فضاء حر

ارشيف الذاكرة .. في الساحة الحمراء .. قلب موسكو

يمنات

أحمد سيف حاشد

وسط الساحة الحمراء في قلب موسكو، تجد نفسك محاطا بعالم خرافي ساحر، يحكي العجب الذي فاق خيالك المتواضع رغم صدقيته .. خيالك الذي لم يكن بوسعه أن يتخيل المشهد الذي تقف عليه الآن بقدميك و تراه بأم عينيك، و أنت متردد في تصديقه، و مستغرق في الذهول، رغم أنه واقع و أكيد..

– بديت أمام نفسي كمن فقد عقله تحت تأثير الصدمة، و لم يعد يفرّق بين واقع اللحظة التي يعيشها و اللاوجود .. أسأل نفسي و أنا فاغر فاهي، و مدهوشا مما أرى: هل يا ترى أنا موجود، أم غير موجود..؟! هل هذا العالم الذي أمامي الآن، و يحيط بي من كل اتجاه، بالفعل واقع ملموس كما أراه و يتبدّى لي الآن، أم هو محض وهم لا أساس له من الصحة، و لا وجود له..؟!! إنه مشهد لم أكن أتخيله من قبل، و لازلت مترددا في تصديقه..

– إنه عالم آخر يختلف حد الصدمة عن ذلك العالم الذي جئت منه أو اعتدت عليه .. أن تتخيل نفسك فجأة تنتقل من قريتك النائية البعيدة، التي لازالت تطلب الغيث من صراف المطر، مقابل أن تدفع المال العزيز الذي تحصل عليه بالكد و الكديد، و بين حضارة صارت تنزل المطر في الوقت و المكان الذي تريد .. إنها الصدمة الحضارية، و المفارقة الشاسعة بين قريتك الموجودة في أقاصي الأرض المنسية، و قلب موسكو عاصمة الدولة العظمى الثانية .. إنها مفارقة بحجم الدهشة كلها..

– و أنا أجول في الساحة الحمراء مشدوها، أنقل نظري في زحمة ما يبهر و يسحر كنت أحدث نفسي: بوسعي أن أتخيل الإسراء و المعراج، أو بساط الريح، أو حكايات ألف ليلة و ليلة، أو مردة الجن، و قد نقلوني من عالمي المعتاد و البسيط، إلى هذا العالم الباذخ بالعجب..

– بإمكاني أن أتخيل أنني فركت الخاتم أو مصباح علاء الدين؛ و أستدعيت ذلك المارد، الذي خرج عملاقا، و على عنقه القوي، و زنديه المفتولتين و المشدودتين بالقوة، تمائم و قلائد و أشياء أخرى .. بوسعي أن أتخيله أيضا أصلعا إلا من خصلة كثيفة من الشعر في قمة رأسه، مربوطة و مسدولة على ظهره العريض..

– بوسعي أن أتخيل أيضا المارد قد فرد ذراعيه الواسعتين، و طأطئ رأسه، و هو يقول كعبد مطيع لي: “شبيك لبيك .. نحن بين يديك .. اطلب و أتمنى” .. فأتمنى أن يذهب بي إلى هذا العالم الخرافي الساحر الذي أقف عليه الآن بأقدامي، و أحملق فيه بعيني الواسعتين .. هكذا صرت أتخيل ما حدث، و ما صرت عليه الآن .. من فرط الصدمة الفارقة بدا لي الواقع خيال .. هكذا تنقلب الأشياء أحيانا عندما لا نصدقها، من فرط الدهشة و الذهول..

– هنا الضخامة و الفخامة التي تجعلك تشعر و كأنك تعيش حياة أسطورية حافلة بالعجب .. كل شيء هنا يسحر عيونك، و يختطف منك ذاكرتك، ثم يعيدها إليك، و قد خزن فيها كل مشاهداتك و ذهولك، و ما رأيته من العجب، الذي لن تنساه، و لن تغادره ذاكرتك حتى تُفنى أو تموت..

– القبب الملونة، و الهندسة المعمارية، و الجداران العالية و المهابة، و الأبراج بكل مسمياتها، و الكنيسة ذات القبّة التساعية، و الكرملين، و ضريح لينين، و ضريح الجندي المجهول، و الشعلة التي لا تنطفي، و المتجر الرئيسي للمدينة، و الأرض المرصوفة بالحجر الأسود العريق، و القلاع العتيدة، و القصور الملكية، و متحف الدولة، و كل ما يقول: من هنا مر التاريخ.

– الساحة الحمراء قلب العاصمة النابض و الأكثر شهرة .. ملتقى ثقافات شعوب العالم .. كرنفالات و استعراضات و حب وأعراس و أجواء احتفالية خاصة .. و حجيج إلى ضريح لينين من كل بلدان و بقاع العالم..

– هنا مقر الكرملين، و المقر الرسمي للحكومة السوفييتية .. هنا عاصمة دولة عظمى بيدها مصير العالم، و تتقاسم نفوذه، و لديها ما يفنيه عشر مرات .. هنا يمكن أن تتفهم ما قاله الطالب السوداني المنتحر من الطابق العاشر في موسكو و ما كتبه على قنينة “الفوتكا” الشهيرة قبل انتحاره: “صافية كالدموع .. قوية كالسلطة السوفيتية” و لم ينتقص من قوة تلك السلطة و هيبتها، إلا السوق السوداء و الاقتصاد غير المعافى، و هو ما كشفه لنا صرف الدولار .. حيث الدولار بسعر بنك الدولة 75 كبيك، فيما صرفنا الدولار في السوق السوداء، من خلال صديق، بثلاثة روبل إن لم تخنّي الذاكرة .. لقد أحسست يومها أن تلك السلطة ليست بتلك القوة، و أن اقتصادها يعاني الكثير، و الصحة ليست على ما يرام.

– أتينا إلى الساحة الحمراء ببزاتنا العسكرية الخضراء التي تبدو مراسميه و ربما لافتة للنظر .. كثير من نظرات المارين و الواقفين في الساحة كانت تصوّب علينا .. اعتقدنا في أول الأمر أن زيّنا الفخيم هو السبب اللافت لتلك النظرات .. ظننا أن تميزه اللافت هو ما يشد النظرات و يلفت إليه الانتباه .. شاهدنا بعضهم ينظرون إلينا، ثم يتحدثون بشأننا و لا نعلم ماذا كانوا يقولون..!! و لكن ابتسامتهم لبعض كان توحي أن هناك أمر فينا يثير ابتساماتهم، و ربما ضحكاتهم في بعض الأحيان..!! صارت الحيرة تلبسنا و الاستغراب يستفز فضولنا..

– أخذنا موقعنا في الطابور الطويل المؤدي إلى ضريح لينين .. عدد من الفتيات في الطابور على مقربة منّا يتهامسن و هن ينظرن إلينا، ثم يقهقهن، فيما كان يستغرقنا شعور الاستغراب..

– سألتنا أحداهن و الابتسامة ترسمها الشفاة: من أي دولة أنتم..؟!

فأجبناها: من اليمن..

– قالت أخرى أنتم في مقتبل العمر، و تحملون رتبا كبيرة..

أستغربنا أكثر؛ ثم قلنا: هذه النجمة لدينا هي رتبة ملازم ثاني تمنح بعد التخرج من الكلية العسكرية..

و قبل أن يترجم لهن المترجم جوابنا، كان فضول الفتاة الثالثة يسأل:

– هل أنتم أبناء أمراء..؟!

فتبدت حيرتنا أكثر و استعجبنا من السؤال..! فيما جميعهن يضحكن، فتولى المترجم الايضاح.. و عرفنا السبب..

النجمة التي بحجم النجمة التي في رتبنا و نحملها على أكتافنا، هي لديهم و في جيشهم رتبة رائد .. تلاشى ضحكهن، فيما انطلقت قهقهتنا بعد أن عرفنا السبب، و تبددت حيرتنا التي كادت تخنقنا..

– أما اليوم و أنا أكتب هذا؛ فقد صار ضحكنا كالبكاء .. تندرنا بعد الوحدة من واقع ساد، حتى أسمينا اليمن “بلاد المليون عقيد” سخرنا و تهكمنا من كثرة منح الرتب كهدايا و هبات، و عطايا مناصرة و مولاة، و شراء للذمم، خارج القانون و النظام .. أما اليوم فصارت الرتب العسكرية توزع كالفاكهة .. كل سلطات الأمر الواقع في اليمن صارت تتنافس في منحها على أتباعها و أنصارها .. تستطيع أن تجد عدد غير قليل من لم يكملوا المرحلة الإعدادية أو الثانوية، قد صاروا يحملوا رتب عميد و لواء .. و تستطيع أيضا أن تجد عددا لا يقل عن هذا ممن لم يبلغوا سن البلوغ قد صار يحملوا رتبة مقدم و عقيد .. “يابلاشاه يا حراجاه” و الأكثر سوءا أن تجد عند بعضهم بين الترقية و الأخرى أيام أو أسابيع أو شهور..

– من حق العالم اليوم في هذا العهد المملشن .. عهد الغلبة و أمراء الحرب و سلطات الأمر الواقع، و تحلل ما بقي لنا من دولة، أن يضحك علينا ألف سنة، و هو يرى الجهل في اليمن يحمل رتبا عسكرية كبيرة و متوسطة، و يشاهد أطفالنا الغر، يُمنحون و يحملون الرتب العسكرية الكبيرة و الثقيلة..

– وقفنا على الشعلة، و ضريح الجندي المجهول، و مشاهدتنا للحراسات و تغييرها الذي يجري على رأس كل ساعة .. خلصنا إلى أن كل شيء هنا يتم بدقة متناهية .. إنها الصورة الرمزية ذات الدلالة و التي تعكس صورة الدولة بمراسيمها المنضبطة و العالية الدقة .. ترى الجندي في وقفته و ثباته، و كأنه مصنوعا من الشمع، لا يتحرك له رمشا و لا جفن خلال ساعة وقوفه .. تجد فضولك يتحفز إلى لمسه للتحقق عمّا إذا كان الذي أمامك جنديا حقيقيا أم مصنوعا من مادة أخرى، و لكن عقلك يمنعك من أن تفعل.

زرنا المتحف و شاهدنا تماثيل و مجسمات متنوعة، و منها مجسم نصفي صغير للينين قالت زوجته “كربسكايا” إنه أكثر ضبطا و مطابقة للينين كما تراه و كأنه هو بالفعل .. إليانوف أيلتش لينين الذي كنت أحد معجبيه، و لكن بمأخذ، و لا أخلو من تحفظات .. و لا قداسة لأحد..

انتظرنا دورنا في طابور طويل حتى أطلينا على لينين المسجى في صندوق من زجاج و هو يرتدي ملابسه الأنيقة .. تمر و هو على بعد عدة أمتار منك، و أنت تحاول أن تدقق في تفاصيله، لا تجد ما يخرم شكله و هيئته قيد شعرة..

بعد يوم حافل بألف ليلة و ليلة عدنا إلى الفندق..

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى