العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. الالتحاق بالكلية العسكرية

يمنات

أحمد سيف حاشد

لأول مرة يظهر اسمي في لائحة الشرف على بوابة الكلية العسكرية بعد أن أحرزت المركز الأول في الدفعة .. لأول مرة استلم جائزة من رئيس يمني .. المرة الأولى التي أسافر فيها إلى خارج اليمن .. المرة الأولى التي أركب فيها طائرة .. لأول مرة أشاهد العالم من علو مرتفع .. أول مرة أعرف “المترو” و التنقل في أنفاق طويلة تحت الأرض في عاصمة عظيمة .. لأول مرة أشاهد رجال يقبّلون حبيباتهم و زوجاتهم في أمكنة عامة .. لأول مرة أدخل “سيرك” .. لأول مرة أشاهد بأم عيني حضارة أخرى، و عالم مختلف عمّا أعتدته و ألفته..

اختيار وعيب وفحص

ما أن أتممت الثانوية العامة عام 1981حتى كان عليّ أن أحسن اختيار الجواب على سؤال: ماذا بعد..؟؟! كنت أشــعر أن الجواب مهم، و عليّ أن أجيد الاختيار؛ لأن مستقبلي سيكون محكوما به .. كنت أشعر إن الإجــابة تحتاج لبعض من التريث و الاستغراق .. شعرت في بعض الأحايين حيال ذلك بالحيرة و الأرق .. وجدت أنني على مفترق طرق، و أنني سأدفع ثمن أي خطأ في الاختيار، و ربما ترافقني الخيبة ما بقي من العمر إن لم أحسن الاختيار أو يسيء تقديري فيه .. و قد داهمتني في حياتي الماضية خيبات عديدة جعلتني أردد قول الشاعر:

”مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ … تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ”.

تمنيت أن أحصل على منحة دراسية بعد الثانوية العامة في الخارج شأني شأن عدد غير قليل من أقراني، و من هم دون مستواي؛ حيث كانت محصلة نتيجتي في الثانوية العامة جيد جداً .. كنت أريد أن أحصل على منحة دراسة في الإعلام أو الآداب أو العلاقات الدولية أو العلوم السياسية أو الفلسفة أو علم الاجتماع أو نحو ذلك .. لكن على ما يبدو كنت عاثر الحظ، و قليل الحيلة، و لم أتلقِ دعم من أي جهة أو شخصية حتى في حدود ما يسمح لي بالوصول إلى المنافسة التي تتيح لي فرصة السباق و المفاضلة للفوز بمنحة دراسية..

و بعد هذا الإخفاق لا بأس الآن .. سألتحق بالكلية العسكرية .. كان هذا الاختيار يعني أنني سأختصر الطريق .. اختصار من عمر لا أريد أن أبدد منه سنتين في الخدمة العسكرية، و فيما بعدها ينتظرني المجهول، لماذا لا ألتحق بالكلية العسكرية الآن طالما يمكنني الالتحاق بها، و أتقاضى منها راتبا، و أتخرج منها برتبة ملازم ثاني..؟! هكذا فكرت أو دارت الأفكار في خلدي على ذلك النحو..

بدا لي هذا الاختيار متاحا و ممكنا، لا سيما أنه يختصر مشوار السنتين التي يقف المجهول عند نهايتها، و دون أن تضيفا شيئا إلى مستقبل انشده .. فيما سأجد في الكلية معارف عسكرية أهم و أكثر، ربما احتاجها في نضالي القادم في الشمال..

كما أن أخي علي سيف حاشد كان هو الآخر خريجاً من الكلية الحربية بصنعاء في مطلع الستينات، و كان له دور نضالي في حماية الجمهورية، و كسر حصار السبعين يوم على صنعاء مع زملائه الأفذاذ، عبد الرقيب عبد الوهاب و الوحش و صالح سرحان و غيرهم..

لقد كنت بالفعل فخورا بما أنجزه أخي في الحياة العسكرية دفاعاً عن الثورة و النظام الجمهوري .. أردت أن أكون مثله أو أكثر منه إن استطعت رغم تغير الظروف و تبدل الأحوال .. كان أخي شجاعا و مقداما و محبوبا و يحمل صفات قيادية كثيرة و متعددة .. كنت أريد أن أسلك مسلكاً يحاكي تجربته في الحياة، أو على الأقل أختط خطاً مقارباً له .. كان ضابطا مشهوداً له بالشجاعة و البسالة، و كان يسارياً ثورياً و منتمي تنظيميا للحزب الديمقراطي الثوري، و متمرداً على النظام في الشمال، و يرى في قضايا الناس و التقدم قضيته الأولى.

كان يتوقف قبولي في الكلية العسكرية على اجتياز الفحص الطبي .. كنت أظن أن القبول يتوقف فقط على اللياقة البدنية، و ربما فحص طبي، و لكن لم يتبادر إلى ذهني أنه سيشمل الأعضاء التناسلية..

قبل المعاينة الطبية كنت أشعر بالخجل من معاينة الطبيب لأعضائي التناسلية .. كنت أسأل نفسي: كيف يتجرأ الطبيب أن يفعل هذا..؟! و أين سأدس وجهي من الخجل حين يفعل..؟! و كيف سيكون هذا الفعل..؟!

ما حدث لم أكن أتوقعه قبل أن أقرر انضمامي للكلية العسكرية، و لو كنت أعلم هذا ما كنت أختار هذا الانضمام..؟! لم أتصور أن شيئا من هذا القبيل سيحدث في هذا العبور الذي فاجئني و لم يكن بحسباني، و قد شعرتُ عند المعاينة أن الخجل يبلعني من قمة رأسي إلى أخمس قدماي..

غالبت نفسي، و قمعتُ عقد الممانعة، و اجتزت الفحص الطبي بنجاح، و كذا اللياقة البدنية، و كانت خشيتي كبيرة ألا أجتاز الفحص الطبي بسبب وجود دوالي خفيفة في الخصيتين، غير أن الأمر كان بسيطا و غير ملحوظ، و لم يشكل أي مانع من الالتحاق بالكلية العسكرية..

حصلت على مقعد من المقاعد المخصصة لما كانت تُعرف بالجبهة الوطنية الديمقراطية (جودي) التي تم تخصيص حوالي 12 مقعداً لها في تلك الدفعة و هي الدفعة العاشرة، و كانت هنالك مقاعد أخرى تمنح أيضا لما يعرف بحركة التحرر الوطني، مخصصة لفلسطينيين و أكراد و شيوعيين عراقيين و عمانيين..

تذكرت “علوان” في قريتنا .. الرجل الحساس و الخجول و القبيلي المعتز بقيم العيب و مفهوم الرجولة المطبوعة في تصوره الأخلاقي، و الذي لم يفرط بأقلّها هونا، حتى و إن قتل نفسه، بل و آثر الانتحار على أن يمس بعيب حتى من قبل الطبيب، لن يساوم فيما يراه من عيب و إن بات ما يعانيه خطرا يتهدد حياته..

“علوان” الذي آثر الموت على معاينة الطبيب للباسور الذي كان على ما يبدو قد بلغ حد لا يحتمل من التضخم و النزيف و الألم البالغ، و هو ما أدّى به إلى اتخاذ قرار الانتحار، و تنفيذ هذا القرار؛ للخلاص من الألم الذي يعذبه بكتمان، و العيب الذي يثقله، و الحيلولة دون أن يرى الطبيب فتحة شرجه .. كم نحن مثقلين بالعيب و الحياء و الحرج و الخجل إلى حد ربما يفوق التصور في بعض الأحيان..!!

كيف لنا أن نفكك تلك العاهات التي تنشّأنا عليها منذ سنوات الحضانة، و تجذرت في سنوات الطفولة الأولى، ثم السنوات التي تليها، و ما بعدها..؟! ما أحوجنا أن نعيد صياغة الوعي المعطوب، أو المشوه بالعيب الشائه..؟! كم هي الحاجة ملحة لتفكيك العُقد المستحكمة و المتحكمة في حياتنا و مستقبلنا، و التي تظل تلازمنا من الحضانة حتى أزيف العمر..؟!

ما أحوجنا أن نبدد الظلام الكثيف الذي أستولي على براءة طفولتنا الأولى، و يريد أن يثقل كواهلنا حتى آخر العمر بالتصورات المختلة للأخلاق، و القيم المختلة و المشوهة للوعي و التربية..؟!! كم نحن بحاجة أن نتصالح مع أنفسنا لنتعايش مع حقيقتنا بدون أقنعة، و بدون تزييف أو تزوير أو مساحيق تجميل..؟!!

كم نحن بحاجة لأن نتعلم التصالح مع أنفسنا في الطفولة و مقتبل العمر لنقبل على الحياة متعافين بسوية، و حياة خالية من العاهات و العقد و التشوهات الأخرى التي تدمر الوعي أو تعطبه، أو تجعله كسيحا و مثقلا بالإعاقة و الكلفة البالغة و فادح قد يصل إلى انتزاع الروح..؟!..

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى