ارشيف الذاكرة .. الخطوبة
يمنات
أحمد سيف حاشد
طلبت أم الفتاة مهلة من أجل السؤال عنّي، وهو ما كان يعني بالنسبة لي مزيد من الانتظار والأرق الذي لا أعلم كم سيستمر.. صرت لا أحتمل كثيرا من الانتظار دون جواب، أو جواب يستغرق كثيرا من الوقت للوصول إليه.. بات قلق الانتظار يجهدني ويستنزف روحي المتعبة الباحثة عن توأمها في مدارات الصدف، وبقاياي لم تعد قادرة على الصمود تحت رحى ودوران الانتظار الثقيل..
لم أعد أطيق خيبات أخرى وقد امتلأتُ بها فيما مضى من الوقت.. كاهلي مثقل بالهزائم ولم يعد بمقدور الحيل المهدود تحمّل نصف هزيمة أو ربعها.. لا يوجد في العمر بقية تسعفني لتجارب أخرى، أو فشل ذريع آخر.. صرتُ وكأنني أعيش الوقت الضائع، وبقية من فرصة أخيرة إهدارها يعني الضياع والتلاشي إلى بدد..
حالفني الحظ هذه المرة، ولم يستغرق أهل الفتاة في البحث عن مصدر المعلومة والإجابات على أسئلتهم غير أيام قليلة.. كانت إقامتي السابقة عند عمي فريد الذي كان يقيم في مكان قريب، وكذا بيت عمي الحربي الكائن في مكان غير بعيد، ووجود عدد غير قليل من معاريفنا ومعاريفهم المحيطين بنا قد ساعدهم في الحصول على ما يريدون من المعلومات بيسر وسهولة..
كنت أنا أيضا بالموازاة أبحث لأعرف وأستوثق وأطمئن أكثر عن الفتاة التي صادت فؤادي، وأردتها أن تكون شريكة حياتي حتّى آخر العمر.. لحسن الحظ كل الإجابات جاءت بما يسر ولصالح كلينا..
أراد أهل الفتاة معاينة بيت الزوجية ليطمئنوا على مدى صلاحيتها؛ فكان لهم ذلك، وكانت النتيجة كما بدت لي في خلاصتها بدرجة مقبول.. شعرت أن هذه النتيجة تشبه نتائجي في مادة اللغة الإنجليزية في الجامعة.. غير أن الأهم لدي ظل هو تجاوز ما أخشاه.
البيت كانت عبارة عن بيت شعبي أرضي متواضع للغاية ينطبق عليه مثل “دبر حالك”.. شكلها أشبه بزقاق أو ممشى طولي تم تقطيعه.. غرفة تليها غرفة ثانية، بسقف خشبي رفيع وخفيف يعلوه زنك، وتلي الغرفتان دارة غير مسقوفة، ثم يليهما مطبخ وحمام.. كنت يومها أعيش في هذه البيت أنا وخالتي أم أخي، وأطفال أخي منصور وندى..
الحقيقة لم أكن المتقدم الأول لطلب يد تلك الفتاة، بل سبقني إليها عدد من المتقدمين بعضهم لم يصل إلى مرحلة الخطوبة، وبعضهم وصل ولكن تم الفسخ، وإحداهم وصل إلى مرحلة العقد، ولم يصل إلى الزفاف، ولم تستغرق أطول تلك المراحل والفترات إلى أكثر من بضعة أشهر..
كانت الفتاة ترفض فتستجيب الأم لرفضها، وعندما تكرر الأمر تدخلت سلطة الأم القوية، وباتت الفتاة تُرغم على الموافقة، وكان تمردها ومعاملتها لمن تم فرضهم عليها سببا آل إلى الفشل.. هذا وغيره كنت قد عرفته مسبقا من خلال رفيقتي أم شريف.
كانت أم الفتاة ذو شخصية قوية ومهابة، وفي نفس الوقت لا تخلو من طيبة.. كانت تملك سلطة قوية ونافذة في بيتها على جميع أفراد الأسرة، بما فيهم زوجها الطيب الذي توفى قبل سنين من مجيئي إليها.. كدت أكون أنا أيضا واحدا منهم لاسيما في فترة الخطوبة والعقد إلى يوم الزفاف.. كانت هي صاحبة الكلمة النافذة في البيت، بما فيها حتى تلك التي تخرج منها تعاطفا أو تبدو استجابة لرغبة المعني الأول في الشأن بعد تصويب ومراجعة..
الأم تفرض كلمتها على ابنتها في قبول الخطوبة أو العقد، فيما الفتاة تتمرد وتلعب دور تأزيم العلاقة وإفسادها وإيصال الأمور إلى طريقها المسدود.. كانت تُضرب وتُرغم على القبول، ثم تعاني وتتمرد وتفسد ما تم، وتُفشل مخرجات هذا الإرغام.. ثم تراجع الأم موقفها وتتخذ قرار التراجع الأخير الذي ظل هو الآخر بيدها.
كنتُ المتقدم الوحيد الذي حصلتُ ابتداء على موافقة ورغبة الفتاة في أن أكون شريكا لحياتها أو تكون هي شريكة لحياتي بمليء إرادتها واختيارها.. ربما كان هذا هو الفارق مع من سبقوني إليها.. ربما بديت هنا بالنسبة لها فارس أحلامها، وربما أيضا المُنقذ لها من إخفاق وإرغام، فيما كانت هي حلمي الكبير وآمادي القصية، ونصف وجودي الذي أعياني البحث عنه..
أختها الصغرى إشراق هي من قالت لي: “أنت أول شخص توافق عليه من غير ضغط.. كانت مبسوطة بمقدمك ومتحمسة للخطبة والزواج.. كانت طائرة من الفرح.. وكنتُ مستغربة سبب فرحتها فيك، وكأنها كانت على علاقة بك.. مستغربة لأني كنت أراك شخص ريفي، فيما كانت هي قبل أن تأتي إليها تتخيل فارس أحلامها بقصة شعر موضة، ولبس آخر موديل..”
لقد كانت بالنسبة لي نصف وجودي الذي أعياني البحث عنه.. لقد عاش كل منّا تجربته الخاصة بمعزل عن الأخر، وعانى كل منا الكثير من الفشل وعناء البحث، فيما القدر كان يخطط من وراءنا بصمت أن نكون لبعض، وكانت الصدفة جامعة لنا، وقررت أقدارنا أن نجتمع إلى آخر العمر..
خطبتها رسميا بحفلة متواضعة جدا.. لم يتعد الحضور غير بعض من أسرتها وأم شريف وابن عمي عبده فريد، ولم يتعد الاحتفال شرب البرتقال “السنكويك” ، وجلوسنا جوار بعض، والتصوير، ولبس دبل الخطوبة.. كل هذا حدث في وقت ربما لا يتجاوز الساعة.. مرق الوقت كلمح البصر.. كشهقة عاشق في ذروة الحنين.. أسيف على لحظة تلاشت بسرعة وقد انتظرتها عمرا بكامله.. مرّت بعجالة دون إمهال، وقبل أن أملئ منها النظر، وفي يوم كان يفترض أن يكون لنا طرب وأعياد..
أعجبتني بساطة الاحتفال إلى حد بعيد.. أحسست بوجودي وأنا جالس جوارها.. رعشة كانت تصاحب أصابعي وأنا أمسك يدها وألبسها دبلة الخطوبة.. رأيت الحياة تبتسم وتبارك لنا بعد انتظار طال.. غير أن اقتضاب الوقت نال من غمرة هذه السعادة، ومن بوح الفرح الذي لطالما انتظرته طويلا بصبر مُجالد..
بعد مغادرتي لبيت الفتاة اجتاحتني الأسئلة القلقة، وظلت تلح على ذهني باحثة عن إجابة:
– هل سأنجح في الإبحار حتى النهاية؟! هل سأصل إلى بر الأمان؟! أم سأكون أحد المهزومين الذين مروا من هنا؟! هل سأنجح حتى الأخير في العبور إلى مناي الذي لطالما أهدرت العمر بحثا عنه؟! أم سأكون مجرد اضافة خيبة لي ولها في سلسلة الخيبات المتعاقبة التي عجزت أن تصنع فارقا أو اضافة للحياة التي نرمها؟! هل سأكون الفارس الذي أنتصر أم سأكون واحدا من المكسورين والعائدين الذين يجرون أذيال الهزيمة والخيبة؟! هل بإمكاني العبور إلى نهاية الطريق أم ستخور قواي قبل الوصول؟!
إثر تلك الأسئلة فاضت حميتي وعلت همتي وحماستي فقلت لنفسي وأجبت:
– سأعض على هذا النصيب بالنواجذ.. لن أترك له مجالا للتملص أو الفكاك.. لن أغفل عنه دقيقة واحدة حتى لا أندم وأقول فلت منّي في غفلة بلحظة زمن شاردة “ولات ساعة مندم”.. سأستميت من أجله في اليوم عشر مرات إن لزم الأمر.. سأنشب فيه أطرافي وبكل قوتي، وسأدافع عنه ببسالة.. ستشبث به بيداي وأسناني وكل جوارحي.. فلتفض روحي وتذهب قبل أن يذهب منّي مناي.. مستعد من أجله أن أحارب بقية العمر إن أقتضى الحال.. لامجال للتخلي عنه تحت أي قوة أو مبرر أو عنوان أو مسمي..
أول أغنية أهديتها لها “مش هتنازل عنك أبدا مهما يكون” للفنانة المغربية سميرة سعيد لتعبّر عن بعض ما يجيش في وجداني من حب، وعن لسان حالي وإصراري، أقتضب من كلماتها:
“ياللي اديت لحياتي في حبك طعم ولون
مش هتنازل عنك ابدا مهما يكون
دا احنا لبعض حنفضل دايما
طول العمر حنفضل دايما
مهما يكون … مهما يكون
انا حبيتك لما لاقيتك قدام عيني حلم بعيد
كان في عنيا صعب عليا وبعد شويه بقي في اليد”
أكبر أشقائها كنت أراه عندما أصادفه متجهما وغضوبا.. لا أذكر أنه مر من جانبي خلال تلك الفترة وألقى عليّ السلام.. كان حاد الطباع ويبدو متشددا في الرأي.. كنت أشعر أنه غير راض عنّي، بل ومعارضا لي بشدة، وهو شعور لطالما اجتاحني مرارا.. لا أدري ما السبب؟! أظنه ضاق من تكرار فشل خطوبة شقيقته أكثر من مرة، أو ربما بسبب عدم توفق صديقه في خطوبتها التي آلت إلى الفسخ، وربما لسبب أخر لا أعرفه.. كل ما أنا متأكد منه هو إحساسي أنه لا يطيقني، ولم يكن بيننا أي كيمياء ولا ود من أي نوع كان؛ ولذلك كنت أشعر أن المجهول لازال يتربص بي.. أحسست أن الطريق أمامي لازالت غير سالكة على النحو الذي أروم..
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.