ارشيف الذاكرة .. كلية الحقوق .. مفارقات وهوامش
يمنات
أحمد سيف حاشد
التحقت بالدراسة في كلية الحقوق في الربع الأخير من العام 1985.. أغلب الملتحقين في الكلية قادمين من أرياف اليمن.. جلّنا فقراء ومعدمين.. الدولة توفر للمعوزين السكن والتغذية ومصاريف قليلة، فيما الذين لديهم سكن في عدن كانت الدولة توفر لهم المواصلات المجانية، أما التعليم فمجاني للجميع، ورسوم التسجيل السنوية رمزية جداً.. هذا لا يعني أن الدولة توفر كل المتطلبات، أو أنك لن تعاني من وطأة الظروف، ولكن يعني أن الدولة توفر لك الكثير لمساعدتك في أن تتعلم..
كل هذا وغيره مما كان متأتيا ومتوفرا في الأمس، صار اليوم للأسف الشديد في خبر كان.. إذا قارنا ما كان عليه الحال على صعيد التعليم بما صار إليه الواقع اليوم، سننتحب من الأسى ونختنق من النشيج.. الأميّة التي تلاشت وانتهت عادت لتجتاح نصف شعبنا وتتمدد بعجل نحو المزيد.. اليوم التسرب من التعليم على أوجه.. وهشاشة التعليم بالغة السوء.. فيما الغش صار هو القاعدة وعلى نطاق واسع.. وما بقي من المعايير العلمية التعليمية جاري تدميرها على قدم وساق، وبصورة تبدو ممنهجة وحثيثة.. أما فرص المعدمين والفقراء في التعليم فصارت محدودة ومحزنة، بل وأحيانا باتت أشبه بالمستحيل أو المعجزة..
شعوبنا صارت تهرول إلى الخلف، أمام مستقبل صيرته نخب اليوم معتما وشديد القتامة، وقد تمكن التافهون من الاستيلاء على كل شيء، وتم ضرب كل مكتسب ومنجز من الماضي في صميمه ومكينه.. عشت ظروف الأمس رغم صعوبتها إلا أنني تعلمت.. ولوكانت ظرفي في الأمس قائمة اليوم، فلن أتعلم أبدأ ليس الجامعة فقط، ولكن أيضا الثانوية والإعدادية.. لقد توحش واقع اليوم في وجه الفقراء على نحو فاق أكبر الاحتمالات سوءا..
كانت قيم الاشتراكية العلمية تستحوذ على عقولنا.. كنّا نعتز بفقرنا إلى حد بعيد.. كنّا ننظر بازدراء للطلبة الذين يملكون سيارات، ويأتون بها إلى الكلية، وهم عدد قليل وضئيل.. كنّا نتعالى عليهم بفقرنا، ونعتبرهم برجوازية صغيرة، وربما يرتاب بهم بعضنا ويعتبرهم خطراً محتملا على المستقبل، وعلى الفكر الصحيح.. ومع ذلك ورغم فقرنا وعوزنا تعلمنا، وولجنا المستقبل لبعض حين، غير أن اليوم الواقع غير الواقع، والحال في أسوئه، وما كان متاحا في الأمس، للأسف لم يعد متاحا اليوم، بما فيه التعليم.
الدراسة في كلية الحقوق كانت مختلفة عمّا عهدناه من قبل.. الدكتور يلقي علينا محاضرته شفاهه، وكان علينا أن نلاحق تدوين ما يقول، وفي أكثر الأحيان لا يعيد ما قال.. كانت يدي ثقيلة تتصبب عرقا، بسبب مشكلة في الغدد.. وأبدوا في هيئتي تلك، وأنا أهرع بعد كلمات الأستاذ أشبه براكض متعثرا بحذائه في سباق الضاحية..
كنت أغبط الطالبات لأنهن في هذا السباق جياد.. كانت بعض المفردات تفوتني أو تطير منّي فتضيع الجُمل وتشرد العبارات، ولا ألحق تدوينها، ثم أحاول التجاوز بفراغ أحيانا يطول سطر أو أكثر، ثم أعمد في وقت فراغي أو مذاكرتي إلى إعادة قراءة ما سبق، ووضع المقاربات المحتملة للكلمات أو الجمل التي شردت عنّا؛ فإن أستحال الأمر أو أُشكل علينا؛ فزميلاتنا لمثل هذا الفراغ رسم ومرجع.
كان الدكتور يسجِّل لنا عقب كل محاضرة مجموعة من المراجع، وعلينا قراءة كل ما فيه صلة بالموضوع، ثم في موعد “السمنار” كل يستعرض مفهوميته.. وكانت تتبع الكلية مكتبة وفيرة بالمراجع والكتب..
كل موضوع أو درس يمر علينا يستمر معنا حتى تكتمل دورته، حيث تبدأ بالمحاضرة، مرورا بقراءة المراجع ذات الصلة، ثم السمنار أو المناقشة، ثم الاختبار، ويتوج بالامتحان مسك للختام، وتكون النتيجة هي الخلاصة أو المحصِّلة.. كانت الجامعة في عدن بكلياتها المختلفة رغم ثقل الأيديولوجيا، إلا إنها تصنع معها وعيا وابداعا وفكرا وثقافة..
ظلت ترافقني في الجامعة رغبة القراءة بصوت عالي حتى بلغت حد الاستحواذ.. صار يتملكني طبعا ولا أستطيع الفكاك منه، ولا أكتفي بهذا، بل احتاج أيضا لبني آدم يستمع لحديثي عند المذاكرة، وزائد على هذا وذاك أحتاج من يناقشني ويسألني..
كان زملائي محمد قاسم أسعد من ردفان، وعبيد صالح وصالح القُمّلي من الشعيب، وعبدالاله مشهور من يافع، وقائد حسن حزام من المعلا، ومحمد ربيع عميران من “القلوعة”، آنس لهم وأستمتع بمجيئهم إلى البيت للمذاكرة، وأحيانا يملنّي أحدهم أو يتمرد، فاستعيض عنه بآخر، وعندما يقرفني الجميع وربما يضيقون بطبعي أو أنانيتي ويتمردون، ألوذ إلى خالتي “سعيدة” التي لا تقرأ ولا تكتب، وأعلن بها إنتصاري على من قرفني..
كانت خالتي تستمع لي وأنا أشرح لها دروسي، وأتحدث إليها وعمّا قاله ماركس ولينين وأنجلس وهي “الأمِّية” صبورة وطويلة البال.. كان النعاس يداهم عيون خالتي في كل حين، وهي جالسة تستمع لي، ومن أجل أن اجعلها يقضه أطلب منها أن تردد ما أقول مرة ومرتين وثلاث لتشتد وتندمج معي ومع ما أقرأ.. كنت أشعر أنني أتنازعها مع النعاس والنوم، وعلى نحو مرهق ومُلِح حتى صرت أجيد في فترة لاحقه إدارة الاشتباك مع النوم.. آه كم كانت خالتي هذه صبورة وطيبة وودودة..
يتبع..