الأدب الوبائي..
يمنات
م. خلدون العامري
الأدب الوبائي: يعرف بأنه مجموعة الأعمال الأدبية، السالكة سُبل المتعة الفنية والمعنيّة بالحياة، والطبيعة، والبيئة، والمجتمع بشكل عام، والتي تعنيّ برقي الإنسان، وتخليصه من الآلام المعنويّة،،
يتميز هذا النوع الأدبي بالعالمية، والدقة، وشدة الحساسية.
– عالمي العناء حيث يجسد تآزر الإنسانية في مواجهة عدو واحد يهدد البشرية، دون الإلتفات للدين أوالعرق أواللغة.
– الدقة في التقاط الأحداث الآنيّة والاشتغال عليها أدبيا، وبمنهجية علمية واعية.
– شدة الحساسية من حيث النظر إلى الواقع من زوايا يرى أنّها مُعتمة أو ميّتة ويعمل على تنويرها وإحياؤها بمصابيح الفن ونفخة الدهشة.
وفي حين أن الأدب مرآة الحاضر، وانعكاس الماضي، ونبأ المستقبل؛ فالنص الأدبي هو محصلة لتفاعلات الكاتب مع المحيط التاريخي والاجتماعي الذي يغذي ذكرياته وعلاقاته ويحرك النزعة الفكرية، والفنية بديناميكية فعالة.. فعند الكوارث البيئية وتفشي الأوبئة تظهر المقدرات الأدبية للكتاب، مسندين الإنسانية بالرسائل الهادفة في مواجهة المخاطر، وكبح جماحها لتتعافى الحياة، ويعود النبض لحركتها من جديد، وتتلخص مهمة الكُتّاب هنا في تبديد مساحات الظلام، من خلال بث النور، لتمضي المجتمعات في سبل أكثر فسحة، وأشد وضوحاً متمتعةً بوضع بيئي أكثر صحة وسلامة،،
وباعتبار أن الطبيب معني بالشأن الصحي، في محاربة الأمراض وتخفيف الألم وانقاذ الحياة؛ ايضا للكُتاب جبهات أخرى لا تقل أهمية من خلال محاربة الجهل، والظلم والفساد،،
فالكُتّاب جنود يطلقون مدافع نصوصهم مدوية في وجه الكوارث والأوبئة.
نشأة الأدب الوبائي:
✶الأدب الغربي منبع غزير ومدرسة سباقة،، منذ القدم حضرت الأوبئة في الأعمال الأدبية بمختلف فروعها.
في العصر اليوناني وردت الأوبئة مُرسِخة العلاقة السببية بين الوباء والخطيئة، جاء في الملحمة الشعرية الإلياذة 800ق.م “أجاممنون يأسر ابنة قسيس للإله أبولو، فيتفشى الطاعون في جيش اليونان”.
ثم تسللت الفكرة السببية من الثقافة اليونانية إلى مختلف المعتقدات والأديان، هذا ما رأيناه اليوم معاصرا مع تفشي الجائحة التنفسية كورونا الوباء الذي اختلفت فيه وعليه فتاوى رجال الدّين -بمختلف ديانتهم ومذاهبهم- إذ اعتبروه عقوبة سماوية.
كما وجد كم زاخرا من الأعمال التوثيقية التي تناولت الأوبئة الفتاكة محددة الزمان والمكان ومدى الفداحة،، أبرز تلك الأوبئة الطاعون، والكوليرا، والانفلونزا الإسبانية التي تنحدر منها الجائحة التنفسية يومنا هذا كورونا،،
ومن التوثيق إلى أدب الخيال، تفرد الأدب الغربي باثراء الساحة الأدبية بعدد من الأعمال الروائية، منها “الحب في زمن الكوليرا” لغابرييل غارسيا ماركيز، و”العمى” لخوسيه ساراماغو، وقصة “الهوصار على السطح” لجان جيونو، و”مرضى الطاعون” لمارسيل بانيول، و”نميزيس” لفيليب روث، و”يوميات عام الطاعون” لدوفو، و”الوليمة في أثناء الطاعون” لبوشكين، و”الطاعون” للكاتب الفرنسي من أصل جزائري- ألبير كامو.
✶الأدب العربي مستقطب للتيارات والمذاهب الأدبية الغربية الجاهزة ك الشعر الحديث، مستنسخًا الأعمال الأدبية الغربية (توثيق، شعر، رواية خيال).
*في التوثيق: تزخر مكتباتنا بالعديد من الكُتب التي تناولت الأوبئة، خاصة الطاعون والجدري: جاءت كتب إبن خلدون وإبن بطوطة مُتضمّنة لصفحاتٍ عن تفشّي الطاعون وبطشه وفتكه بالأحياء.
كما حرّر كل من العسقلاني، والحافظ بن أبي الدنيا، والديباجي، والتلمساني بن أبي حجلة، وإبن طولون، مؤلّفات حول الأوبئة.
*في الشعر: هناك كم من القصائد الشعرية المعاصرة، لكنها للأسف فقيرة المفاهيم المعرفية، خالية الرسائل الهادفة، مقتصرة في الغالب على ذكر الوباء مجازًا من خلال توظيفه لأغراض أخرى كالحب والحرية والإرادة وغيرها.
أما الشعر الحديث فهو مدين في ولادته للوباء وليس العكس، فيعزى لوباء المكوليرا خلق اللبنة الأولى في مداميك الشعر الحديث من خلال تجديد شكل القصيدة العربية على نهج التفعيلة الواحدة، هذا ما اجترحته الشاعرة العراقية نازك الملائكة في قصيدتها ” الكوليرا” عام 1947 ومن بعدها تهافت الشعراء على نظم نصوص الأوبئة السل والطاعون، من هؤلاء الشعراء ” أمل دنقل، السيّاب، على الجارم، التجاني” وغيرهم.
*في رواية الخيال التي تعتني بالخيال العلمي وتوظف الأوبئة في تحديد مصير الإنسان وكيفية خلاص الأرض منه، لم يأتي الأدب العربي بجديد فقط استنسخ أعمال الأدب الغربي وأعاد قولبته، ظهر ذلك جليا في العديد من الأعمال مثل رواية “حكاية العربي الأخير 2084” لواسيني الأعرج وروايتي “خان الخليلي”، و “الحرافيش” لنجيب محفوظ، كذلك روايات أحمد خالد توفيق.
*وبالرغم من الإستقطاب والإستنساخ، يبقى الأدب العربي بعيدًا عن مواكبة الحاضر، غافلًا عن المجاعات والأوبئة والكوارث التي عايشها خلال القرنين الماضيين ولا زال يعايشها حتى اليوم (كوليرا، طاعون، انفلونزا، ايبولا، كورونا، مجاعات، حروب، كوارث طبيعية).
نستغرب أي حجب حاجزة تقف بين الثقافة العربية وبين المعاصرة؟!
هل غسلت النهضة والحداثة ذاكرتنا من المآسي، أم أن الثقافة العربية لا تزال تبحث عن علاقة مفقودة بينها وبين حاضر مغطى بما يشبه العمى الذي ضرب أبطال رواية ساراماغو؟!
في الرواية المعاصرة نكاد لا نعثر سوى رواية “ايبولا76” للكاتب السوداني أمير تاج السر الرواية ذات الوعي التجريبي التي صدرت في بيروت 2012، كعمل نموذجي لرواية الأدب الوبائي العربي وفيها يصف الروائي الوباء التنفسي إيبولا، الذي ضرب الكونغو وامتد إلى مدينة أنزارا جنوب السودان، وإلى جانب هذه الرواية لا نكاد نعثر على شيء، باستثناء رواية “اليوم السادس” ل أندريه شديد.
ويبقى السؤال لماذا لم تلتفت الرواية العربية إلى الأوبئة والجراد ومجاعة الحرب العالمية الأولى؟ باستثناء أعمال بسيطة بأثر رجعي ك رواية “زينب” لمحمد حسين هيكل الرواية اليتيمة التي جمعت بين مواضيعها الأمراض والأوبئة التي عانت منها المجتمعات العربية جراء المجاعات وأمراض الحربين العالميتين (من طاعون وكوليرا….)، والأزمة الاقتصادية العالمية.. ورواية “الرغيف” ل توفيق يوسف عواد؟!
وللإجابة يرى بعض المختصون أن الرواية العربيّة في بداياتها لم تحفل بالقضايا البيئية، فقد كانت تعول دائماً على قضايا المجتمع، كالحبّ وتحرّر المرأة، والتحرّر السياسيّ والخلاص الاجتماعيّ من القهر والظلم والجهل، وبالتالي فإنّ الرواية انحازت إلى المجتمع، في حين كانت البيئة المحيطة تغدو ديكوراً أو إطاراً، ربّما أيضاً أنّ القارئ العربي لا يحفل بتلك الموضوعات من جهة أخرى حتّى رواية أدب الخيال العلميّ شهدَ تأخراً في أدبنا العربيّ قياساً بالغرب.
مع ذلك يبقى هناك أمل في قبس الأقلام الواعدة التي تنسج نصوص معاصرة، في الشعر حاز نصيب الأسد الشاعر أحمد عفيف النجار .. وفي القصة الوبائية نجد بصيص في نصوص الكاتبة نجلاء القصيص ومن خلال قصتها المعاصرة “للموت وجه آخر” القصة التي صيغت بأسلوب علمي أدبي جمع بين العلم والدراما وبعد المغزى، بصيص واعد لمشروع روائي وبائي عظيم نتمنى أن يرى النور قريبا.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.