحرب الظالمة، و عرفت منه أن البيع و الشراء إلى تاريخ غير بعيد، كانت لدى بعض قبائل الجوف معيبة على من يمتهنها، و إنها من وجهة نظر هؤلاء مهنة غير مرغوبة، و غير محترمة، و يلحق العيب بمن يمارسها..

– هكذا يتم قلب المفاهيم و القيم رأسا على عقب، أو أن منتجي تلك القيم هم المقلوبين على رؤوسهم، و بالتالي ينتجون مفاهيما و قيما خاطئة، و بعضها مقلوبة كوضعهم المقلوب، معتقدين سويتها و استقامتها، ليتحول في نظرهم من يمارس العمل الشريف، و من يأكل من عرق الجبين، مقذوفا بالعيب، و لعنات تلاحقهم كقدر لا مفر منه، هم و بنيهم و من تناسل منهم .. تدركهم اللعنة لتدمغهم بالعيب و الانتقاص و الاحتقار و الازدراء العنصري الناتج في حقيقته عن خواء عميق في الوعي، و بداوة بدائية غارقة بالقدم، و تفكير زائف، و منطق سطحي متخلف، أو غارق بالتخلف..

– بيد أن الأهم الذي وجدته أكثر أسى، و أثار فيني كثير من الحزن العميق، و يحكي مفارقة مؤلمة، هو أنني علمتُ أن صديق بمستوى عالي جدا من العلم و الثقافة و الخُلق و التربية في العاصمة صنعاء، تقدم شاب لخطبة ابنته عبر وسيط، و طلب هذا الصديق من الوسيط التأكد من انتمائه و أصله، و التحري عمّا إذا كان لا ينتمي إلى فئة المزاينة أو من في حكمهم، و ذلك لتحديد الموافقة المبدئية على زواج ابنته من عدمه، رغم ما لدى هذا الشاب من دماثة الخلق، و مستوى تعليمي و مهني يليق..

– راعني ما سمعت .. و لكن لم يقلل هذا بحال من اعتزازي الكبير بعمل والدي، و بكل المهن الذي مارسها طيلة حياته .. و لم انتقص أنا يوما من إنسانية أي فئة اجتماعية، و أمقت التصنيف العنصري، و تراتبية الأصول التي تؤدي لحصر الأصول الناقصة و احتقارها، و أزدري الاصطفاء، و أرفض التفكير النمطي التقليدي القائم على تراتبية فيها احتقار الإنسان لأخيه الإنسان..

– زدت اعتزازا بمهنة والدي، و نظرت لها ببعد آخر غير البعد الذي ينظر إليها بعض من يعانوا عقد النقص و خلل في الدماغ، أو تلف في مراكز الوعي، و تشوّه في التربية، و التنشئة الخاطئة .. و في واقع مثل هذا، تخليت نفسي مثل شجرة السدر أو نبتة الصبار، أو شجرة التين الشوكي النابتة في قلب الصخر، أو في صفاء الجبل الأمرد، و قد تحدت كل الظروف الطاردة للحياة، و عاشت رغم أنف و قسوة الظروف، و شمخت متحدية و باسقة، بل و زادت تزهر و تثمر، في أعز الفصول ضيقا، و كأن وجودها المعاند، فيه حكمة و مقاومة لوجع الطبيعة، و تحدى ظروفها القاتلة، و تشمخ برأسها علوا، و تزهر أطرافها باللون الزهي، و تعطي النحل و الناس رحيق العسل، و كلما فيه علاجا و شفاء و طعم ألذ..

– أعتز أنني ابن هذا الأب المكافح، الذي أنتمي إليه، و صار ولده نائبا للشعب، و يمثله بما يليق به، و قد حرصت و أنا أختار أن أكون لا منتمي، أو أكون نائبا برلمانيا مستقلا بحق و حقيقة .. صاحب رأي و موقف حر و مستقل، و أن يكون “الشريم شعاري” و أن يتكثف وعدي الانتخابي المقرون بصورتي بعبارة “انتخبوا من يمثلكم لا من يمثل بكم”..

– أغلب الظن أو كما أتخيل نفسي أنني لازلت حريصا و وفيا لهذا الشعب المنكوب بمن قادوه و تسلطوا عليه من أعالي القوم و أشرافه .. لازلت وفيا للعهد و الوعد الذي قطعته يوما للوطن، و قد خان أسياد القوم شعبهم، و سقطت المنازل الرفيعة في القيعان السحيقة، و سيكنس التاريخ يوما أصحاب المراتب العالية إلى مزابله المنتنة، و كل من جلبوا لهذا الشعب الكوارث العظام، و مارسوا بحقه الخيانات الكبار بتمادي بالغ، و مجاهرة فجة و صارخة، و أتوا بالعار الذي لا يُمحى و لا يزول إلى اليمن..

–  و للخلاصة أنا أمقت التفكير النمطي، في التراتبيات الاجتماعية المتخلفة، أو القائمة على الأصل، أو الحسب و النسب، أو التفكير العنصري بكل مسمياته، و أرفض العصبيات المنتنة، و ضخ الكراهية التي تستهدف الوطن في عمقه و وحدته و مستقبله..

و في مسك الختام هنا لا بأس أن أقول وفاء: “كم أنت عظيما يا أبي”

***

يتبع

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى