ارشيف الذاكرة .. مدرسة أعزتنا من الجهل
يمنات
أحمد سيف حاشد
عندما انتهيتُ من المرحلة الدراسية الابتدائية كان لابد أن التحق بالمدرسة الاعدادية .. لا توجد مدرسة اعدادية في منطقتنا النائية الواقعة في أقصى الأطراف الجنوبية، و التي كانت تسمي نفسها دولة و كنّا نسميها السلطة في الشمال..
كانت منطقتنا و قريتنا بعيدة و محرومة من أبسط الخدمات .. لا مواصلات و لا اتصالات و لا صحة و لا رعاية اجتماعية و لا نجد أدنى اهتمام من قبل تلك السلطة .. لا نجد لها أثرا في حياتنا إلا بما يزيد من وطأة المعاناة التي تثقل كواهل أهلنا مثل (التنافيذ) و الملاحقات الأمنية و الجبايات الزكوية..
خدمات الدولة نحونا لا نلمسها و لا نحس بها، و هي بمثابة صفرا كبيرا بحجم غياب وطن .. حتى التعليم و بناء الفصول الدراسية الابتدائية كانت تقع نفقات بناءها على كاهل آباءنا .. حتى المطر إن عز علينا، كان آباءنا يفرقون لنشتريه من “صراف المطر” .. كانت الدولة في حقيقتها مجرد سلطة ليس عليها واجبا لنا، و لها علينا كل الحقوق و الواجبات .. كان الجهل يعترش حالنا و يتسيد العقول، و كنّا نحاول انتزاع ما أمكن انتزاعه من المستحيل .. كنّا نحاول أن نشق لنا طريقا للنور وسط ذلك الظلام الكثيف..
لم يكن لنا مناص من جور جهل محتوم، إلا دولة الجنوب حيث كانت توجد مدرسة إعدادية في مركز طور الباحة الذي كنا نرتاد سوقه يوم السبت من كل أسبوع إن دعت الحاجة .. و تبعد هذه المدرسة عن قريتنا مسافة تزيد عن العشرين كيلو متر، و لحسن حظنا أنه كان يوجد قسما داخليا ملحقا بالمدرسة، يُوفر فيه لأمثالنا المسكن و الغذاء.
كانت (مدرسة الشهيد نجيب) الإعدادية في طور الباحة هي عاصمنا من جهل, و كان كثير من طلاب المناطق المجاورة في الشمال و المهددين بالجهل و الضياع أو انقطاع الدراسة يجدون في هذه المدرسة مُنقذا و ملاذا من جهل مُحقق..
كانت مدرسة كبيرة مقارنة مع ما مررنا به و ما عرفناه حينها من مدارس، فضلا عن كونها نظيفة و مرتّبة و مدرسيها أكفَاء .. غمرتني السعادة و أنا أجد حجرات دراسية فسيحة، و طريقة هندسية في البناء حديثة و زاهية، و نوافذها من زجاج، و كراسي تليق بمن هم أرفع منّا مقاما و مستوى .. اجمالا لم أعهد مدرسة مثلها من قبل، و كان قسمها الداخلي جديدا أو حديث بناء..
غمرتنا السعادة و نحن نستلم في أول يوم من التحاقنا بهذه المدرسة أغطية و مفارش جديدة و أدوات أكل نظيفة .. كل شيء مجانا و دون نقائص أو معايب غير أن التغذية فقط لم تكن تكفينا أو أن شهيتنا للأكل كانت أكثر مما يقدم لنا، و إجمالا كان سوء التغذية يلازمني خلال فترة دراستي الإعدادية في هذه المدرسة التي أعزتنا من جهل أكيد..
كانت الحمى كثيرا ما تداهمني و تجتاحني، و كنت أستلذ الشمس كلما اعترتني عروة الحمى .. كان فقر الدم و سوء التغذية ملازمين لي، و ثقيلين على صحتي .. و كنت أعاني أحيانا من الفاقة و العوز، و كانت أمي أكثر من تساعدني في تجاوز هذه المرحلة..
كان مسموحا لمن أراد منّا أن يغادر ظهر الخميس و يقضي إجازة الجمعة بين أهله، على أن يعود للمدرسة صباح السبت .. كانت السيارات تقلني إلى (رأس وادي شعب) و بعدها أكمل العودة إلى القرية مشياً على الأقدام و مثله الذهاب..
أحيانا كنت امشي سيرا على الأقدام من البيت حتى (طور الباحة) لأستفيد من مصروف المواصلات التي كان يعطيها لي والدي، و أحيانا أفعلها أيضا عند الإياب .. و عند المشي كنا نبحث عن الطرق المختصرة مثل “طريق نفاخة” و أحيانا نتسلق السيارات في واسط الطريق مجاناً، نطلق عليها (تعبيرة)، في إشارة إلى نقلنا بدون مقابل..
يا لنبل و روعة مالكي السيارات الذين كانوا يقدِرون ظروفنا، و لا يأخذون منا أجراً مقابل نقلنا..!! يا لنبل أبو شنب صاحب السيارة “المكرضح”، الإنسان الذي كان أكثر من يغرقنا بالمعروف و الجميل الباقي إلى اليوم .. يا لجمال روح راجح الإنسان الفقير الذي ينبجس بغناء النفس، و يتدفق جمالا و إنسانية و عطاء .. يا لجمال عبد النور و صالح سعيد و غيرهم ممن تعلمت منهم أهمية أن يصنع المرء الجميل في حياته مع من يحتاجون إليه .. جميعهم رحلوا و لم ترحل عنّا معانيهم الإنسانية السامية..
***
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.