ارشيف الذاكرة .. قبل عقد القران
يمنات
أحمد سيف حاشد
في أول زيارة لها بعد الخطوبة تفاجأت .. وجدتُ شكلها قد تغيّر تماما عن تلك الصورة التي كانت مخزونة في ذاكرتي يوم الخطوبة .. تسألت مع نفسي: ماذا حدث..؟! كيف حدث هذا..؟! من أين جاء هذا التغيير..؟! و من أين أتى هذا الفارق الذي صار يفوق خيالي..؟! كانت تفيض سحرا، فصارت ساحرة على نحو خرافي .. كانت جميلة جدا، فصارت أجمل بأضعاف مما كانت عليه .. بديت كالمسحور و أنا أسأل نفسي: يا إلهي ماذا الذي يحدث..؟!
في أول وهلة تملكتني الدهشة..! أُصبتُ بربكة في استيعاب ما هو أمامي..؟! سألت نفسي في غمرة اندهاشي: من هذه الفتاة..؟! و بعد لحظة و أنا أحاول أن أستحث ذاكرتي، و أجمع أشتات صورتها المنطبعة في ذهني؛ استدركتُ أسأل نفسي: يا ترى هل هي أم غيرها..؟! كنت مشدوها إليها .. مبلودا من الدهشة، و مبهورا بجمال لم أر مثله من قبل .. داهمتني الأسئلة و غمرتني الحيرة على نحو لم أكن أتوقعه..
بديتُ أمام نفسي مشوشا للغاية .. أحسست أنني صرتُ أكتشف حبيبتي و أميزها عمن حولها كونها الأجمل فقط .. و تارة أكتشفها بحدسي و تكهني .. و في أحايين أخرى أتعرف عليها من خلال استحثاث ما أملكه من استشعار بالصور المخزونة في ذاكرتي، و كأن القدر يمازح حواسي المربكة، و يمتحن إيماني بقدرته.
تطلعت بعينيها نحوي بخجل آسر، ثم رأيت إشراقة ابتسامة أحسست بحدسي إنها هي .. سحرها تسلل داخلي كقبس نبوة .. تملكتني بصوفية تجاوزت مداي .. استوطنتني مناجم و كنوز من العجب .. دوحة حب في أعماقي تنتشر و تضرب جذورها في شراييني و آمادي البعيدة .. تفتتني و تبعثرني ثم تجمعني من جديد في دهشة لا تنتهي..
سألت نفسي ثانيا و ثالثا: ماذا صنعت حبيبتي لتبدو بهذه القدرة في صناعة العجب..؟! كيف استطاعت أن تكون أجمل مما كانت عليه، و هي الجميلة دون منازع..؟! كيف تغيّر شكل وجهها عن شكله السابق .. هل هي عيوني المضطربة الفاقدة للتركيز أم عيونها التي صرتُ مسحورا بها إلى الأعماق السحيقة..؟!! عيونها عندما خطبتها كانت عسلية؛ فكيف صارت الأن دعجا بسواد أكثف من لون المسك..؟! تبرق عيناها في عيوني ببشارة ميلاد و حياة و سعادة..
أسبوع مضى و أنا أتخيلها على تلك الصورة التي كانت مكنوزة في ذاكرتي من يوم الخطوبة، ثم أجدها في لقائي التالي على نحو مختلف .. شككتني بحواسي و خيالي و ذاكرتي .. تركيزي صار يتشتت، و غير قادر أن يستوعب ما يحدث..! حيرتي تكبر و تسأل: من أين أتى ذلك الكم الفارق بين الحالين..؟!!
في زيارتي التالية تكرر الحال على نحو مضاعف .. و السؤال يتكرر: ما الذي يحدث..؟!! و بعد عناء و تكرار افترضت أن تسريحة شعرها و لبسها و الشمس و الظل و كل المؤثرات التي تحيط بها، و أيضا ما يخصني من اضطراب التركيز، و تشتت الحواس، و ضغوط و إرباك اللحظة، و ما يحيطني من ظروف تصنع في مجملها مثل تلك التساؤلات، و تستغرقني اللهفة و العجب العجاب..
و في كل حال عندما تكون دون مساحيق أو مراهم أو رتوش تصير أكثر بهاء و إشراقا و حياة .. هذا ما ظللت أوكده و أكرره على مسامعها، مع ملاحظة أنها ظلت على نحو مستمر تزداد إبهارا و جاذبية، و يزداد حبي لها كل يوم أكثر من سابقة، و من دون نقصان أو توقف عن الجريان..
من أجل العبور إلى الضفة الأخرى، أو الوصول إلى مناي الذي لطالما بحثت عنه و لازال مهددا بالفقدان، حرصت على الاستمرار في استمالة الفتاة التي أحببتها، و نيل رضى أمها التي كنتُ أتحاشاها و أخشى انقلابها .. كنت أعتقد أن وجود الاثنتين في اصطفافي ستمكنانني من العبور بأمان، أو السير في الطريق إلى ما أريده دون مخاطر محدقة، أو مجازفة أو انقلاب يحدث على حُين غرة..
كانت لقاءاتنا في فترة الخطوبة قليلة و صعبة و محدودة للغاية .. لقاء عابر و سريع لا أجد فيه فرصة للبوح، أو حتى السؤال الذي يستكشف كل منّا ما في نفس شريكه .. صرنا محروسين بعناية الأهل و ما أكثرهم..!! كل منّا محاط بالحرس المدجج بعيون زرقاء اليمامة..!! كل إلى جانبه ملكين و مشرف، و حراس أفذاذ و يقظين..!!
أحسست أن هناك من يعترض أو يستثقل مجيئي .. شعرت أن شقيقها الأكبر ربما كان له دورا في ذلك أو كان يضغط في هذا الاتجاه .. أنا أيضا كنت استثقل نفسي بسبب هذا الاستثقال الذي أراه و احس به .. أشعر بحرج شديد حياله .. ربما خفف عنّي هذا العبء انشغالي لفترة بدورة قادة و أركان كتائب .. لم أعد أذكر كم هي الفترة التي استغرقتها تلك الدورة، و لكنها كانت قصيرة ربما شهر أو أكثر..
و من أجل أن أتحرر من هذا الاستثقال كان لابد أن أستعجل العقد .. و هذا معناه أن أكون بجاهزية كاملة لكل المتطلبات اللازمة؛ و لذلك لابد أن أعرف كل تفاصيل و متطلبات العقد، و أكون جاهزا لكل الاحتمالات الواردة .. رغم هذا فأنا كل ما أعرفه أن المهر وفق القانون لا يزيد عن ألفين شلن، فيما الذي أملكه أو أدخره بالبريد مبلغ وصل إلى ثلاثة عشر ألف شلن .. مبلغ كهذا بدى لي في خيالي بحجم ثلاثة عشر ألف جمل .. و جمل ينطح جمل.
الحقيقة أنني أول مرة فيما مضى من حياتي أستطيع أن أحبس مالا، أو أوفر شيئا اسمه “نقود”..! أول مرة أستطيع توفير مثل ذلك المبلغ بعد اعتراك استمر طويلا مع يدي التي لا تستطيع أن تحبس المال .. كما أجهل كثير من تبعات و مستلزمات الزواج، و شروط الأهل التي يمكنها أن تفاجئني..
و مع هذا كنت مطمئنا إلى حد بعيد أن كل ما وفرته بات كافيا لأن يتصدى لكل متطلبات العقد و الزفاف، بل و ما بعد الزفاف أيضا بشهر .. اعتقدتُ إن الحال ليس مستورا فحسب، بل أيضا كافيا و وافيا و يفيض .. اعتقدت إن الأمور ستسير على هذا النحو السهل و المريح.
حددنا موعد العقد و ذهبت أنا و ابن عمي “عبده فريد” إلى بيت الفتاة .. استغربت لأول وهلة أنني لم أجد شقيقها الغضوب .. حيرني و أقلقني غيابه إلى حد بعيد .. عدم حضوره يعني أن عقد القران لن يتم، حيث و هو المعني الذي يجب أن أضع يدي بيده أثناء العقد .. شقيقها الغائب هو الأهم الذي افتقدته بين الحضور..
داهمتني الأسئلة و احتلتني الحيرة، حيث لم أجد في انتظاري غير أخوها الأكبر من الأم، و أخوها الأكبر من الأب، و خالها أخ أمها .. ظننت أن أخوها الغضوب معترضا على شيئا ما، أو أنه صار ينفذ انقلابا ضدي، و يريد فركشة كل شيء.. يريد أن يعدم حلمي الجميل و يعدمني معه .. و في أفضل حال و احتمال يريد أن يؤخر موعد العقد حتى تتم تسوية خلاف ما داخل البيت لا أعلمه .. هذا ما ظننته أو فكرت فيه، و أنا أرى اجتماع العقد ناقص من كان يفترض أن يكون في صدره.
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.