العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. زواج الخمس دقائق

يمنات

أحمد سيف حاشد

  • يمضي الزمان إلى الأمام في وجهته ولا يعود .. لا يكتمل مساره و لا ينتهي .. يغادر ماضيه إلى الآتي على نحو مستمر دون توقف أو عودة أو انتظار .. أما أنا فلم أكن أبالي بما يمر من سنين عمري حتى خلتُ أن بمقدوري الاستيلاء على مقوده، و التحكم بفرامله، و تغيير وجهته؛ فاكتشفت أن أيامي تمضي بعجل دون مهل، و عمري ينفذ بسرعة، و ما أنقضى منه لا يبقى و لا يعود..
  • بدأت خيبتي على صفحة مشاعري كحبر يفيش عليها و يتسع .. بدأ خجلي يعرِّيني و يكشف قلة حيلتي .. بدأ هلعي يزداد، و يزيد في إيقاظ محاذيري المنسية، و يثير مخاوفي التي لطالما سخرت منها، و دفنتها في أعماقي البعيدة، فيما مضى من سنين عمري المهدرات..
  • مرت السنون كما تمر السحاب .. سحاب صيف لا غيث فيها و لا رشة مطر .. أحسست أنني أدنو من “عنوسة” الرجال، و أنا أدخل عمر الثمان و العشرين عام، و ما يمر من العمر لا يعود ثانية .. أحسست أن الانتظار الطويل و خجلي المسيطر سيسرقان سنين عمري الباقيات..
  • كانت تذهب منّي جميلة، فأرفض أن تأتي دونها، و أذهب للبحث عمن هي أجمل منها، لا أدري إن كنت ما أعانيه مرضا أم سوية..؟! تحدٍ أم اختلال..؟! طبيعي و معتاد أم اضطراب نفسي و سلوكي .. أم هو كل هذا..؟!! ذهب الجمال إلى البعيد، و هبط الندم كقدر، و عشت جحيمي لوحدي..
  • لم تقتصر شروطي على الجمال، بل تشددت أيضا في غيره حتى صارت المواصفات التي أبحث عنها في فتاة أحلامي بمقاس المستحيل، و التي لن أجدها حتى في بنات الحور، و لا في مخيال البداوة الندي .. فالأقدار الوفيرة لا تأتي إلا بين ندرة و محال .. كما لا تجي زمرا، و لا تتكرر إلا بصدفة تشبه العصي من المستحيل .. و حتى إن وجدتها في معجزة للقدر، فمن يضمن أنها ترضى بأقداري البائسة..
  • في لحظة اضطراب غير سوية تمنيت أن يكون هناك معرضا عالميا لطالبي الزواج، و في جانب كل طلب “كاتلوجا” مرفقا به، يتضمن كل صفة و رغبة و تفصيل؛ غير أن صوتي صرخ من داخلي..! و سخر مني صداه..! : “ما هكذا يا سعد تورد الإبل”!!

– فقلت: أنا لا أقصد تسليع المرأة، و إنما أقصد إننا نحتاج إلى تحرير الوعي و تحرير أنفسنا من العُقد و الموروثات التي تمنعنا من أن نتصالح مع أنفسنا، و نحسن اختيار من نحب في ظروف سوية .. ما أحوجنا إلى نقد و تفكيك و تعرية ثقافة العيب التي تثقل كواهلنا، و تجعلنا ننافق و نخاتل، و نرتدي ثياب الزيف، و نخفي دمامة و بشاعة الوجوه بالأقنعة المزيفة..

 

  • أحسست أن عمري يمضي بإيقاع سريع، و ما كنت أبحث عنه بدا لي خليط من المستحيل، مثقل بخجلي الكبير، و عُقدي المعلنة، و غير المعلنة المحبوسة في دهاليز أعماقي البعيدة، و تناقضاتي التي تحتدم داخلي، و ضميري المقاوم لزيفي و عقدي التي أخفي و أداري بعضها في الزوايا البعيدة المظلمة التي لا تصل إليها شمس و لا ريح .. فضلا عن معاناتي من مجتمع مثقل كاهله بتخلفه، و مشروط بواقعه الثقيل..
  • حدثت نفسي: يجب أن أهزم خجلي أولا .. هذا هو بداية الطريق .. لم أعد احتمل مرور الوقت عبثا و سدى دون طائل .. يجب أن أجد فتاة أحلامي بأسرع ما يمكن قبل أن يفوت قطار العمر الذي لا يعود .. كنت أعيش كثير من الضغوط فضلا عن شعور اللحظة التي أعيشها، و مدى احساسي بالأمل أو التحدّي أو التعاسة و الضجر..
  • و أنا أغادر منزل صديقي نصر في التواهي، خرجت حسناء من البيت التي في جوارهم، عائدة إلى بيتها القريب .. كانت فتاة جميلة و مشرقة و نابضة بالنور .. أسرعت في خطاي لأدرك السير في محاذاتها، ثم ملت إليها قليلا فيما كانت عيوني و نظراتي لازالت مصوبة نحو الطريق و قلت لها:

– هل تتزوجيني..؟؟

قلتها دون مقدمات وأنا أريد أن أسحق خجلي، و أختصر طريق الألف ميل بخطوة واحدة، و أقطع بها دابر العنوسة التي توقعت إن طالت ستتحول إلى عقد إضافية و رهاب لا يزول..

ألتفتت الفتاة إليّ بدهشة مُربَكة، و لم ترد على طلبي ببنت شفة، بل ركضت مهرولة و مسرعة إلى بيتها الذي كان بمحاذاة الطريق في مكان غير بعيد..

فتحت شرفتها، و أطلّت منها تحدج فيني بدهشة و لهاث و أنفاس متقطعة .. يبدو أنها لم تستوعب بعد ما حدث لغرابته .. صحيح إنها غرابة تثير فضول الحجار، و لكني كنت في الحقيقة، جادا و صادقا و مستعجلا حتى النفس الأخير..

  • و في “التواهي” أيضا و فيما كنت ذاهبا إلى منتزه نشوان أيام شهرته، شاهدت فتاة في وجهها مملكة من الحسن و الجمال تستحق أن أسحق من أجلها خجلي الكبير .. راقت لي و عزمتُ على البوح لها بما أريد بسرعة و اختصار لا يخلو من كثافة و عجل، أتمه بطلب الزواج منها..

لحقتُ بها، بعد أن عقدتُ العزم على الحديث معها خمس دقائق، و يكون مسك الختام طلب الزواج منها .. و عندما استوقفتها بجملة “لو سمحتي .. لو سمحتي” ركبني الإرباك، و خانتني اللسان و الشجاعة، و بدلا من أن أقول لها: “ممكن أتكلم معك خمس دقائق” قلت لها: “ممكن أتزوجك خمس دقائق” .. و هي بدلا من أن تشيح بوجهها عني و تمضي إلى سبيلها؛ استدارت نحوي، تتفرس في وجهي الذي كان مكسو خجلا و نكسة، ثم قالت: “أني لا أتكلم مع مجانين” و مضت في طريقها، و تركتني خلفها أجر خيبتي كمذَنّبٍ منتحر..

شعرت بإحباط شديد، و لعنتُ خيانة لساني و شجاعتي و حظي العاثر أيضا .. و مع ذلك أدرجته في إطار “الفشل بشكل أفضل” الذي تحدث عنه “صوميل بيكيت”.. تجاربي السابقة كانت تهدر سنوات من حياتي، ثم يأتي عقبها الفشل و الحصاد المر .. أما هذا الفشل فإنه يتفهم قيمة الوقت و لا يهدره..

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى