ارشيف الذاكرة .. دورة صاعقة .. المعسكر والمدرسة
يمنات
أحمد سيف حاشد
– طلبت وزارة الدفاع في عدن من كل لواء عسكري ابتعاث ضابط، فيما طلبت من ألوية محددة ابتعاث ضابطين إلى اللواء الخامس (مضلات) من أجل الحاقهم مدة أربعة أشهر في دورة “صاعقة” .. و في لواء الوحدة وقع الاختيار عليّ و على زميلي سند الرهوة .. دورة الصاعقة بالنسبة لي كانت تعني تدريب شاق و مضني، و اكتساب معارف عسكرية نوعية جديدة، و كنت أحمل لها في وجداني جلالا و مهابة، ربما لأن أخي الأكبر كان قد أرتادها في صنعاء خلال ستينات القرن الماضي..
– كانت فرحتنا أنا و سند بهذا الاختيار كبيرة و غامرة، و كنّا نحمل حيال بعض كثير من التقدير و الاحترام و المشاعر النبيلة .. و لكن لماذا أنا و سند من نُبتعث على وجه التحديد..؟! ماهي المعايير التي تم إعمالها، أو تم اختيارنا على أساسها..؟! الحقيقة لا أدري..!! بل لم يكن مثل هذا السؤال يومها يساورني أو يدور في خُلدي، و لم أفكر فيه من الأصل..!! و لم يكن لدي أي ظنون أو تفسيرات أو توجهات جهوية أو مناطقية تدفعني لأبحث أو أقف على مثل تلك الأسباب..
– بيد أن أحداث يناير كشفت لاحقا قبح الواقع المرعب و المروّع، و تساءلت: هل كانت للجهوية و المناطقية دورا في ذلك الاختيار..؟! لاسيما أنني كنت شماليا، فيما كان زميلي سند جنوبيا من محافظة أبين..!! هل بلغ التقاسم الجهوي إلى حد تلك التفاصيل الصغيرة .. الحقيقة لم أستطع أجزم بهذا، بل و ربما أعلل أو أعيد ما حدث إلى الصدفة .. و لكن لماذا كان قائد اللواء من أبين الجنوب، فيما أركان اللواء من حجرية الشمال..؟!! هل هذا هو الآخر كان أيضا مصادفة..!! أم كان يجري في إطار حسابات جهوية و مناطقية يجري تعميقها، أو التأسيس لها بعمق، من قبل أعلى المستويات إلى أدناها..؟!
– و مهما يكن من أمر، فالأهم و ما أريد الإشارة إليه، أن إعمال و إحلال المعايير الجهوية و المناطقية أي كانت، محل المعايير الموضوعية، أو استبدال المواطنة بها، سياسة خطرة في مآلها، و تؤدي قطعا عند تراكم معيّن، إلى تدمير ليس فقط الحاضر، بل و المستقبل أيضا، من خلال ما يجري من تفخيخ المجتمع، و تمزيق نسيجه الاجتماعي، و تدمير وحدته .. و مع ذلك إن قارنا ما يجري اليوم بما حدث آنذاك، فلا مندوحة أن نجد حاضرنا اليوم قد بات أكثر اسودادا و قتامة، و يؤدي إلى دمار و خراب مرعب للمستقبل أيضا .. فمدخلات و مخرجات هذه الحرب اللعينة التي نعيش سنتها السادسة، بل و من قبلها أيضا، قد أسهمت على نحو كبير في مأساة هذا الوطن، بل و ستؤدي بنا في النهاية إلى القول بندم بالغ: “كان هنا يمن” أو التحسر على أحلامنا التي ضاعت و نقول “كان لنا يوما وطن”.
– مدرسة “البيروليتاريا” التي درست فيها المرحلة الثانوية، و التي تقع على طريق عدن لحج، و قضيت فيها ثلاث سنوات، صارت معسكرا للواء الخامس، و هو لواء مستحدث .. هذا التبدل الذي وعيته لاحقا، كان يعني تراجع المدرسة لصالح المعسكر .. فعندما تتحول المدرسة إلى معسكر كما حدث في الماضي، أو تتحول المدارس إلى سجون كما هو الحال الذي نعيشه اليوم، فإن هذا معناه أن المستقبل إن وجد قد بات على كف عفريت، أو صار مفخخا بما يشظيه، أو بصيغة أخرى أن ثمة خلل موجود في الطائرة التي نركبها جميعا، و أن السياسات باتت تنحدر نحو مهاوي سحيقة و مخيفة، و أن الخلل صار خطيرا و فادحا في وعي القائمين على تلك السياسيات، التي يجب لعنها و مقاومتها في آن..
– على غير ما كانت عليه المدرسة المهملة، صار المعسكر الذي قدمت إليه محل اهتمام بالغ، من حيث الغذاء و الصيانة و الترميمات و التجهيزات، و القاعدة المادية، و هو الأمر الذي يعكس ملمح واضح عن المكانة الذي يحتلها المعسكر في الوعي السياسي الذي يقود المسيرة، مقارنة بالمدرسة المُهملة، و التي تشمل أيضا قسم الطلاب الداخلي .. الطلاب الذين انتفضوا يوما احتجاجا على بؤسها و بؤسهم .. فالمدرسة أتينا إليها و لم تكن على ما يرام، و لم تشهد أي ترميم أو صيانة خلال دراستنا فيها طيلة الثلاث سنوات .. كانت المفارقة شتى بين حال المدرسة الذي كان بآسا، و حال المعسكر الذي غدا مجهزا بقاعدة مادية ممتازة و امكانات وافرة، فضلا عن ترميم كامل، لا يخلوا من فخامة، و جهوزية بكل ما يحتاج و يليق..
– كما تم استحداث بنى تحتية كاملة للمعسكر، شملت كل الوسائل اللازمة للتدريبات العسكرية للصاعقة و المضلات، بما فيها الحواجز الهندسية، و الحلبات، و متطلبات التدريب الميدانية، بالإضافة إلى توفير ضباط أكفاء ذوي رتب عالية أنيطت بهم مهمة تدريب الدورة، و كان جميعهم ينتمي إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين..
أضافت هذه الدورة لمعارفي معارف جديدة، و على قدر من الأهمية، لطالما تمنيتها من سنوات طوال .. كان هؤلاء الضباط المدربين أكفاء و محترفين، و يحملون وعيا و نضجا و معرفة فارقة، جعلتنا نحترمهم و نجلّهم في نفوسنا، و نبذل مجهودا كبيرا لنيل رضاهم من خلال مزيدا من بذل الجهد و التعلم و الانضباط..
– أحببت هؤلاء المدربين كما أحببت من خلالهم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و رئيسها “جورج حبش” الذي كانوا يسمونه بـ(الحكيم) .. و لابأس أن أشير هنا إلى أنه قبل أن يكون هذا المكان معسكرا، كان مدرسة، و ضمن طاقمها عددا من المدرسين الذي ينتمي بعضهم أيضا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، و أذكر منهم أستاذ مادة الفلسفة، و اللغة العربية، و الأحياء، و أستاذة لبنانية من أصل فلسطيني تدرس أيضا بعض تفريعات اللغة العربية، و غيرهم .. لقد كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هي المشترك بين المدرسة التي كانت في الأمس، و المعسكر الذي نتدرب فيه اليوم، و كانت الكفاءة و الاخلاق و الاحترافية تميز جميعهم..
– أحببت الأستاذ أبو علي الذي تعلمنا منه معارف عسكرية لم يكن يعرفها الجيش اليمني من قبل .. كانت مادته علينا جديدة و متميزة، بل و سلسة أيضا و جاذبة إن لم تكن ممتلئة بالعجب و الدهشة .. كنت أكثر في الدرس من الأسئلة التي أجدها تتناسل و تتكاثر من ذات نفسها، فيما هو يجيب و يعرِّج على أشياء فيها كثير من التفاصيل المهمة، و يضيف لنا كل يوما فرقا في المعرفة العسكرية .. كان هذا المدرب يعتبرني تلميذه النجيب في الدارسين أو هذا ما أحسسته منه..
– كما أحببت المدرب (أبو فراس) و الذي كان يدربنا تدريبا ميدانيا عنيفا .. فيه الاشتباك و الركض و تجاوز الحرائق و الحواجز الهندسية و المعوقات الطبيعية…الخ .. و كنت في نفس الوقت قد أحببت الجبهة الشعبية أكثر من بقية الفصائل الفلسطينية الأخرى، ربما لأنها جديرة بهذا الحب، أو لأنني تأثرت بمن عرفتهم منها .. و ظل قائدها الحكيم “جورج حبش” محل اعجابي و تقديري على الدوام الذي زاد لاحقا، و هو يحاول تجنيبنا الكارثة التي حدثت لاحقا في 13 يناير، حتى قيل أنه أجهش بالبكاء و هو يحاول..
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.