فضاء حر

ارشيف الذاكرة .. الحب الناقص نفسه .. صديقي والحب الناقص نصفه

يمنات

أحمد سيف حاشد

كان لصديقي و زميلي محمد قاسم قصة حب مشابهة، ربما في أكثر من وجه مع قصتي .. كثيرا ما أحسست به و هو يتلظى بكتمان صبور، و يكابد معاناة الحب الناقص وحيدا و منفرد .. محمد أعطى للصمت مهابة و جلال و هو يصلي في وادي الجحيم و يحترق .. يتعذّب في لوعة الحب المشتعل .. لطالما حدثت نفسي عنه، و قلت: ما لدى محمّدنا من الحب حيال من يحب، يكفي أن يوزع على كل نساء الأرض و يضاعفه .. يا بخت من أحببت يا صديقي..!! لقد كان حبك كبيرا، و عظيما بحق .. كنت أشعر بما يتأجج داخلك من حب، و بمدى الجحيم الذي تصطلي فيه .. صبرك ليس أقل من صبر نبي، و قومك من تحب .. عطاءك في دروب الصبر لم يكن متحفظا، و لا كان يوما معلقا بشرط .. تبتلك و صلواتك كانت لوجه الحبيب دون أن ترجو أجرا أو ثوابا لتنعم به في الحياة الثانية..

الحب الصامت و الخجول و المقموع في ذواتنا يا صديقي هو حب بالغ العفة و الصدق و الإيثار .. تضحية بالغة من طرف واحد دون الآخر .. مشقة كاملة غير مقسومة على اثنين .. حب ناقص نصفه، و لكنه بالغ لمن يعرف معاناته، و صبر صاحبه .. حبنا يا صديقي عظيم و مدفوع بجسيم التضحية، و قد بلغنا فيه من العذاب حد الجحيم .. هذا الحب يا صديقي عشناه و غرقنا فيه حتى العمق، و أبحرنا فيه إلى أقاصي حدود التيه و التلاشي، و لكننا أيضا استعدنا أنفسنا من جديد على نحو أكثر حضورا و وجودا و تجددا..

كنت يا صديقي أسمع أصدقاءنا المقربين جدا، و هم يحتسون “الحش” و التندر، و يتبادلون الغمز و اللمز حيالك، و حيال من تحب، كنت أخفي عنك كل ذلك لأنني أعلم طبعك، و فداحة ما يمكن أن تفعله بهم و بنفسك .. و في المقابل قررتُ التأكيد على كتمان قصتي عن الجميع .. ظللت أعيش قصتي و النزيف بصمت و كتمان أشد، و ربما أحسست أن افتضاحي كان كمن يستدعي الحكم بإعدام مستقبلي، و اضطراري إلى قطع دراستي في الكلية، و مغادرتها إلى لأبد..

كتمت آهاتي و أوجاع العذاب عن الجميع، و لم ابح بسري إلا في لحظات وحدتي المتشردة، و انفلات عقالي في الحلم عند النوم العميق .. الحب الصامت يا صديقي أجل و أعف و أقدس .. يعيش داخلنا مشتعلا و متأججا، و نحن نداريه و نخفيه عن الأعين، و نحاصره في الوعي، و في اللاوعي ما استطعنا..

إن حُبَّنا يا صديقي يشبه البراكين المتأججة و المضطرمة تحت قشرة الأرض .. يذيب صخور الأرض في جوفها، و إن تراكمت على سطحها طبقات الثلج و جبال الجليد .. نخنق بوحنا و مشاعرنا في أعماقنا، و نتظاهر أننا على أحسن ما يرام .. هذا يا صديقي لا يفعله إلا الكبار أمثالنا..

هذا الحب يا صديقي حتى و إن كان معاقاً و مصلوباً و معذّباً إلا أنه تجذَّر فينا إلى حد التماهي وعيا و وجدانا و ذاكرة .. حب كابدناه و واريناه تحت الضلوع ناراً تصطلينا من الداخل كالجحيم، إنه الفشل الذي تفوقنا فيه، و أدركنا ما لا يُدرك منه، و لكننا عوَّضناه بنجاح آخر في ميادين أخرى، و بإرادة و إصرار لا يملكها كثير ممن أكتمل حبهم..

هذا الحب بقدر ما سبب لنا يا صديقي من العذاب، إلا إنه ألهمنا إلى مغالبة التحدِّي، و إيجاد ذواتنا و اقتحام دروب نجاحات أخرى .. لقد أصبحت أنت دكتورا و أستاذا في أكاديمية، فيما أنا شقِّيت طريقا آخر، و لم نستسلم للموت، و لم نقضِ بقية العمر نبكي اللبن المسكوب، و الحب الذي لم يكتمل نصفه، بل استطعنا بإرادة مضاعفة مغادرة دائرة الفشل، و العبور إلى المستقبل، رغم المعوقات و الكوابح و الظلام الكثيف..

إننا يا صديقي نشبه ذلك المعوق الذي بُترت ساقيه في الحرب، إلا أنه غالب و غلب إعاقته، و حقق من النجاح بعد الإعاقة أكثر مما حققه و هو سليم معافى، بل و حقق ما لم يحققه كثير من أقرانه المتعافون عقلا و حواسا و بدنا .. النجاح يا صديقي أن نحوّل نقاط ضعفنا إلى قوة، و نقصنا نتجه به نحو كمال ننشده..

يتبع

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى