العرض في الرئيسةفضاء حر
ارشيف الذاكرة .. أحداث 13 يناير .. غربان يا نظيرة
يمنات
أحمد سيف حاشد
- في نصف العام الدراسي الأول بكلية الحقوق كنّا على موعد وشيك لامتحان القانون الروماني .. ذهبت أنا و زميلي يحيي الشعيبي للمذاكرة على البحر في صيرة و حُقّات .. كلانا كان يسكن في “القلوعة” أو ما كان يُطلق عليه “حي الثورة” .. زميلي يحيى منتدب و مفرّغ للدراسة من وزارة الداخلية، و يحمل رتبة نقيب، و كان يعمل في مصلحة الهجرة و الجوازات في عدن قبل انتدابه و تفرغه للدراسة .. عرفته متزنا و غير متحمس لأحد أطراف الصراع، و كنت أسمع بعض زملائنا المتشددين من خلفه لا يروق لهم رأيه، لأنه كان حذرا و حصيفا و عقلانيا..
- ذلك اليوم هو تاريخ 13 يناير 1986.. كان موعدنا مع البحر و القانون الروماني الذي سنرتاد امتحانه بعد يوم، أو يومين على الأرجح .. شعرنا بانقباض ما .. شيء غير طبيعي يحدث .. بدت لنا السماء و كأنها مكتئبة .. إحساس بأمر ما غير معتاد .. زميلي يحيى كان إحساسه أكثف .. استعجلني للعودة بعد ساعة من وجودنا في الشاطئ، فيما كنت ضد فكرة العودة المبكرة، و لكني اضطررت أسيفا لمطاوعته، حيث يستصعب عليّ أن أذاكر بمفردي، و قد جرت عادتي أن لا أذاكر وحدي، و كانت تلك المادة جافة، و يزيد من جفافها كثرة مصطلحاتها، و قِدم قوانين المرحلة التي تتناولها تلك المادة، و مدرّسها “القعيطي” الذي يطلب الدقة في الإجابة على أسئلته، و كان حافظا لمادته “ظهر قلب”، و كأنه شربها على الريق ذات صباح..
- كان التوتر السياسي حينها على أشده .. و بعد مسافة قصيرة من طريق عودتنا راجلين سمعنا من العابرين بلبلة و أخبار متضاربة .. كانت هناك حركة ما .. نساء و رجال يطلون من بعض الشرفات و السطوح .. قلق يتبدى على وجوه العابرين، و حركات مريبة تحدث، و شيئا ما يحدث و لا نراه و لا زال لدينا غير مفهوم..
- سمعنا أولا عن اطلاق رصاص في التواهي .. ثم سمعنا أن اطلاق الرصاص الذي يحدث هو في منطقة الفتح .. و سمعنا فوج ثالث من الأقاويل، أهمها إن الرصاص يأتي في سياق حملة تستهدف قتل الغربان .. هكذا كان بداية مدارات و تغطية ما يجري من حقيقة ذابحة و مؤسفة..
- حملة قتل الغربان تم استخدامها في أول وهلة للتعمية عمّا يحدث، و تأجيل العلم به .. عندما كنا نسأل عما يحدث كانت الأقاويل تتحدث أن الرصاص إنما تستهدف قتل الغربان في سياق تلك الحملة .. زعم يختصر مستهل المشهد الدامي .. محاولة كسب الوقت و الاستفادة من الدقائق و اللحظات لتغطية و إنجاز مستهل المأساة المتفجرة .. تأجيل ما أمكن من علم الناس بما يُرتكب من قتل و فظاعة و مؤامرة .. بداية تضع كل شيء أمام مستقبل مخيف و مجهول .. إنجاز مهمة تخلص بعض الرفاق من بعض .. كل دقيقة كانت تمر إنما تعني إيغال الحماقة بحق الوطن و الرفاق و المستقبل..
- هكذا كان الأمر قبل أن يتحول إلى عمل مسرحي ساخر في وقت لاحق تحت عنوان “غربان يا نظيرة” و هذا العنوان هي جملة قيل أنه اطلقها الاذاعي و الصحفي عوض باحكيم حالما كانت زوجته الطيبة “نظيرة” تعد الشاي الذي كانت تجيد صنعه، و عندما سمعت الرصاص و تملكها الفزع قالت لزوجها: “أيش دا اليوم ياعوض..!؟” فيما عوض الذي كان يشتهي الشاي، حاول تطمينها أن اطلاق الرصاص يأتي في سياق حملة قتل الغربان التي كان قد تم تدشينها من وقت مضى .. فقال لها مازحا وساخرا “غربان يانظيرة”.
- تأجيل العلم بمزاعم و أقاويل للتعمية عما يحدث لا تنطبق فقط على أحداث 13 يناير 1986، و لكن تنطبق على بداية كل مرحلة شهدت فيها اليمن مؤامرة و حرب و مأساة .. كل مرحلة كانت تؤسس لمرحلة أكثر قبحا و انحطاطا و خرابا من التي قبلها .. مراحل من القتل و الدمار و الخراب و النصر المزعوم .. و يستمر وهم القوة و الانتصار بالدم..
- جراح عميقة عقب كل مرحلة دامية تُترك مفتوحة، حتى تمتلئ بالقيح و الصديد، ثم تمعن الجراح في التعفن لتنتهي ببتر عضو في الجسد الدامي و المثخن بالجراح .. حرب الشركاء في عام 1994 ثم الحروب التي أسقطت ما بقي لنا من بقايا وحدة و دولة .. ثم عدوان و حرب مارس 2015 و التي لا زلنا نصطلي بجحيمها للعام السادس على التوالي، و ما يُفرض خلالها من أجندات غير وطنية، فيها الاحتلال و الوصاية و التقسيم و الحدود لتنتهي بتدمير ما بقي لنا من بقايا يمن و وطن و إنسان و مستقبل..
***
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.