العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. فولجا جراد .. المدينة البطلة

يمنات

أحمد سيف حاشد

– كانت وجهتنا الثانية بحسب برنامج الزيارة إلى مدينة “فولجا جراد” التي تبعد عن العاصمة موسكو بأكثر من ألف كيلو متر. و قد راج اسم هذه المدينة على نطاق واسع في الحرب العالمية الثانية بـ”ستالينجراد” حيث شهدت أهم المعارك الكبرى التي سميت باسمها “معركة ستالينجراد” و استمرت بحسب المصادر حوالي ستة أشهر، و بلغت الخسائر البشرية في حدود مليوني، ما جعل البعض يصنّفها بإحدى أكبر المعارك دموية في تاريخ الحروب .. و مُنحت المدينة لقب “المدينة البطلة”.

– بوسعك هنا أيضا و من الزاوية المقابلة أن تتذكر بعض من ويلات تلك الحروب، و ما تخلّفه من نتائج و آثار كارثية .. بوسعك أن تتذكر قيام الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية بإسقاط قنبلتين ذريتين على مدينتي “هيروشيما” و “ناجازاكي” اليابانيتين و التي راح ضحيتها في لحظة بحسب المصادر أكثر من مائة و عشرين ألف قتيل، و أكثر من ضعفي هذا الرقم قتلوا فيما بعد نتيجة الاشعاع النووي، هذا غير الجرحى، و كان معظم القتلى و الجرحى من المدنيين، و طال التدمير أكثر من 90% من المباني و المنشآت في المدينتين..

– الحروب مروعة و مرعبة و بشعة على نحو يفوق أحيانا التصور و الخيال، و يمكن هنا نقل شهادة سيدة يابانية عاشت حدث إحدى الإنفجارين النوويين؛ حيث تقول: «كان عمري 12 عاماً .. رأيت صاعقة من البرق أو ما يشبه عشرات الآلاف الصواعق تومض في لحظة واحدة، ثم دوّى انفجار هائل، و فجأة ساد المكان ظلام تام، عندما أفقت وجدت شعري ذابلاً، و ملابسي ممزّقة، و كان جلدي يتساقط عن جسدي، و لحمي ظاهر و عظامي مكشوفة. الجميع كان يعاني من حروق شديدة، و كانوا يبكون و يصرخون و يهيمون على وجوههم و كأنهم طابور من الأشباح. لقد غطّى مدينتنا ظلام دامس بعد أن كانت منذ قليل تعجّ بالحياة، فالحقول احترقت و لم يعد ثمة ما يذكرنا بالحياة»..

– و بوسعنا هنا أيضا أن نتوقف قليلا لنثير نقدا ذو بعد أخلاقي وحقوقي بصدد الحروب، و منها هذه الحرب التي نعيشها اليوم نحن في اليمن .. إنها إحدى الحروب الأكثر قذارة في العالم، و نحن ندخل عامها السادس؛ و ذلك من خلال تلك الأسئلة التي أثارتها رواية الجريمة و العقاب لدوستويفسكي: لماذا نجرّم ذلك الطالب البائس الذي يقتل العجوز المرابية في رواية “الجريمة و العقاب”، و لا نجرّم ذلك القائد الذي يرسل جنوده للموت ليعلوا في المجد..؟!!

– لماذا لنابليون حق القتل، و لأمريكا حق إلقاء القنابل النووية، و ليس لراسكولنيكوف قتل المرابية التي يمكن بمالها تحرير نفسه، و ربما تحرير كثيرين غيره من الفقر..؟! لماذا ننحاز و نحن نقرأ الرواية إلى صف الذي طالب “راسكولينكوف” قاتل المرابية أن يسلّم نفسه بدوافع عدلية و اخلاقية، عندما تجري دعوته بالقول: “استيقظ .. انهض الآن في هذه الدقيقة، و قف عن تقاطع الطرق، و أنحني .. قبل الأرض التي دنستها، و من ثم أنحني للعالم كله على اطرافك الأربعة، و قل بصوت عال للجميع .. نعم .. نعم لقد قَتلت.ُ ” و لا نطلب من الذين قتلوا الآلاف و مئات الآلاف، و الملايين من البشر أن يفعل ما فعله “راسكولينكوف”..؟!! لماذا ننحاز إلى مطالبة “راسكولينكوف” بالتوبة المكلفة لبقية حياته بالأعمال الشاقة، و لا نطلب عقاب من ساقوا آلاف و ملايين البشر إلى جحيم الحروب و الموت و المجاعات..؟!!

– و ماذا أيضا عمّن دمروا شعوبهم أو أفقروها أو تعسفوها، بدوافع أيديولوجية أي كانت، أو بدافع ادعائهم أو اعتقادهم أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة، و أنهم أصحاب الحق المحض، و أن أفعالهم مشروعة و مبررة، لا شك بها، و لا مدخل فيها لريب..؟! و ماذا عن أولئك الذين صنعوا الحروب، أو رعوها بدافع الاطماع، أو الثأر والانتقام، أو صناعة المجد أو استعادة المجد الضائع..؟!!

– إن كل هذه التساؤلات لا نقصد من خلالها تبرير الجريمة أو بعضها، و لكن نقصد التساؤل: لماذا هذا الفقدان الكبير للعدالة..؟! لماذا العدالة لا تطال كبار المجرمين مثلما تطال صغارهم..؟!! إن ما نحتاجه هو عدالة للجميع .. نحتاج إلى عدالة تطال كبار المجرمين قبل صغارهم لردع مرتكبي الجرائم و الحد منها و من البشاعات التي يتم ارتكابها، و عدم الإخلال بميزان و معايير العدالة التي نتغيّاها..؟!!

– و في هذا المقام بإمكاننا أن تتحدث أيضا عن جرائم إبادة الهنود الحمر السكان الأصليين في أمريكا، و إخضاع ما بقي منهم .. بإمكاننا أن نتحدث عن جرائم الحروب التي ارتكبتها الولايات المتحدة في فيتنام، و العراق و غيرها، و جرائم الحرب التي أرتكبها الفرنسيون في الجزائر، و جرائم الحرب التي أرتكبها الأتراك ضد الأرمن، و كل نظائر تلك الحروب التي رفض أو يرفض مُرتكبوها تعويض الشعوب، أو حتى الاعتذار لها عن تلك الحروب المروّعة التي أرتكبتها تلك الدول بحق تلك الشعوب.

– و عودة للتعريف بالمدينة التي زرناها، و التي تضمنها برنامج الزيارة، لأهميتها من حيث تاريخها العسكري في الحرب العالمية الثانية، كونها قد جرى منها تحوّل مسار الحرب، و تغيير معادلتها لصالح الاتحاد السوفيتي .. المدينة المسماة “فولجا جراد”، و التي كانت تسمى سابقا ومنذ العام 1925 بـ “ستالينجراد”، و بعد وفاة “ستالين”، و أفول “الستالينية” في الاتحاد السوفيتي، و تفكيك ما أُسماها خلفه نيكيتا خروتشوف بعبادة الفرد أو عبادة الشخصية، تم تسميتها “فولجا جراد” حيث أقترن اسمها باسم نهر “الفولجا” و تمتد المدينة بمحاذاة الضفة اليمنى لنهر الفولجا بطول يبلغ 30 كم..

– توجد في المدينة ما عُرف بـ”القبة السماوية” لعرض حركة الكواكب و النجوم، و نصب تذكاري، و تماثيل، و متاحف، و مسارح، و قاعات للحفلات، و لوحات فنية .. و توجد فيها أيضا مصانع و منشآت و عمران، و يوجد أيضا نهر الفولجا، أغزر و أكبر نهر في أوربا كلها .. “الفولجا” بحسب المصادر تعني نهر المشرق الذي أطلقه سكان حوض النهر منذ القدم، و البالغ طوله أكثر من 3500 كم ” أما “جراد” المقرونة باسم النهر فتعني مدينة..

– يا إلهي .. ماذا هذا الذي أراه من بعد .. من هذه المرأة التي يعتلي رأسها الفضاء، و هي تمتشق السيف في وجه السماء..؟!! ما قصتها..؟! اي فنان أبدع كل هذا..؟! و كيف أتمه..؟! و كم أستغرق من الوقت ليصير على هذا النحو الذي نراه..؟!

– أول ما يبهرك عند نزولك أو وصولك إلى المدينة أو مشاهدتك المدينة هو ذلك النصب التذكاري الكبير الذي تشاهده من البعيد، تمثال لامرأة ممتشقة السيف يطلق عليها “الوطن الأم” يقع على هضبة مرتفعة؛ ليصير ارتفاع فوق ارتفاع، ليطل شهوقها على المدينة .. و يعتبر هذا التمثال أعلى منحوتة في العالم في تلك الفترة، و بارتفاع يصل إلى 85 مترا أقيم تخليدا لضحايا معركة “ستالينجراد” التي جرت بين الاتحاد السوفييتي و ألمانيا عامي 1942 و1943. و أصبح تمثال المرأة التي تحمل السيف بيدها رمزا للمدينة.

– أخذنا مقاعدنا تحت ما يُعرف بالقبة السماوية .. تم اطفاء الأنوار .. شيء خرافي تجده ينقلك إلى عالم من الدهشة و الذهول .. نسيت أنني قاعدا على الكرسي .. نسيت من أنا و من أين أتيت..!! خلت نفسي أسبح في الفضاء كنجم أو كوكب درّي أو رائد فضاء .. بديت و الكون من حولي و من كل اتجاه، تهت في الفضاء حتى فقدت كينونتي و الاتجاهات الأصلية المعتاد عليها من شرق و غرب و شمال و جنوب .. كل شيء هنا يدور .. يدور من حولي حتى أدوخ .. في حدود الساعة تقضيها و أنت تحلق بين النجوم و الكواكب و المجرات و الأكوان .. ساعة من المعرفة الكونية التي لا تنساها ما حييت..

– زرنا متحف بانوراما الذي يصور “معركة ستالينجراد” و يعرض ملخصا لمعركة “ستالين جراد” و الحرب العالمية و شدة الاستبسال و زهو الانتصار .. رغم كثرة الملاحم و البطولات التي تشاهدها في الصور و التماثيل و بقايا قطع و آثار الحرب، و كل ما ينقلك إلى أجواءها، لفت نظري وجود صور لقادة دول التحالف تشرشيل، و روزفلت، و ستالين بطريقة مبهرة .. رؤساء الدول المنتصرة في الحرب .. الرؤساء الذي اجتمعوا أعقاب الحرب، في مكان من العالم، ليتقاسموه .. غدا العالم على الطاولة غنيمة حرب و نفوذ يتقاسموه فيما بينهم؛ و ليبدأوا صراعا آخر بينهم من نوع آخر .. حرب باردة أستمرت لعقود .. شعوب كثيرة دفعت أثمانا مكلفة و باهظة، و لازال بعضها يدفع ثمنا للمنتصر إلى اليوم .. و حتى كثير من الأحزاب الشيوعية المضحوك عليها في بلدان أوربية تفاجأت بنتائج الاقتسام، و صعقت و هي تشعر أنه تم التخلي عنها، و قد تم تقاسم العالم بين المنتصرين..

– زرنا أيضا بقايا بناية تسمى “بيت بافلوف” التي شهدت صراعا عنيفا و ثبتت فيها حضيرة من المدافعين الروس و دارت رحاها معارك ضروسة من اجل السيطرة عليها، و هي لا زالت تحتفظ بكثير من جدرانها المخرومة بازدحام كوجه أصابه الجدري بكثرة و غلاظة .. قالوا ان حضيرة هنا استبسلت و دافعت عن تلك البناية .. بعض من مشهد يعكس ضراوة الحرب و استبسال المدافعين عن المدينة..

***

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى