العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. فاتحة وصلاة وسفينة

يمنات

أحمد سيف حاشد

أريد “سفينة النجاة” .. سفينة الرب إلى ما يريد و يرضى و يطيب .. أريد أن أصلي .. أريد أن أدخل الجنة و أخلد فيها إلى الأبد .. لا حزن هناك و لا موت .. و لا جوع فيها و لا عوز .. أريد الجنة و ما فيها من تعويض لحرمان، ضاق معه العيش، و أشتد فيه النكد .. أريد الجنة بما فيها من حياة أبدية لا مثيل لها و لا نظير .. كنت اطيل استفسار أمي، و هي تحكي عن الجنة و تطيل، و تشرح ما يجذب ويغري و يفيض..

أريد “سفينة النجاة” التي تعلّمني الوضوء و الصلاة، برسوم إيضاحية أخاذة و آسرة .. “سفينة النجاة” كُتيّب لطالما انتظرته طويلا، و تشوقت له كثيرا، و مرت سلسلة من الوعود دون أن يتم الوفاء بواحد منها .. كان النسيان هو من يؤخر إنفاذ تلك الوعود، و يُرجئها من شهر إلى آخر، و بعد انتظار طال، و وعود كثيرة خابت، أوفى والدي بآخر وعد، و بديت يومها كأنني ملكت الكون كله..

عندما ناولني أبي “سفينة النجاة” كانت دهشتي أكبر من عالمي، و كانت سعادتي أكبر من سعادة ألف مصلّي .. سعادة تتسع لكل صلاة، و تغيث ألف ملهوف، و تنجي كل تائب..

كان قلبي عامر بالفرح .. يرقص و يغني و يطير كفراشة .. و أنا أعيش الدهشة بكل المعاني، و أردد محفوظاتي الطرية:

“أنا طفل بطل شاطر و كل الناس يحبوني

أصلي الصبح بالباكر و أدعو الله يهديني”

و لكن قُتل الفرح في ذروته، و تلاشت السعادة، و أنكمش المدى، و قطعوا الوصل كما يقطع الأحمق شريانه، و تبدل الحال إلى تعاسة وجود، و ضرب لا زلت أسمع طنينه إلى اليوم..

“علموهم على سبع و اضربوهم على عشر” هذا الحديث الذي لا أدري ما مدى صحته و موثوقيته، أشقاني، و نال مني الكثير، حتى أنني و قد قاربت الستين، لم أحسن ما ضُربت لأجله؛ الشيء الوحيد الذي تعلمته جيدا أنني صرت أتعاطف كثيرا مع الحمير..

خضت معركة ضروسة من أجل حفظ سورة الفاتحة .. ضُربت من أجلها حتى نشج القلب .. كنت ألحن فيها حتى تدخلت يد أبي و حذائه، فطيّر عقلي و طار صوابه، و وجدت نفسي عجولاً في القراءة كطريدة تجري بعدها الضباع و السباع .. تهدج صوتي، و أضطرب تفكيري كبحر و عاصفة .. أتشتت روحي كنثار رمل في الريح، و تطايرتُ كشرر نار الحديد تحت مطرقة الحداد..

أنساني التشكيل و الضبط و الوقفات، و انهمرت دموعي بغزارة دون مواسم، و تتساقط بعض الكلمات من فمي، فألمّ بعضها و يتساقط أخرى أكثر منها .. و مع الصفع أشعر أن أسناني هي الأخرى تتساقط مع كلماتي، و لم يعد بمقدوري أن أجمع أو أرفع ما سقط..

يجتاحني اعصار من الارتباك بسبب الضرب و الصفع، فيتلاشى لدي التمييز، و تتداخل الألوان ببعضها، و أرى الأسطر تصطك ببعضها كأسنان تمساح، فأبدو أمام نفسي لا أفقه و لا أفهم ما أقول، و كأنني صرت أعجما يعيش لحظة انهيار نفسي مهول، لا يعرف، و لا يعرف سامعه ماذا أقول..

و يرتفع ضغط أبي، و أنضغط تحته كقرطاس، و لم يبق ما تفهمه، غير بركضة لساني المحشورة تحتظر في فمي الممتلئ و المكتظ بها، و قد سدت منافسي و مجاري تنفسي، فيما الضرب لا ينقطع طوال رحلة الجحيم، في روحي المهشمة و أجنحتي المتكسرة..

أيقنت أن حفظي لسورة الفاتحة بات معقّدا، بل أكثر من مستحيل، و إن ظللت ألتّها و أفتّها إلى يوم القيامة .. اعتقدت أن صلاتي لن يقبلها ربي مني طالما لم يقبلها أبي، بسبب لحني و أخطائي في قراءتها، و بديت أمام نفسي أنني لن أنجو منها حتى بمعجزة، أو هكذا فهمتُ من والدي، الذي تلقى بعض تعاليم الإسلام و حفظ القرآن و الحديث على يد البيحاني في “كريتر” عدن.

أخي الأكبر علي سيف حاشد سبق أن خاض هو الآخر معركة أيضا مع أبي و الصلاة، حالما كانا معا في عدن، و تعدّى تمرد أخي على الصلاة و على أبي، حتى طال مؤذن المسجد القريب الذي رمى في فمه ما يسده اثناء ما كان يفتح فاه و هو يؤذن..

ثم ترك أخي عدن، و ولّى هاربا من أبي و من الصلاة و من المؤذن إلى صنعاء، و كان يومها لازال عمره دون الخامسة عشرة سنة، و عندما أراد الالتحاق بالكلية الحربية فور وصوله صنعاء في العام 1963على الأرجح .. سأله الضابط المصري عن عمره، فأجابه 15 سنة؛ فقال له الضابط المصري: إن أحد شروط الانتساب للكلية أن يكون المتقدم لا يقل عمره عن 16 سنة .. فرد عليه أخي: “سجل 16 سنة” .. فقهقه الضابط المصري، و سجل أن عمر أخي 16 عام..

غير أن الأهم أن أخي فيما يخص الصلاة، قد تعدّى تمرده عليها إلى ما هو أكثر من مقاطعتها، كما تعدت ثورته مسلمات أبي من ألفها إلى ياءها..

فيما قصتي مع “سفينة النجاة” يشابه ما حدث لسفينة “تيتانيك” .. لقد كان لتيتانيك أعلى حماية و أمان و معايير السلامة، و سفينتي كان فيها ما هو أوثق و أعظم، و الرب خير حامي و حارس..

“سفينة النجاة”، وجدتها، و لكنني لم أجد فيها النجاة، بل وجدت خيبتي التي تبتلع المحيط .. و سفينة “تيتانيك” التي ساد الاعتقاد يومها إنها ضد الغرق، غرقت في قاع المحيط..

“تيتانيك” بعد أربع أيام من إبحارها الأول اصطدمت بجبل من جليد، فغرقت في القاع السحيق للمحيط ، فيما أنا صفعة من كف والدي، كانت كافية أن تغرقني أنا و سفينتي إلى قاع الجحيم..

فيما خالتي “سعيدة” أم علي، كانت حريصة على أداء فرائض الصلاة، و لمّا سألها فضولي في آخر عمرها عن قراءتها “الفاتحة” أثناء الصلاة، أتضح لي أنها لا تقرأ سورة الفاتحة، و لا غيرها من سور و آيات القرآن، و تكتفي بذكر الله طول صلاتها، مع قراءة التشهد..

خالتي “سعيدة” كانت تقيّة و صالحة العمل و المعاملة، و قلبها عامر بالإيمان، و تعرف ربنا على نحو لا يعرفه كثير ممن يصلون، و هم يسرقون و يفسدون و ينهبون، و يقتلون الأوطان و معها النفس المحرمة، دون أدنى اكتراث أو تأنيب من ضمير..

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى