ارشيف الذاكرة .. أحداث يناير 1986.. تصفيات
يمنات
أحمد سيف حاشد
جاءت أحداث 13 يناير 1986 و أنا متفرغاً حينها للدراسة سنة أولى كلية الحقوق، و لكن سأذكر هنا الشطر المتعلق بلواء الوحدة، الذي كان يقيم معسكرة في محافظة أبين، و يبعد عن مدينة زنجبار عاصمة المحافظة، مسافة تتراوح بين (2-3) كيلو متر تقريبا، و ينتمي كثير من أفراده و ضباطه إلى ما كان يُعرف بشمال الوطن الحبيب .. و أزعم أن تفرغي للدراسة في كلية الحقوق هو من أنجاني من موت أكيد، ليس لشيء، و إنما لأنني من الشمال في المقام الأول، و قد تم تحت عنوان “شمالي” تصفية جل الضباط و الصف و الجنود الشماليين ..، و لم ينج منهم إلا القليل، أما أقل القليل و هم بعدد أصابع اليدين، فحامت حولهم حيرة و سؤال..
كان قائد اللواء و كذا رئيس عمليات اللواء لا يروقاني و لا أنا أروقهم .. كنت أشعر بالغربة بمجرد مقابلتهما .. روحي تنقبض كلما تقابلت مع أي منهما، أو حتى مررت بجوارهما .. كان أحيانا يخامرني إحساس ما غير مفهوم يثير انقباضي و الشعور بغربتي، ثم كشفت الأيام أنني كنت محقا فيما أشعر و أحدس..
كما كنت غير منحاز سياسيا لهم، و علاقتي و صداقتي الأكثر كانت بأحد الضباط المشهور باسم “العفريت” و الذي كان نائبا سياسيا لأحدى الكتائب الرئيسية الثلاث في اللواء، و هو من ضمن الذين قدموا من الشمال في أحداث عبد الله عبد العالم، و ينتمي سياسيا للحزب الديمقراطي الثوري، ثم إلى حزب الوحدة الشعبية بعد الدمج، فيما كان اجتماعيا ينحدر إلى إحدى الفئات المهمشة، و كان مثلي لا يروق لقائد اللواء، و رئيس العمليات، و العكس أيضا، و قد تمت تصفيته بالفعل في أحداث يناير..
كما كنت مرصودا لديهم بأنني مسؤول خلية حزبية في اللواء، اسمها “خلية الشهيد عبد اللطيف الحالمي” تابعة لحزب الوحدة الشعبية “حوشي”، و رغم أن عملنا الحزبي كان ينصب في إطار العمل السياسي و الحزبي في الشمال، و لكنه كان يكفي هذا لديهم أن أكون مشبوها بامتياز..
بعد أسبوعين من بداية أحداث 13 يناير ذهبت إلى مقر اللواء، و عرفت أن 85% تقريبا من أصدقائي و زملائي قد تم تصفينهم ضباط و صف ضباط و جنود .. بعضهم تم قتلهم في وادي حسان، و بعضهم في السجون و الزنازن و المعتقلات، و بعض آخر تم تصفيتهم في معسكر اللواء نفسه، ممن ملص أو تخلص من الطابور..
لو بقيت في اللواء ما كنت لأنجو أو أفلت من أي مجزرة، حيث كنت منضبط، و دقيق في المواعيد، و لا أخرج من المعسكر إلا قليلا، و لا أزوغ و لا أتهرّب من أي عمل أو مهمة أو مبادرة، و لا أغيب، و لا آخذ إجازات مرضية، و بالتالي فأنني في متناول الاستهداف السهل، و نجاتي من أي مجزرة كانت مستحيلة..
ما عرفته خلال زيارتي عما حدث على صعيد اللواء، أنه صباح 13 يناير تم ابلاغ الضباط و الصف و الجنود بالجمع طوابير بحجة كاذبة هي الخروج لمبادرة بلباس مدني، فيما الحقيقة المُرّة كانت فخا كبيرا، و تنفيذا للمرحلة الأولى من المؤامرة في اللواء، حيث تم الفرز المناطقي غير المعلن في الطابور، ثم تم نقلهم للمعتقلات، ثم جرت في المرحلة الثانية التصفية الجسدية بمجازر بشعة و مروعة..
لقد استهدف هذا الفرز بحدود 85% من ضباط وصف و جنود اللواء المنتميين لمناطق الشمال و الضالع و يافع و ردفان وذلك على أساس مناطقي في المقام الأول .. كانت تلك هي المرحلة الأولى من تنفيذ المخطط على صعيد المعسكر .. هكذا تم الاستيلاء على اللواء .. فيما المدنيين في مناطق شتّى طلبوا منهم ضرورة الحضور في اجتماعات حزبية، و منها تمت الاعتقالات، و لاحقا تمت التصفيات الجسدية .. الحقيقة أن من أطلق على 13 يناير اسم المؤامرة كان محقا إلى حد بعيد..
أسوأ قاعدة لـ “ميكافلي” تم تنفيذها هنا على نحو بشع .. إنها قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة” .. دمامة المؤامرة، و قبح الغدر و الخديعة .. و بشاعة في التنفيذ .. و الأكثر سوءا و تخلفا و رعبا أن أول معايير و اعتبارات الفرز، كانت مناطقية على نحو فج و صارخ..
لقد تم تصفية الكثير لمجرد انتماؤهم الجغرافي للشمال و الضالع و ردفان و يافع .. بعض من تم تصفيتهم أعرفهم جيدا، و كان لا يهتم و لا يكترث بالسياسة، و لا تربطه رابط بها، و لكن حتى هذا لم يشفع لهم أو يخفف عنهم .. تمت تصفيتهم تنفيذا لمخطط دام، و انتقاما لهزيمة مدوية..
عند زيارتي للواء شعرت بالأسى و الوحشة و الحزن العميق .. شاهدت أثار الدماء على أرض الغرف و الجدران .. بقايا شعر رؤوس آدمية هنا و هناك، و بعضها لا زال ملتصق بجدران الغرف و آثار الرصاص لا زال شاخصا و شاهدا على قبح الفعل و إجرام صاحبه..
ملابس عسكرية و مدنية عليها الدماء مرمية على الأرض .. رائحة الدم كانت لا تزال نفاثة .. الممرات تحكي إن الموت مر من هنا .. صال وجال و عبث .. الوحشة تسكن الأمكنة و الزوايا .. و المجازر قابلتها مجازر من الطرف الآخر، أغلبها كان بدافع الانتقام، دون أن يخلوا هذا من طابعه المناطقي، و اكتظت الأرض بالضحايا..
الملازم علوان من أبناء محافظة إب كان في نفس سريتي و أيضا جاري في السكن بعدن و هو من خريجي الكلية العسكرية الدفعة الحادية عشر .. أصيب بطلقة في خاصرته عند هروبه من مصير أكيد و موت محقق لا يفصله عنه غير ساعة زمن أو أقل من ساعة .. نجا بأعجوبة..
جاء في روايته إن لم تخنِّ الذاكرة:
((أخذونا من السجن مليان بابور بعد أن ربطوا أيدينا إلى الخلف و جميعنا من أبناء الشمال و يافع و الضالع و ردفان .. كنت أشعر أنهم يريدون تصفيتنا، و كنت أحك الحبل الذي يقيد كفاي إلى نتوء في البابور .. و كان الوقت ليلا و الظلام دامس .. في الطريق تأكدت أنه سيتم تصفيتنا في وادي حسان .. و بعد جهد جهيد استطعت أن أمزق وثاقي بذلك النتوء الذي ظللت أحك وثاقي به خلال مسافة الطريق .. كان بعض الزملاء بعد أن عرفوا وجهتهم و إن الموت صار قريب، بعضهم كان يبكي و بعضهم يترجى .. أحد الضباط اسمه نصر من أبناء ردفان، و كان كما عرفته يغلب عليه حسن النية، بعد أن أدرك أنه ذاهبين به إلى وادي حسان، و إن هناك الموت ينتظرهم هناك، طلب منهم التفاوض و هو يضطرب .. كان أشبه بغريق يحاول الإمساك بقشة .. و لكنهم سخروا منه و من طلبه .. الضابط نصر واحد من الطيبين الذين لا يعيرون بالا للساسة و السياسة ..
الكلام لا زال لعلوان: أنا الوحيد الذي استطعت تمزيق رباطي و القفز من فوق البابور، فتداركوني بإطلاق النار و أصبت برصاصة في خاصرتي، و ثانية في يدي، و كان الظلام كثيف، و استمريت بالركض و أنا أنزف و لم يستطيعوا اللحاق بي و قد ساعدني الظلام على الهروب .. عصبت جرحي بقميصي، و أمضيت ساعات طويلة في الركض، و أنا أنزف في الصحراء، حتى وصلت إلى منطقة العلم بين عدن و أبين، و هناك أغمي عليّ حتى وجدتني قوات الاتجاه الآخر فتم إسعافي ونجاة حياتي..))
هناك روايات فاجعة كثيرة .. زميلي الملازم أول الحياني قائد فصيلة في سرية الاستطلاع في اللواء كان ضمن آخرين محشورين في محبس، بلغ عددهم فيه أكثر من ثلاثين ضابط و جندي و صف .. تم إطلاق النار الكثيف عليهم، و قد أصيب الحياني بالرصاص، و لكن لم يمت .. فجاء أحدهم و رمى بقنبلة إلى الغرفة لتقضي على من نجا من الرصاص ليقضي نحبه بقنبلة..
***
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.