ارشيف الذاكرة .. في عالم الحب
يمنات
أحمد سيف حاشد
(1)
حبي الأول في عدن
اعتذار إلى زوجتي وبناتي العزيزات..
خلال دراستي في ثانوية “البروليتاريا” أحببت فتاة من عدن .. جميلة و رقيقة و جاذبة .. كانت حبي الأول الذي لم تكتب له الأقدار نصيبا أو حتى لقاء عابر سبيل .. حب مشبوب باشتياقي المنفرد الذي استمر متأججا دون انقطاع ثلاث سنوات طوال .. أنا أبن الريف المملوء بالحياء و المسكون بالخجل الوخيم .. اشتياقي يشتعل تحت طبقات صمتي بين الضلوع و أجنحتي المتكسرة .. أنا المصلوب بخجلي الذي لا يبارى، و لا يوجد ما يضاهيه..
كنت أقطع المسافات الطوال من المدرسة إلى “قطيع عدن” لأراها فقط عندما تطل من بلكونة بيتها .. خمسة عشر كيلو متر أقطعها في الذهاب، و مثلها في الإياب، و بعض من هذه و تلك أقطعها راجلا بحذاء مهتري، و أعود من رحلتي ـ التي تشبه غزوة أو سفر ـ أما متوجا بالنصر و الفرح إن رأيتها، أو مكسورا و مهزوما و حاملا كُرب ألف منكوب إن لم تكتحل عيني بها..
بفارغ الصبر انتظر يوم الخميس، بقلب و لوع و وجدان مشتعل .. استعجل الأيام إلى يوم الخميس .. انتظره كمن ينتظر ليلة القدر أو “كريسميس” رأس السنة .. أخرج من سكني الداخلي في المدرسة و أقطع تلك المسافة لأراها فقط..
إن رأيتها يصيبني في الوهلة الأولى إرباك كوني يسري بفوضوية في جميع أوصالي و أرجائي .. ترتجف أطرافي و كأنها مسكونة بالعفاريت .. يُربك كياني بزلزال اضطراب و احتدام مشاعري .. استعيد بعضي بعد وهلة، فتداهمني دهشة بحجم السماء .. يتخلق فيني وجود آخر حافل بالعجب، و كأن انفجار كوني قد حدث و تولّد هذا الوجود الذي يزدحم و يكتظ داخلي .. ثم يتبدى أمامي كرنفال من الفرح بعد جزع و دهشة .. قلبي يرقص كمهرجان في الفضاء، ثم يهمي كالمطر .. لحظات كثيفة تحتدم في الوعي حتى شعرت أن لا أحد غيري يعيش مثلها، أو يمر بها في الدنيا سواي..
“بلكون” بيتها في الطابق الثاني، فيما بيت قريبنا مقابلها في الطابق الثالث .. انتظرها كثيرا حتى يحبِّر الانتظار شرفة قلبي المتيم .. أحاول أطل من النافذة كلما وجدت ثغرة للمرور في حقل ألغام العيون، أو فسحة أو فرصة في غفلة من الحضور .. أناور و انتظر .. قلبي يخفق و عيوني تلتاع و تضطرب في انتظار يطول معظم الأحيان..
تخرج لنشر أو جلب الثياب التي جفت على حبل الغسيل .. و أحيانا منتزهة متفتحة كأزهار الربيع .. تقف على السياج ملكة بكنز جمالها و تاجها و سحرها الذي يخطف الألباب و الأفئدة، فيما عيوني تتوسل و تستجدي عيونها، و ترتجى منها المدد..
إن لمحتها و منعني محيطي من الطلول؛ أو أفسدت صدفتنا النحوس الباذخة .. أضطرب و ألفت نظر من في الجوار، فأبدو و كأن الطير على رأسي وقف .. أحاول أن أداري اضطرابي و أجمع أشتات صوابي فيدركني الفشل؛ فأدّعي أنني معتري و محموم المفاصل و الجسد .. معركة صامتة أخوضها في الآن نفسه على جبهتين .. الأولى مع نفسي المتحفزة بالشوق و المُربكة بالاضطراب، و الثانية مع الحصار الذي يضربه عليّ من في الجوار..
عندما أراها أهفو إليها بجماح خيل محبوس في قبوه، و مربوط إلى وتد الحديد .. ملجوما و ممنوعا من الحراك و الصهيل .. روحي تريد أن تغادرني و تتحرر من قيد الجسد .. أنا المكبل بقيودي و اختناقي من ثقل الركام .. أنا الرازح تحت ركام العيب أكثر من ألف عام .. خجلي و وجلي أثقلا كاهلي .. انتظرها على صفيح ساخن لأختلس نظرة محب أظناه الهوى .. استجدي منها لفتة أو رشقة حور .. آه يا قلبي المحب كم حملت من الحب الذي تيم صاحبه، و كم عانيت من العذاب و الصبر الثقيل..!!
أراقبها حتى تغبش عيوني المتعبة .. انتظرها ساعات طوال، فإن ظفرت بنظرة منها، أقع أنا و قلبي من سابع سماء .. تبرق سحبي و تمطر سماء قلبي بمزن البهجة و الفرح .. و ترقص روحي كطفل تحت المطر..
ثلاث سنوات أتلوع بها .. غارقا إلى شعر رأسي في حبها .. و هي لم تدرِ و لم تعلم بحبي لها إلا قبل رحيلها ببرهة زمن .. ثلاث سنوات ذهبت سدى؛ فما عساي و ما عسانا أن نفعل عند ساعات الرحيل..؟!! فات القطار .. فات القطار .. يبست الأحلام الندية في مدرات الفراغ .. يا لخيبة رجائي التي ابتلعت أرجائي و أبعادي الأربعة، و قبلها أنا و حبي المُنتحب..
يا لحظّي الذي أدركته تعاسة و خيبة كل الحظوظ .. قلبت لي الأرض المجن، و أدارت لي السماء قفاها المبتئس، و عواثري بحوافر وحشية رفست أزهاري الجميلة بألف رفسة .. بلعت الخيبة آمالي العراض .. صرتُ مُشبع بالوهم حتى صار الوهم على الوهم مصاب جلل .. يا لخسراني المبين..!! لا عزاء للمُصاب .. رحلت هي إلى الأبد و أقام في روحي الكمد..
أقداري راكمتني بخيباتها، و استكثرت أن ألتقي يوما بها .. صادر النحس الصُدف، و تخلّت عنّي كل الحظوظ السعيدة .. ثلاث سنوات طوال و حبي الجم ملجوما و محبوسا و مكبوسا في أعماقي السحيقة، مسيجا بكتمانه الشديد، و بالعوازل و الحديد .. يا لقهقة تشبه انفجار الحزن في أعماقي السحيقة..
غادرت مع أهلها حي “القطيع” .. كل الطرق تؤدي إلى “روما”، غير أن “روميتي” لا أثر لها .. لا دليل و لا طريق .. تقطعت كل السبل في متاه المستحيل .. فألهمتني بوحا في التمرد، و ثورتني في وجه الغياب..
حد العصيان أحببتها .. اجتاحني تسونامي حبها، و اجتاحني معه الفشل الذريع .. احتشدت في وجهي قرارات الاتهام و سبابات الأصابع حين قالت: من هنا مر الفشل .. ثارت ثورتي و تمردي .. أجتاح الكفر البواح كفر النعمة و المجاز .. تمردت حياتي على مسلماتي الكاسحة، و ثارت الأسئلة في وجه الرتابة و الثوابت و الغياب؛ فكتبت على لوح نافذة غرفة سكني الداخلي ما بلغ إليه تمردي، و وجعي الذي باح بكاتمي .. و رغم فداحة خيبتي و المصاب، إلا إنها منحتني الأهم .. فقد أصابت ثورتي رأس الحقيقة أو بعضها..
خانتني شجاعتي، و لم أجروا على السؤال..!! ما اسمها..؟! أثقل العيب كواهلي، و صيرني ركاما من حطام .. جمعت أشتات شجاعتي من الدنا و الأقاص، في وجه خجلي العرمرم؛ ثم سألت ابن قريبنا عن اسمها؛ فأجابني .. خانني السمع و توسدنِ الخجل .. لم أجروا على السؤال ثانية .. يا لخذلان و عطب الذاكرة .. هل اسمها “ليندا”؟!! أم اسمها “رندة”..؟!! هل ينتهي اسمها بألف أم بياء مقصورة أم بهاء..؟!! لطالما ألتبس عليّ اسمها دون أن أرسي إلى مرسى أو استقر على اسم ضاعت مني أحرفه..!!
انقضى عهد و سنوات طوال .. وبقي الحنين ممانعا عني الرحيل .. أسميت أحدى بناتي “رندة”، و الأخرى “ليندا” تحوطا و مداركة .. هكذا هو جنون الحب الذي لا ندركه .. يا للحنين المقاوم لنسياننا .. و الصامد في وجه السنين الطوال مهما تقادمت .. يا للحنين الذي يأبى أن يموت أو ينطفئ..
كم أنا “خائن” في الحب يا زوجتي و حبيبتي، و كم هو عمري مكللا بـ”الخيانة” .. لا تغضبين، فأنت البقية الباقية .. أنت العشرة الطويلة و ما بقى لي في حياتي الباقية .. حبنا الأكيد باقي و عشرتنا الطويلة لطالما أمتحنها الزمان ألف مرّة .. صمدنا في وجه أحداث كبار و خضات كثيرة .. عبرنا حروب و صمدنا في وجه الأخيرة التي صارت أهوالها أكبر من أهوال يوم القيامة .. كم أنا بشر يا زوجتي و بناتي العزيزات .. اجعلن من الصفح و الغفران و العفو الكريم مسك ختام حتى تسكن و ترتاح روحي المتعبة..
(2)
“أمل” والحب الذي تصحّر بالحرب
أمل فتاة لازالت دون الـ 18 عام بقليل .. هي الزهر و الربيع .. الخيول و الفرسان .. الأحلام و الذكريات .. ممشوقة القوام كرمح إذا انتصبت، و خيزرانة إذا أنحت .. قوامها يناديك فتتمنى أن تكون نبتة لبلاب تتسلق و تستدير على القوام من القدمين إلى الخصر حتى تبلغ عنقها الذي يناديك لصلاة القبل و غمرة الحب العميق .. تطوف عليه ناسكا متعبدا حتى تدوخ في عوالمه التي تسلب منك لبابك، و تسافر في الروح من الشفتين إلى الأقاصِ و الآماد البعيدة .. ما أجمل أن تسكر في الحب حتى تثمل، و تعرج بالروح إلى السموات العُلا..!!
أمل فتاة يافعية حميرية من اليمن .. حسنها لا يتلاشى و لا يزول .. الجمال مهما غمر و اكتمل يظل ناقصا دونها .. لا يكتمل و لا يتم مهما بذخ إلا بفيضها الوافر سحرا و فتنة .. رشاقتها تشغفك حتى تتمني أن تكون خاصرتها مدارك الذي لا تشرد منه و لا تتوه عنه حتى آخر العمر .. عمرك مهما أمتد و أوغل في السنين يظل معها فوّارا بعنفوان الشباب الذي لا يبلى و لا يكهل و لا يشيخ..
سمرتها الخفيفة تجلي صفاء و بهاء و جاذبية .. بهية تنفذ للقلب كغيمة يملاها المطر .. شعرها من شدة سواده و لمعان زيته تريد أن تكون في شباكه أسيرا، و حنينا تتنفس عبقه و عطره عند السدول .. تشتم رائحة الطين و المطر بين جدائله .. لو كان الليل مثل شعرها لكنت أول ساكنيه إلى الأبد، و لو كان السواد مثل شعرها لكان الأسود يُعبد من زمن بعيد..
كل يوم تكتشف في روحها و جمالها ما كنت تجهله .. معرفة بلا حدود، و عمق بلا قرار يجعلك دوما تكتشف كم أنت في الحب قاصر و جاهل .. جميلة الروح و آسرة الطلعة و جاذبة كالمغناطيس .. مسكونة بثورة أنثى تتمنى أن تلج إليها، و تشتعل في أوارها، و تنصهر فيها كسبيكة ذهب..
كنت ولوعا برؤيتها كلما أمكن .. أمعن النظر فيها و أغرف ما أستطيع خزنُه في الوجدان و الذاكرة .. استزيد منها مددا لخيالي الذي لا يخبو و لا يخفت و لا ينطفئ .. يمنح الروح نشوة و تجددا و حياة .. أستلذ من شهدها المخزون في دوح خيالي حتى أدوخ و أغرق في العميق، و ألقي عن كاهلي أحمالي الثقال .. أعوّض ما فات أو استحال أو كان عصيا على التحقيق أو صعب المنال..
كنت أهيم فيها و أتي إليها من بعيد لأراها، و لواعجي بين الضلوع تشتاق و تشتعل، و لهفتي تسابق أنفاسي المربكة .. خطواتي تتمرد على موانعها الكديدة .. كتبت لها بما فيني من شوق و لوعة، و بحت بما في شفاف روحي يصطلي .. و بعد ألف امتناع و ألف محاولة استقدمتها، و لكني كبرتُ على ذاتي، و تعاليتُ في شأنها، و لم أسقط أو أنزلق في محذور المنحدر .. لقد كانت لنا قصة و إن لم تكتمل، و رغم أن الأرض رخوة، و الانهيارات كبيرة، و خطواتي تمشي على ممشى زلق، إلا أنني لم أنزلق، و لم أقع في مهاوي السقوط..
***
زرت عزبة صديقي عبد الكريم سعيد علوان و أصدقائه في “كريتر” و التي تبعد جنوب غرب البريد بعشرات الأمتار .. كان هذا قبل أحداث يناير 1986بعام أو أقل بقليل .. كنت أقرأ أحدى الصحف، فسمعت ضوضاء..!! شاهدتها من النافذة مسرعة تركض خلف أطفال صغار .. مرقت كحلم ندي .. رفّت كنسمة بحر أنعشت روحي الباحثة عن أمل وسط وجوم اليأس و سنوات التصحّر .. أحسست و كأن القدر رضا عني، و في وجهي أشرق و أبتسم .. بدت أمامي لحظة زاهية كبشارة ولادة حب جديد تعوضني عن حبي الذي خاب، أو الذي فات و لم يعده الندم..!!
كنت أعرّج على العزبة كلما سمحت لي الفرصة و تأتت الظروف .. أحاول أن أداري شوقي و لهفتي أمام أصدقائي في العزبة حتى لا يقطع الخجل مجيئي، أو يتم إفساد ما بيننا على أي نحو كان .. في كل زيارة كنت أريد فقط أن أراها .. أن أتأكد من وجودها .. كانت هي رجائي و الهدف من مجيئي، و لكني كنت أعود في كل مرة أحمل خيبتي لا سواها .. كاد اليأس أن يدركني في أن أراها مرة أخرى، غير أن صدفة أنقذتني من خيبتي التي أثقلت كاهلي و انتظاري الذي طال..
و في يوم كان لي سعد من الحظ و صدفة من السماء .. خرجتُ من عزبة أصدقائي في حدود الساعة الخامسة بعد العصر .. شاهدتها على الحائط التابع لمنزلهم تطل على الخارج .. وجهها يميل إلى استطالة متناسقة، ينضح بالوسامة الأخاذة في إجماله و تفاصيله .. بدأ لي وجهها الجميل كآية خالدة، و برهان أكيد أن للكون خالق جميل و محترف..
اعترتني حالة من الإرباك .. تملكتني الدهشة من أول وهلة .. توقفتُ برهة و كأن البله قد شل حركتي، فيما عيوني تسمرت نحوها .. أمعنت فيما أنا فيه .. أردت أن يكون وقوفي ملفت لها، و مروري على غير كل من يمر أمامها .. تمكنتُ أن أشد انتباهها على النحو الذي أردت .. عيونها ترمقني بنظرات كلها دهشة و عجب..! فيما ضحكة كتومة كانت تكتظ في صدرها الناهد، و تتبدى بحياء على وجهها الخجول، و مبسمها الآسر للنظر..
قطعت إلى الشارع العام بخطوات ثقيلة، و كأن أقدامي مربوطة بحبال تُشدها بيديها .. بديت مأسورا و خطواتي طوع اليدين .. أمشي ببطء و كأن سيقاني غارقة في بلل الطين الرخو، فيما وجهي يستدير إلى الوراء نحوها، و على نحو لافت و متتابع .. أرمقها بنظراتي التي أبدو فيها و كأنني نسيت لديها رأسي، أو استودعتها قلبي الذي أريد أن أطمئن عليه قبل الوداع..
أحسست إن الصدفة أحيتني بعد أن كاد اليأس يستولي على كل شيء فيني .. مسحت كدري و ما علق في وجهي من ملل و سأم الانتظار خلال زياراتي المتفرقة التي أخفقت و أدركها عاثر الحظ و الفشل .. طلّتها بددت خيبتي و أنستني ما كان بي من ضيق و ضنك و كآبة .. أحيت فيني غابة من الأحلام الجميلة و الآمال العراض .. خامرني إحساس أن ثمة تشجيعا منها يدعوني إلى ما هو أجمل و أعمق، أو هذا ما توهمتُ أو كان فيه الوهم لذيذا و جالبا لكثير من السعادة..
مررت في اليوم الثاني، و في نفس الساعة التي كنت قد صادفتها على السور في اليوم الذي قبله، و لكن كان مجيئي من الشارع البعيد المقابل، متمنيا أن أراها مرة أخرى .. نطقت روحي: يا إلهي .. لقد أصاب مناي و حصحص الحق في حب أروم .. شاهدتها مطلة على نفس الحائط و المكان، و كأن القدر أراد أن يجعل للصدفة قصة تبتدئ منها و تزهر فيها الأيام القادمات..
داهمتُ نفسي بالأسئلة: هل هو حدسها الذي دلها أنني سأعود..؟! هل كانت تنتظر مجيئي في ذلك الوقت بالذات..؟! هل حدسنا المختبئ فينا هو من حدد الموعد..؟! أم هو موعد تنادت إليه أرواحنا الشفيفة المشتاقة إلى لقاء، و إن كان في حدود الاقتراب و النظر..؟!!
أحسست أن قصة حب جديدة تبتدئ و تمضي على ما يرام في طريقها الصحيح .. شعرت بلحظة سعادة تغمرني بفيضها الجميل .. أحسست إن القادم سيكون أجمل .. عامر بالمسرات و حافل بالفرح و اللقاءات الجميلة .. هرعت إليها بعجل لافت و بخُطى تسابق بعضها .. بديت مهرولا في بعض الطريق، و هي ترمق مجيئي بذهول و دهشة .. فيما كنت أحدث نفسي: يجب أن لا أترك الخجل و الحياء يخيّبان رجائي هذه المرّة..
خطواتي المتسابقة بدت على نحو تلفت نظر بعض المارة .. بديت أمامها و كأنني منقضا عليها كصقر يريد أن ينشب أظافره في لحمها الطري، و أخذها إلى البعيد .. تملّكها الفزع و استحوذ عليها الهلع .. اختفت هي و أختها من على السور بسرعة مستعد يقظ أو خائف جزع .. لاذت بالفرار ذعرا، و الاختباء في جحرها كـ”أرنبة” .. انتظرت نصف ساعة لعلها تعاود الطلول فلم تطل .. عدتُ أحمل رأسي المثقوب بخيبة، و ظهري المكسور بهزيمة .. أتهمتُ نفسي بالغباء الفاحش و العجل الأحمق و فقدان البصيرة..
عدت اليوم الثالث في نفس الساعة التي رأيتها في اليوم الذي سبق .. رأيتها في نفس المكان الذي تطل منه على السور .. دق نياط قلبي بما شجى .. زقزقت عصافير قلبي بالفرح .. حاولت أن أتجنب الخطأ الذي سبق و جلب لها الذعر و الفزع .. حاولت أهدئ نفسي و أتوازن قدر ما أستطيع، و في قبضة يدي قصاصة صغيرة كنت قد كتبت فيها كلمة واحدة هي: “احبك” .. عطّفتها حتى صارت كبرشام صغير، و عندما صرت على مقربة منها، ملت إليها قليلا و رميت بها إلى خلف السور الذي تطل عليه .. تفاجأت هي بما بدى مني، و اختفت .. توقعتُ أنها ذهبت لإلتقاطها، و أن خجلها منعها من أن تعود و تطل ثانية..
وصلت رسالتي إليها كما يجب .. أحسست إن طلبي و قصدي قد بلغها على ذلك النحو الذي أريد .. لا بأس من انتظار قبول الطلب اللاعج باللهفة و الشوق .. و كان فعلها في اليوم الذي تلاه قبول مؤكد للطلب، لا يحتمل التفسير سواه، و قد رأيتها تطل من نفس المكان و تنتظر في أول دقيقة من الوقت الذي أعتدنا عليه .. أحسست أن فضولها سيظل يبحث و يتطلع إلى معرفة التفاصيل..
كانت الساعة ما بين الخامسة و السادسة موعدنا الذي اختارته لنا أقدارنا لننطلق منه .. بدأت أومي لها بيدي و أحثها بالإشارة على الخروج .. خروجها الأول كان مع أخيها الصغير إلى مكان قريب .. تبعتهم و لكني لم اتمكن من الكلام، و اكتفينا بتبادل النظرات و الابتسامات و ملامح الفرح..
في المرة الثانية أطمئنت لي و تشجعت بالخروج بمفردها إلى مكان غير بعيد .. اقتفيت أثرها، و عندما صرت بموازاتها تحدثت معها دون أن ألتفت إليها، و لكنني حاولت أن اطمئنها أكثر، و أحثها على الخروج معي إلى مكان أبعد لنتمكن من الحديث بحرية و روية .. نجحنا في تحديد المكان .. مقهى ـ “بوفية” ـ تجمع بين المشروبات و الوجبات الخفيفة .. اتفقنا أن انتظر الغد فيها الساعة الثالثة عصرا حتّى تمر، ثم أتبعها إلى ما تقودنا إليه أقدامنا .. و في الموعد المحدد تم الوفاء و التغلب على مصاعب الخروج .. مر البهاء كعروس .. أنقدتُ بعدها كمسحور إلى شارع فرعي ثم إلى زقاق .. تحدثنا قليلا بحذر و رهبة .. تحدثنا بقليل من البوح و كثيرا من الخوف و القلق و الاضطراب..
كان والدها شديدا و قاسيا .. و كانت أعذارها للخروج قليلة و محدودة تنجح بعسر، و أحيانا تتم بمغامرة يقابلها عند اكتشافها جزاء ثقيل و منع يشبه الحجر .. كانت أكثر وعودنا تخيب بسبب منعها، أو ارغامها على أن يرافقها أحد من أهلها .. أخفقت كثير من اللقاءات، و خابت كثير من المواعيد، و بعض المواعيد انتظرها أضعاف الوقت الذي اتفقنا عليه .. كنا نتصرف في لقاءاتنا كما يتصرف العشاق المحاصرين بعيون الوشاة و المحاذير و صرامة الممنوع، و عندما نتيه عن بعض أو يتقطع وصالنا لهذا السبب أو ذاك؛ نرجع إلى الحائط و المكان لنجمع شملنا مرة أخرى، ثم نبدأ من جديد..
صرت أتردد كثيرا على ما أسميتها “بوفية المحبة”، رغم أن أغلب الانتظار كان يمر دون جني أو حصاد .. تعرفت على كثير من الوجوه هناك .. اكتشفت أنني لست المحب الوحيد الذي ينتظر محبوبته هناك، بل وجدت كثيرين غيري ينتظرون فيها و يلتقون، ثم يغادرون لا أدري إلى أين..!! كانا أشهرهم شاعر مرموق و مذيعة مشهورة..
عندما تفجرت أحداث 13 يناير 1986 وجدت نفسي على مقربة مع من أحب .. جميل أن تجد نفسك في الحرب جوار الحبيب .. رائع أن تدير ظهرك للمتراس و توجه وجهك إلى وجه من تحب .. لم أكترث بالحرب قدر اكتراثي بالحبيب .. الحب في الحرب سلام و دعة حد اليقين .. حياة جديرة أن نعيشها بسلام، غير أن أوامر المسؤول على المنطقة التي كنت متمركز فيها جاءت صارمة بالانتقال إلى مكان آخر .. انتقلت و أنا أمضغ خيبتي و استودعت قلبي عند الحبيب، و لم أنزلق إلى سفك قطرة دم واحدة..
بعد أحداث يناير زرت “بوفية المحبين” .. وجدت أبوابها مغلقة .. وجهها مجدور بالرصاص .. بدت كخرابة ينعق بها البوم .. تصحر الحب فيها و أجدب .. لا وعد فيها و لا لقاء و لا انتظار حبيب .. لم تعد الأيام كما كانت .. ذبل الورد و يبست الأزهار، و سُفك الدم العزيز، و أنهزم الوطن، و لازال مهزوما إلى اليوم .. تمزقت الروح و آلت الأحلام و الآمال إلى بدد .. انتحر الشعر على بوابة الحلم الكبير، و غاب الشاعر عن حبيبته، ثم رحل وحيدا بداء عضال دون أن يجد من يساعده .. و أصاب المصاب الجلل حبيبته التي أُعدم أخيها، و تم زج الآخر في المعتقل..
(3)
“نور” اللحجية الجميلة
في سنة أولى من كلية الحقوق كانت “نور” الأكثر جمالا ودهشة بين الجميع.. نور تنتمي لمحافظة لحج .. لم أكن أعلم أن في لحج كل هذا الجمال المكنوز.. كنت أختلس النظر إليها كلص خائف من كل العيون.. كثير هي تلك العيون التي كانت تلاحقها وكنت أشعر أن أكثر العيون تراقب كل شيء..
كنت أجلس بقاعة المحاضرات الرئيسية في أول الصف، فيما كانت هي أغلب الأحيان تجلس آخر الصف أو في مؤخرة القاعة في الاتجاه الآخر.. كنت أحرج أن أجلس آخر الصف وأشعر بخجل أن أزاحم الهائمين عليها وهم كُثر. كان كبريائي وخجلي يحولان أن لا أبدو أمام الآخرين طائشا أو مراهقاً أو صبيا غُر في التصرفات المتهورة أو الغير محسوبة.
كان الأستاذ إذا سأل الطالب سؤال أو أجاب الطالب على سؤال الأستاذ وكان موقع الطالب أو الطالبة في الوسط أو المؤخرة أقتنص الفرصة وأوهم العيون أنني أهتم للسؤال أو الجواب فيما أنا في الحقيقة أختلس نظرة عجولة من وجه “نور” كنت أعصر رأسي كالحلزون لأرمقها وأسرق نظرة على حين غفلة من الزمن والعيون..
كنت شديد الحذر من أن ترمقني أحد الأعين وأنا أصوب سهامي نحو نور فيما هي مشغولة في دائرة أضيق من الجوار..
كنت شديد الحذر وأنا أتحاشا العيون لأصل إلى عين نور.. كان حذري يشبه حذر جندي الهندسة الذي يسير وسط حقل ملغوم، مع فارق أن جنود الهندسة يفعلون ذلك من أجل نزع الألغام أو فتح ثغرة فيها، فيما أنا أهدف إلى اختلاس نظره من جمال الله وابداعه في نور.. إنها نظرة عاشق ولع كتوم.
نور اختفت فجاءة ولا أدري أين ذهبت!! نور لم تعد تأتي إلى الكلية كل صباح.. يبدو أن نور غادرت الكلية للأبد، ولكن لا أدري إلى أين!!
نور كانت الجمال والدهشة .. نور كانت نور على نار..
(4)
هيفاء
“هيفاء” نسمة بحر تحيي من تهواه.. نظرتها تزيح عن الكاهل تعب محتدم يصطك ببعضه.. تمسح عنه براحة كفيها ركام حزن طال، وتقادم عهده.. تطفئ لواعج وحرائق من تشتاق.. غيث يهمي على الأرض الحرّى؛ فتخضر، وتلبس رونق.. هي هبة الله في أرضه البكر.. قبس من روح الله وسره.. “هيفاء” تسبيحات صوفي مسكون بالواحد، وشلال غفران دافق لا ينضب.. هيفاء في ملكوت الله وتسبيحات الكون باسمه، وصلاة عوالمه لجلالته.. هيفاء فتاة لا يشبهها أحد..
أنا فقير مُعدم مكروب الحال، خلقني الله في قاع البئر، أحاول إنقاذ ما بقي منّي، فيأبى قدري.. لا أحد يسمع صوتي المخنوق في أعماق الغور، مثقول بالحزن وبالوحشة.. البئر المهجورة جفّت حتى صارت صلدة.. ونزفتُ فيها حتى آخر قطرة.. حاولت أن أخرج منها فعجزت، وتخلّى عنّي الكل.. أعيتني الحيلة، فتحجّرت فيها، حتى صرت بعض منها..
كيف أقارن! والفارق كالفرق بين ذرّة رمل أصغر من عين النملة، ومجرَّة تتمدد في أقاصي الكون ولا تتوقف.. إن الفارق أكبر، كالفرق بين مخلوق وخالقه الأول..؟!! هي بنت النور من بيت عالٍ، وأنا إنسان بسيط جدا.. مسحوقا بين رحاها والحب الناقص.. أنا إنسان خلقت منكوبا من أول يوم.. ولا زلت أعيش خواي، وبؤس أسمع صريره في صلب عظامي، وأعيش فراغا في عاطفتي، بحجم هذا الكون وأكبر.
قبل سنين من معرفتي بهيفاء، وأنا عمري دون الرشد.. كنت أبحث عن مأوى بمساحة قبر، فوجدت الخيبة أكبر من مقبرة تتسع وتكبر.. فسكنت على سطح “مصباغة”.. كل يوم تضحي الشمس على ظهري وتشويني في رابعة نهار يشتد.. يلهطني الحر.. من يرحمني من حر الكاوي، وغضب الشمس؟! وحُبيبات الحر تسلخ جلدي، وتشوِّه جسدي المنهك، ولا تترك مكانا فيه إلا وأصابت مقتل..
عدن كنت أذرع شوارعها وأجوس.. أتمنى أن أجد فيها بيت تأويني أو تتبنى ما فيني عام أو شهر.. فراغي وحنيني يهرس عظمي.. أبحث عن أسرة حانية تهتم بأمري.. كنت أرى من يملك في عدن بيتا من طوب أو بردين أو كوخا من قش، أشبه بمن أكمل دينه ودنياه وظفر بفردوس الرب..
أنا يا الله لا فرش لي ولا مأوى.. وعندما ابتسمت لي الدنيا، وجدتُ بيتا لم يكتمل بنائه، كانت تشبه بيت الفئران، فيما بيت من أحببت تتعالى في منزلة تسمو جواره.. تحت ظلاله.. وإن فحش الوصف، أنزل درجة لأنال غفران الرب.. هكذا بدا لي الفرق بين الاثنين..
يا لفارق يقسم ظهري أعشارا، و يا عشرة اعسار تفتتني كحجرة جير رملي.. ماذا بقي منّي؟! طلبي يجعل فمي مكتظ بلساني المعقود بخرس الصخر، لمجرد تفكير غامر ومغامر في أن أطلب يدها، ولو حتى في الحلم المشفوع بالنوم الغارق في العمق.. كيف لأصابع مجذومه بأمر الله، أن تحفر نفقا في الجبل وصم الصخر؟!! لازلت أبحث عن عدل مفقود، في بلاد القسوة والظلم..
يا إلهي.. أنا ابن الدباغ المدبوغ بالفقر والحظ البائس.. كيف يمكن أن أجمع أشتاتي وشجاعة باتت تخذلني؟! كيف أفكر بطلب اليد، ويداي مقطوعة بالحاجة من الجذر.. أني أشبه بثائر يفكر بالثورة على مقدَس متجذر في عمق الوعي، ومتأصل في عمق الوجدان في وسط جامع غارق بالتهويم والتحريم الأشد غلاظة..
أي جنون هذا؟! كيف لفقير مهروس بالفقر، ومفتوتا بالعوز البالغ، أن يتجرأ بطلب يد فتاة تعلوه بمسافة ضوء بعمر ألف سنة مما نعُد؟!! ماذا سأقول لها ولأهل العد إن سألوني هل لديك فلة، أو بيت يليق؟! سؤال يصعق جبلا ويقذف في وجهي خيبات الأرض، جحيم جهنم.. يا لحسرة بيت الفئران..
هل أنا باغ يا رب لمجرد تفكير في طلب الحب أو عقد قران.. حب صيرته منّي أبعد من عين الشمس.. كيف أسافر؟!! أنا عالق في غب الحسرة.. منكوب بوجودي، ملبوق حد الهذيان.. يبدو أن الله قد كتب لي في لوحه المحفوظ حظّي العاثر بالفقدان، والمصلوب بشقاء البؤس، وغياب يصل حد المعدوم..
قررت أن لا أتلاشى في وجه الفقر.. أن لا أتصالح مع الظلم الهابط كقدر لا يتزحزح.. أقاوم عدمي بتفاني يتخلق منه إنسان لا يستسلم للجور.. وأن أستحضر وجودي بالطول وبالعرض في وجه غياب موحش وفراغ الفقدان.. حضور أكثف وللفقراء أنحاز ضد طغيان الجوع والظلم الصارخ.. شرف يبقى إن كنت حيا، أو مطمورا تحت الأرض في محراب الخلد أجترح المجد ألف سنة..
(5)
كتمان وارباك وامتلاك
كنت كتوماً جدا يا هيفاء.. أخبيتُ الشوق اللاعج في فج شجيته عميقا في قعر البئر.. أودعت السر في عمق الفج بعيدا عن عين الشمس.. كتمت أنفاسي حتى لا تذروها الريح.. قمعتُ آهات الوجع الصارخ في عمق الروح.. كتمت الحب في أعماقي وعشت مهدود الحيل.. مهما كان حيلي مشدودا كخرسانة برج عالٍ، أو راسيا كالجبل الضارب عمقه، فالحب المكتوم يا “هيفاء” يهد الحيل.. حبك سري الأول، مدفون في العمق الداجي، لا يعلمه مخلوق غيري أو شاشة رصد..
كنت كتوما وعصيا على البوح.. لن أوصي وأبوح بسري حتى لظلّي.. لن ينتف منه الموت قلامة ظفر.. سري لن يعرفه غير القبر المغلق أن وافاني الموت.. كتمانه في أعماقي سحقني يا “هيفاء” كدكاكه.. عجنِّي حتى صيرني كمعجون الأسنان، فرمني بأحدث آلة فرم.. صيرني ككتلة لحم مفروم بعناية.. ظل السر المغلق يأكلني كمنشار، ويتفتت حيلي كنشارة خشب تأكلها النيران.. الحب يتلظّى ويتأجج في أعماقي كبركان..
سنتان من الحب يا “هيفاء”، بلغت بي عمر الستين.. بالصمت أمضغ خيباتي بالطول وبالعرض.. أحاول أداري عنك إرباك الأعين، وعيونك تدري ولا تفهم.. الشوق المجنون يشعل حرائقه في شراييني، وصقر يتحفز محبوسا في قفصي الصدري بين ضلوع تأكلها النيران..
تيَّمني الحب الناقص غصبا عني يا هيفاء، وتخفيت وتواريت خلف “التقية”.. ضربت على نفسي أسوار العزلة.. البوح في الحب الآتي من طرف واحد خزي ودوس كرامة.. الكتمان عزّ من ذلٍ ومهانة.. ما أقسى هذا الحب يا “هيفاء” وما أشده على من حب.
في جحيم الحب الناقص صليت منفردا دون جماعة، ومن أبحث عنها لا تسأل عني، ولا تدري أني مصلوبا بالحب الناقص بين ذراعيها.. الحب بدون تكافؤ فُرصه، عدالة تشبه أسنان التمساح.
جازم إنسان رائع.. أستاذي ورفيقي ومسؤولي الحزبي.. طرق يوماً باب القلب المثقل بأحمال الحب البالغ فيه حد الإعياء.. سبر أغواري كخبير وطبيب مختص، وأشار بلمح سؤال خاطف، ونحن نتمشى على أرصفة الشارع: لماذا لا تقطف زهرة من هذا البستان؟! البستان أمامك والأزهار على مد اليد.. اقطف زهرة !! لا تترك زهرات العمر تأكلها الأغنام!! فشعرت بأن مجس طبيب أصاب وجعي والداء.. أحسست أن رفيقي عرف مصابي البالغ.. عراف عرف ما بي من حب وصبابة.. فتسألت مع نفسي في لحظة إرباكي: كيف نفذت إلى أعماقي يا رفيق المبدأ والنقد الذاتي؟! كيف سمعت صوت نبضاتي وخفقات القلب؟!!
ما أصعب حالي وأنا أداري ما في نفسي من حب بات أكبر مني.. لم أعترف لرفيقي بمصابي.. حاولت أكابر على جرحي الغائر في أعماق الروح، وأنكرتُ دوائي والداء، فيما النار كانت تشب في كل كياني، وأنا أحاول أن أخمدها في لحظة ارباك، فيما كان الخجل يطويني كقرطاس.. أسأل نفسي: كيف أطلب يدها ويدي مخلوعة من الكتف!! كيف أطلب يدها، وحالي أضيق من خرم الإبرة!!
كيف يمكنها أن ترضى بي للعمر وللمستقبل، وأنا أذوي مكسوراً مهزوما أمام الشمس كشمعه.. محسوراً منحسراً لا جاه لا مال لا بيت يليق بملكة.. كيف يمكنني أن أتجاوز هذا الحب اللاعج والمخزون بكثافة، وهي تطل بوجهي كل صباح، وتمر عليّ في الحلم كنسمة بحر..
أجمع أشتاتي وألملم أشلائي، وأعزم أن أكشف لها حبي الجم.. لا بأس هنا أن أبحر بحديثي من أطراف الدنيا وأجتاز اليم.. لا بأس هنا أن أفعل ما يفعله زميلي قائد مع الأستاذ حامد في الدرس.. سأنتظر مهما تمادى الوقت لأطيل حديثي معها.. سأحشد ما أملك من ذخر الكلمات، لأحدثها عني، وعما يعتلج في القلب من آوار الحب.
وحين تحين اللحظة لأبدأ.. تفوت اللحظة وأنا أحاول بمشقة من يحمل صخره أكبر منه.. أبدو كسيارة أدركها العطب في أول وهلة.. تتلاشى الكلمات ولا تبقي كلمة.. أتبدد وأتلاشى معها.. وكأن هيفاء تملك تعويذة، أو مفعول سحري يبدد كل الكلمات.. لا يبقى مني شيئا غير إرباك يشبه زلزال..
شجاعتي التي أجمعها من شهر طال للبوح لها عمّا في النفس، في لحظة تصير حطاما ونثار، بمجرد أن ترمق عيناها عيناي.. يمتقع وجهي ويشحب.. يحمر ويسود ويصفر.. ولساني تلت كلاما بلغة لا أفهمها.. مرتجف ومرتعش كالمغزل.. وسهام من سحر عينيها تفتح في القلب نفقا ومغارة، فأعود أجر قدري المنحوس، وأنا مهزوما مكسورا خائب..
جسدي ملكي وزمامه بيدي، وفي حضرتها يتخلى جسدي عني، بل ونصير الاثنين مملوكين لها.. أصير أنا لا أملك نفسي ونفسي لا تملك جسدي.. الكل هنا رهن بنان أشارتها، وطوع اليد.. ننتظر منها أن تفرج عنّا ونحن نتصبب عرقا.. نرجوها أن تطلقنا في لحظة تشتد علينا، ويشتد فينا الإرباك؛ فتطلقنا شفقة لوجه الله..
(6)
عندما تكتب للريح
عيون هيفاء جميلة وناعسة.. موغلة في العمق ومُستغرقة في المدى.. سحر عينيها يخطفك وإن كنت في مكان قصي.. عمقها يجذبك ثم يشدك إلى الأسفل حتى يصل بك إلى بُعد لا تعود ولا تنفك منه.. من ركب بحرها مثلي ما نجي، ولا عاد إلا رقم في قوام الضحايا الفاشلين..
دعاني سحرها من بعيد لاقترب.. اقتربت لأرقص رقصة الموت الأخيرة.. جئتها كفراشة بأجنحتي أطير.. دعاني ضوئها في الدجى الشاتي لآتي؛ فأتيت لأحترق في الضوء الذي جلبني من بعيد.. كنت الضحية، وكانت للضحايا ولائم، ولم أكن غير رقم في العدد..
سحر عينيها يغلبك، وتحديه يهلكك.. إن أردت اختبار صلابتك، ستدرك مدى هشاشتك والوهن!! حديدك مهما صلب، وعودك مهما قوى، يفل بسهم من سجى.. لا تكابر حتى لا تجد نفسك مغلولا بأصفاد الحديد.. أنقلب الحديد على صاحبة، وصار طوع سحر عيونها.. لا تعاند حتى لا تطوى كحبل الرشاء، أو تكسرك كثقاب صغير..
في عينيها حوريات السماء، وأسرار الذي خلقنا من علق.. يا خيبة “الشهداء” حين لا يجدون حورية أو نصفها!!.. ويل لنا من أقدارنا، ويل لنا من خيبات الرجاء، والانتظار الطويل..
***
كتبت عن عينيها في نشرة حائطية أشرفتُ على تحريرها.. كتبت بدم قلبي النازف بحبها.. كتبت حروف الحب بالحرائق والأرق.. وعن بحر عينيها العميق كتبت ما أجيد، وبما أجيش من الحنين.. كتبت عن حبي الضارب في خيبته، خيبة بحَّار مضطرب أكثر من اضطراب البحر الذي يحاول أن يعبره.. لا حيلة لي لأعبره.. لا لوح ولا مجداف ولا قطعة من خشب..
شاهدتها تقرأ.. فقلت يا إلهي!! الآن أريد أن تكبّر المآذن وتقرع أجراس الكنائس وتحتفل معنا السماء.. الآن أريد أن أعلو كل المآذن وأصلي للرب حمدا ألف ركعة.. هيفاء تقرأ ما كتبتُ.. أردت أن أجعل من ذلك اليوم قيامة الحب النبيل.. ولكن بحجم ما ظننت كبرت خيبتي، وزادت نكبتي حتى صارت مهلكة..
بعد هينيهات شاهدتها تدير ظهرها إلى ما كتبت.. أحسست أنني كتبتُ لريح عابرة دون صفير.. بدت لي باردة وغير مبالية.. لا ترى ولا تحس ولا تجس ولا تكترث.. وربما كنت أنا البليد والغبي الذي جهلت كيف أوصل إليها رسائلي.. فشلت في إيصال ما بي من اعتلاج الشوق، واحتدام الحب في أغواري السحيقة.. لابأس أن اعترف أنني الفاشل مع مرتبة الشرف..
ظننتها ستقرأ ما كتبتُ وتعيد القراءة مرتين.. ولا أدري إن مرت على عنوان “في سحر عينيها” مرور الكرام أم لم تمر.. كانت كعابر سبيل لا تبحث عن ضحايا حبها الذين تركتهم خلفها يندبون حظهم.. يومها غادرت بدموع تشتط بالغضب، ولم أكمل بقية الدوام المثقل بالنحس الثقيل.. شتمتها في نفسي التي خرجت عن طورها ، وشتمت نفسي حتى ضاقت بي السماء، وشتمت خجلي مرتين، وأنا الذي لا أجيد الشتم..
(7)
حينما تتمنى أن تبلعك الأرض
كنت أعيش مشاعر متناقضة كموج بحر يتلاطم، ويعترك مع شاطئه الصخري الصلب، أو طقس مضطرب ومنفلت ومنقلب مجنون.. كزوبعة الجن، ودوامة بحر تركض وتدور كحال رجل تلبّسه شيطان في نوبة غليان.. وفي أحايين أخرى أشعر بالضيق، كمعتقل في زنزانة أضيق من قبضة يد، ليس فيها فسحة أو منفس لأجمع أشتاتي وشوارد أفكاري من أرجاء التيه..
مضطرب ومتناقض بين الفعل وضده.. بين الإقدام لطلب اليد، وتردد اكبر منه.. زحام من حزن، وفرج يشق طريق الضيق.. حصار يسد الطرقات، وأمل في وجه جدار اليأس يحاول أن يحفر فيه منفذ للنور.. وتضيق الجدران أحيانا حتى تلتصق بي، وتريد أن تنفذ إلى تحت الجلد، فأبدو كمصاب بلوثة أو نوبة أو مرض الصرع.
حالما ألمحها أشعر بقلبي يقفز من بين ضلوعي كعصفور يخرج من قفصه، أو إنسان حر يتحرر من زنزانة التصقت به.. أبتهج بمقدمها كل صباح، وأرقص على إيقاع خطوات الحلم الراقص، وتشتد لحظات إرباكي، وتظهر جلية في السطح العاري، وأنا أحاول بكل قواي أداريها عن الأعين، وقد صارت أكبر مني.. أخفيها في جب البئر.. أخنقها في أحايين أخرى، أو أقمعها كطاغية أو دكتاتور..
عندما تعرض عني، ولا ترنو لي بطرف العين، أشعر ببعثرتي وتشظي الروح، وتناثر أشلائي ورجائي في كل الأرجاء.. وبحزن يضرب في بالغ أعماقي والوعي، وأرى قلبي قد ذُبح كعصفور، أو إبريق صار شظايا، أو كأسة أنيقة كانت تطربني، وقعت من سطح عالي، وارتطمت بقاع صلد..
كنت أريد أصارحها بحبي الجم، ورغبة تعصف بي، وطلبي لعقد قران، وزواج يدوم العمر.. ولكن كنت أتأنِّي لألتقط رد إشارة تساعدني على استجماع شجاعتي من أطراف الأرض؛ لأكون جريئا بعد الآن.. وعندما لم أجد ردا أو بُدا أتردد خجلاً، والخوف يقمعني من أن ترفضني، وهذا الرفض كنت أراه سحقا للعمر الباقي.. داء لن أتعافى منه بدواء أو بإكسير السم.. ولن تخرجني منه حتى قيامة..
في إحدى المرات كانت تؤشر نحوي باليد اليمنى، وأنا شغف شارد في عالمها، متسمر في وجهتها، أنظرها بولع الحب الجارف.. بدت إشارتها صارخة الاستدعاء.. إيماء لي بوضوح أن آتي إليها!! كانت حركة يدها كبرق في ليل مسود.. كاد قلبي يقع أو يسقط دهشة.. يا هول مفاجأة أكبر من قدر قادم ببشارة.. نبوءة في حلكة جهل أسود.. ولادة أمل مثل الشمس في وجه اليأس المعتم.. تسألتُ: هل يمكن يا الله أن يكون عبوري للضفة الأخرى بهذا اليسر!! ما أسعدني يا هذا الحظ!!
حبيت أن أستوثق أكثر من باب دفع الاستسهال، فيما كان قلبي يطير فرحا في العالي.. أردت أن أتأكد ما بات في ذهني مؤكد، ظنا مني إن الأمر يلزمه بعض رزانة، حتى لا أبدو أخف من الريشة في الريح.. رديت بإشارة من يدي المرتجفة بالشوق اللاعج، أستفسر إن كنت أنا المقصود بإشارتها.. فتبين إن إشارتها ليست لي، بل لزميلاتها الواقفة خلفي.. في تلك اللحظة تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني مرات عشر.. تمنيت أن يخسف بي الرب وبالأرض التي تحت أقدامي إلى سابع أرض..
أوغلت في منطقة الحيرة، وترددتُ أكثر.. داهمني الظن العارم إني أحرث في بحر.. ظننت أن الرفض سيكون سيد موقفها، أما لغياب الود أو لفوارق طبقية.. فضلا عن مانع آخر؛ فأنا أكبرها في العمر بعدد أصابع يد تخنقني بعد أن عاجلني الزمن ليضع الفرق خمسا أراها أكبر من عمر الشمس.. وأنا لا أستحمل رفضا يسحقني ويهزمني لآخر يوما في العمر.. لا أريد أن أتهور فتطويني كالرمة وترميني بكبر، أو تكسرني كزجاج لا يعود لسابق عهده.. تحاشيت كسرا لا يجبر ضرره حوريات الله في الجنة..
(8)
صدمة ومقلب
خُطبت “هيفاء” من قبل زميل لها في ذروة حبي لها في الجامعة.. لم أكن أعلم بواقعة الخطوبة، ولكني فقط لمحت دبلة الخطوبة في أصبعها.. كان وقع الصدمة أشبه بوقع الصاعقة.. شقتني نصفين.. سحقت روحي بمجنزرة.. تطاير رأسي كزجاج وقعت عليه صخرة من شاهق..
أحسست أن “الدبلة” التي في أصبعها تطوق عنقي كحبل مشنقة.. الأرض على اتساعها باتت أضيق من خرم إبرة.. خيبة كبيرة تخنق أحلامي بقبضة من حديد.. صدمة تداهم عيوني بزغللة تنتهي بسواد يشبه الموت.. أطبق ملك الجبال على أنفاسي الأخشبين.. أحسست أن وجودي بات معدوما، وأن مستقبل حبي آل إلى بدد.. إحباط اجتاحني كطوفان نوح.. أحسست بعظيم الندم، وحسرة تتعدّى أطراف الكون.. ,فقدان وضياع لا حدود له..
تذكرت مَثَل شعبي كرره أكثر من مرة الدكتور أحمد زين عيدروس بمناسبات مختلفة في قاعة المحاضرات.. وهو مثل يُضرب فيمن يستحي من ابنة عمه.. مثل شعبي لاذع ومقذع يدين الحياء ويصعق صاحبة.. أدركني اليأس وصدمتني الحقيقة.. صدمني الواقع بما لا أتوقعه، فيما كان في ظل سلبيتي وترددي يجب أن أفترضه وأتوقعه.. ما حدث كان طبيعيا، وهو الراجح حدوثة، طالما ظللت مترددا ومراوحا في نفس المكان، أنتظر دون أن أتخذ قرارا، ودون تحديد زمن لاتخاذ مثل هذا القرار.. كانت خيبتي في النتيجة كبيرة، وكان فشلي في هذا الحب بالغ وذريع..
أحسست أن حبي لهيفاء بات عبئا يسحق كاهلي.. لم أعد أقوى على الخلاص منه.. صرت منكوبا به، وأعيش ورطته التي لا فكاك منه ولا حيلة للنجاة.. من ينقذني من قيعان هذه الورطة؟! لا حبال ولا سلالم ولا حانية تمد يدها لتنتشلني مما أنا فيه..
الحب الذي بدأ عظيما أنتهى إلى داء لا أعرف كم أحتاج من السنين لأتعافى منه.. حزني الذي أعتله صار أكبر مني، وما بقي مني لم يعد يقوى على حمل بقاياي، فمن هذا الذي يحملني ويحمل حزني الذي أحمله؟!! لم أعد أقوى على حمل حطامي، ولا قدرة على استجماع بقايا قواي، وأشتاتي المبعثرة في القيعان السحيقة..
رغم حطامي وبعثرتي وحزني الوخيم، أردت التحدِّي والمكابرة.. أردت البحث عن فتاة لا تشبهها فتاة في الوجود.. أردت أن أستعيد كبريائي واعتباري أمام نفسي بأفضل مما فقدت.. وفيما كنت أستعرض أوصاف الفتاة التي أريدها زوجة لي في المستقبل أمام صديقي وزميلي عبيد ـ الذي شاركني بلادة “وطسيس” مادة الإنجليزي ـ فاجئني بقوله: “وجدت فتاة تناسبك وبالمواصفات التي تبحث عنها”..
كدت أطير من الفرح.. شعرت أن الدنيا تبتهج في عيوني مرة أخرى، بعد أن أحلكت سوادا وأطبقت خيبة.. توقعت أن القدر يريد أن يعوضني عما فات، وعن خيباتي التي تكاثرت، وبأحسن مما طاله الفقدان.. أحياني وبعثني صديقي عبيد من حطامي، وهو يصفها كرسام.. ولا يعلم حقيقة ما أعانيه في كتماني.. ظننتها وهو يصفها حورية من السماء، وبقي السؤال: كيف لفتاة بوصفه أن تفلت من عيون البشر؟!
لقد كانت لكلمات صديقي عبيد وهو يقول: “وجدت من تناسبك” وقعها على نفسي، أشبه بوقع كلمات أرشميدس وهو يقول “وجدتها .. وجدتها..” كنت أستعجله وألح عليه أن يعجل بلقائنا وهو يرجئ المواعيد، وكنت أصبّر نفسي وأقول: وهي بتلك الأوصاف، فإنها تستحق مني الصبر والانتظار والجعجعة..
وعندما جاء الموعد الأكيد، حط بنا الرحال في “زعفران كريتر”.. كانت لهفتي تسبق خطواتي وتستحثها على أن لا تتأخر.. لهفتي تزداد لمن أظنها عوض الرب، والمنتهى لما سيستقر عليه خياري.. أوقفني عبيد فجاءة، وأنحاز جانبا كمن ينصب كمينا، أمام معرض تجاري فخيم، لبيع ملابس نسائية جاهزة، ثم همس بإذني: “إنها تلك التي خلف الزجاج”
لم أشاهد خلف الزجاج أي فتاة .. ولمّا لم أستوعب الأمر أشار إليها بالبنان، وقال: “هذه هي من تبحث عنها وتناسبك”.. الحقيقة لم تكن فتاة وإنما كانت دمية على هيئة فتاة جميلة بملابس أنيقة.. وبقدر شعوري بالغضب وبالمطب الذي صنعه لي صديقي، انفجرنا بالضحك معا.. كانت ضحكتي أكثر دويا وجالبة للانتباه والفضول.. شاهدنا المارة وهم يتطلعون إلينا بفضول وتسأل.. مشدوهة عيونهم نحونا، دهشة وغرابة تعلو وجوههم جعلتنا ندرك أننا في شارع عام..
(9)
صديقي والحب الناقص نصفه
كان لصديقي وزميلي محمد قاسم قصة حب مشابهة، ربما في أكثر من وجه مع قصتي.. كثيرا ما أحسست به وهو يتلظى بكتمان صبور، ويكابد معاناة الحب الناقص وحيدا ومنفرد.. محمد أعطى للصمت مهابة وجلال وهو يصلي في وادي الجحيم ويحترق.. يتعذّب في لوعة الحب المشتعل.. لطالما حدثت نفسي عنه، وقلت: ما لدى محمّدنا من الحب حيال من يحب، يكفي أن يوزع على كل نساء الأرض ويضاعفه.. يا بخت من أحببت يا صديقي!! لقد كان حبك كبيرا، وعظيما بحق.. كنت أشعر بما يتأجج داخلك من حب، وبمدى الجحيم الذي تصطلي فيه.. صبرك ليس أقل من صبر نبي، وقومك من تحب.. عطاءك في دروب الصبر لم يكن متحفظا، ولا كان يوما معلقا بشرط.. تبتلك وصلواتك كانت لوجه الحبيب دون أن ترجو أجرا أو ثوابا لتنعم به في الحياة الثانية..
الحب الصامت والخجول والمقموع في ذواتنا يا صديقي هو حب بالغ العفة والصدق والإيثار.. تضحية بالغة من طرف واحد دون الآخر.. مشقة كاملة غير مقسومة على اثنين.. حب ناقص نصفه، ولكنه بالغ لمن يعرف معاناته، وصبر صاحبه.. حبنا يا صديقي عظيم ومدفوع بجسيم التضحية، وقد بلغنا فيه من العذاب حد الجحيم.. هذا الحب يا صديقي عشناه وغرقنا فيه حتى العمق، وأبحرنا فيه إلى أقاصي حدود التيه والتلاشي، ولكننا أيضا استعدنا أنفسنا من جديد على نحو أكثر حضورا ووجودا وتجددا..
كنت يا صديقي أسمع أصدقاءنا المقربين جدا، وهم يحتسون “الحش” والتندر، ويتبادلون الغمز واللمز حيالك، وحيال من تحب، كنت أخفي عنك كل ذلك لأنني أعلم طبعك، وفداحة ما يمكن أن تفعله بهم وبنفسك.. وفي المقابل قررتُ التأكيد على كتمان قصتي عن الجميع.. ظللت أعيش قصتي والنزيف بصمت وكتمان أشد، وربما أحسست أن افتضاحي كان كمن يستدعي الحكم بإعدام مستقبلي، واضطراري إلى قطع دراستي في الكلية، ومغادرتها إلى لأبد..
كتمت آهاتي وأوجاع العذاب عن الجميع، ولم ابح بسري إلا في لحظات وحدتي المتشردة، وانفلات عقالي في الحلم عند النوم العميق.. الحب الصامت يا صديقي أجل وأعف وأقدس.. يعيش داخلنا مشتعلا ومتأججا، ونحن نداريه ونخفيه عن الأعين، ونحاصره في الوعي، وفي اللاوعي ما استطعنا..
إن حُبَّنا يا صديقي يشبه البراكين المتأججة والمضطرمة تحت قشرة الأرض.. يذيب صخور الأرض في جوفها، وإن تراكمت على سطحها طبقات الثلج وجبال الجليد.. نخنق بوحنا ومشاعرنا في أعماقنا، ونتظاهر أننا على أحسن ما يرام.. هذا يا صديقي لا يفعله إلا الكبار أمثالنا..
هذا الحب يا صديقي حتى وإن كان معاقاً ومصلوباً ومعذّباً إلا أنه تجذَّر فينا إلى حد التماهي وعيا ووجدانا وذاكرة.. حب كابدناه وواريناه تحت الضلوع ناراً تصطلينا من الداخل كالجحيم، إنه الفشل الذي تفوقنا فيه، وأدركنا ما لا يُدرك منه، ولكننا عوَّضناه بنجاح آخر في ميادين أخرى، وبإرادة وإصرار لا يملكها كثير ممن أكتمل حبهم..
هذا الحب بقدر ما سبب لنا يا صديقي من العذاب، إلا إنه ألهمنا إلى مغالبة التحدِّي، وإيجاد ذواتنا واقتحام دروب نجاحات أخرى.. لقد أصبحت أنت دكتورا وأستاذا في أكاديمية، فيما أنا شقِّيت طريقا آخر، ولم نستسلم للموت، ولم نقضِ بقية العمر نبكي اللبن المسكوب، والحب الذي لم يكتمل نصفه، بل استطعنا بإرادة مضاعفة مغادرة دائرة الفشل، والعبور إلى المستقبل، رغم المعوقات والكوابح والظلام الكثيف..
إننا يا صديقي نشبه ذلك المعوق الذي بُترت ساقيه في الحرب، إلا أنه غالب وغلب إعاقته، وحقق من النجاح بعد الإعاقة أكثر مما حققه وهو سليم معافى، بل وحقق ما لم يحققه كثير من أقرانه المتعافون عقلا وحواسا وبدنا.. النجاح يا صديقي أن نحوّل نقاط ضعفنا إلى قوة، ونقصنا نتجه به نحو كمال ننشده..
(10)
بوح أول
لطالما تمنيت يا هيفاء أن أكون دمعة حزن في محاجر عينيك.. مسحة حزن خفيفة على ملامحك الحالمة.. الحزن أيضا يزيد عينيك سحرا، ويضفي على تفاصيل وجهك جمالا وجاذبية.. ما أجمل أن أقاسمك حزنك واتبارك فيه، وأتبرك به.. من هذا الذي لا حزن له؟!
تمنيت أن أكون خصلة أو جديلة في مفرقك.. تطير عاليا خارج المدار.. تسافر إلى الأقاص البعيدة.. تعرج بي إلى السماء.. نستكشف مجاهيل مكتوبنا، وما خطه في اللوح القلم، ونجيب على كل الأسئلة..
لازلت أذكر وأنت تفرقين جدائل شعرك صرتين، واحدة على اليمين والثانية على اليسار، وكنتُ بين المفارق والضفائر، مصلوبا بالسؤال: لماذا لا تطلقين سراح شعرك للريح والبحر والنسائم؟!!
أبحث عنك في كل فسحة، وبعد كل درس وحصة، كالحروف الشاردة عن كلماتها، والكلمات الباحثة عن نقاطها التائهة.. دونك الكلمات لا ملح ولا سكر، ولا في الشعر قصائد.. عندما أراك أطعم الأشياء، وأرى الألوان البهيجة.. أرى الحروف محار، وأرى الجواهر في القصيدة.. دونك أشعر بالفراغ يحيطني، ويفرقع داخلي احباطا وخيبة..
أنا الحروف الشاردة في الفضاءات القصية، أبحث عن نقاطي الهاربة!! كيف لي أن أكتب القصيدة، وأنا الذي أستغرقه الفشل؟!! لازال نصفي يبحث عن نصفه الهارب في الآماد البعيدة؟!! كيف لانكسارات الحروف أن تستعيد العافية؟!! وكيف للحروف الشاردة أن تصنع القصيدة في دوحة الشعر الجزيل؟!
كتبت عن عينيك يا هيفاء، بجراح غائرة في الروح، وفاه فاغر يبلعني كل يوم مرتين.. حاولت أستعيد نصفي وأسترد بعضك في لواحظي، ولكن عينيك كانت عنِّي شاردة.. فإن رمتك سهامي عادت خائبة، لتصيب قلبي الذي أنفطر بحب التي لا تحبني.. من يصنع الكيمياء بين أرواح البشر؟!
حاولت أن أشحذ سهامي في جحيمي الذي يصطليني.. أسنها بلواعجي وأواري التي أخبيتها.. أردت أن أقصف بصواعقي قلب الحبيب، و يا ليتني ما فعلت، فكل صواعقي عادت تفجرني بألف خيبة وصاعقة.. أنا المحب الذي أثقل الحب كاهله، وأثخنه ألف مصاب وجرح..
كنتِ تنامين يا هيفاء تحت جفوني كل مساء وتصبحين.. تمرين جواري خفيفة كنسمة بحر منعشة، أو إشراقة صبح جميل، ممشوقة كآية في امتشاق القوام، آسرة المشاعر كالمعجزة .. تسيرين سير الحمام، فيزجل داخلي الحب الجميل.. وإذا ألقيتي عليّ السلام، كان سلامك قنطرة تسقي روحي العاطشة، وتمدها بالأكسجين.. وعندما عني تعرضين، أشعر بهول الكارثة..
لطالما تمنيت أن أكون قلما ودفترا وممحاة في حقيبتك.. أسافر فيما تكتبين دون عودة.. لوحة رسم معلقة على حائط غرفة نومك، تسافرين في تفاصيلها قبل كل غفوة.. وسادة تضعينها تحت خدك عندما تخلدين إلى النوم، وتحلقين مع الأحلام السعيدة.. قنينة عطر تشتاق لك في كل حين.. هدية ملفوفة بالضوء تبحث عنك في الدروب والأمكنة.. شرفة يملأها وردك الفواح بالأريج.. سترتك ومناديلك وكل التفاصيل في خزانتك، إلى المرآة وساعة الحائط وحتى أحمر الشفاه وطلاء الأظافر.. إنه الحب المتيم، والمستبد على الشوارب..
ولكن كان الختام غير مسك، وكان الفراق.. استهلكت روحي في عناء السفر والزمن المسافر، وعندما أدرك اليأس اللحاق، وبات طول الانتظار دون لقاء أو مجيء أو أمل، ومسافات البين تزداد بيننا، وختامها غير الطريق، كان السؤال: كيف لي أن أدركك!! ومسافات البين تترامى في المدى، ومسافاتي التي قطعتها خائبة تحبو في القاع السحيق..
استجمع روحي المهشمة والمتطايرة كالزجاج، أحاول بيأس أشد إليّ شواردك، ولكن صوتي مهما علا لا يصل إلى أطراف مسامعك، ويتلاشى صداه في المسافات الطويلة، وبقي حولك زحام المتحلقين وضجيجهم.. ونحسي المثابر بات يعترض كل معابري، وأنا الذي قالوا في يوم ميلادي أنني صاحب البخت السعيد..
(11)
بوح ثاني
كنت أخبي حبي في نفقي السري العميق، وأسد منافذه ومنافسه، وأخرج من دهاليزي ألبس الأقنعة، ليكمل السر ذروته ودورته.. أغلي في مرجلي، واكتم صوت غلياني، وأحاصر الأبخرة، لأسوقها إلى قنينة نبيذي، لأسكر بأوجاعي الصامتة.. لطالما حرصت أن لا يعرف الصمت عما الذي فيني يجيش، وماذا يحدث في أعماقي السحيقة.. منعت نفسي عن نفسي، ومنعتُ الصمت أن يسمع صمتي، وهواجسي التي تجوس وتغلي داخلي..
أغار عليك دون أن تعلمين، أو يعلم أحد.. غيرتي كبلتها بناري وأصفاد الحديد، وألجمت جنوني المحتدم تحت قشرة الأرض السمكية، ولم تفكر غيرتي يوما أن تفرض الحجاب على الصباح الندي، ولا ضرب البراقع على شروق الشمس، ولا أسدل سواد الموت على وجه القمر..
كنت أقمع نشيجي، وأسحق بقسوة صهيل خيولي.. سلطتي على نفسي كانت مُفرطة.. أتظاهر بالسكينة والدعة والسلام الداخلي، فيما معاناتي وآلامي تزيد، ووجع الحقيقة أشد.. يا لعمري وأحماله الثقال، وما الجمل يوما شكى لصاحبه بآه، وقال له إن أحمالي ثقيلة.. مجرم أنا بحق بوحي الذي لطالما ظللت أقمعه، وأخنقه لسنوات طوال..
من حق الأقنعة أن تشكو قُبحنا، وقد ضاقت ذرعا بنا، وأرعبها طغياننا ونفاقنا، وما نداريه من التوحش والقتامة.. ويل لمجتمع كذوب ومنافق من الحضانة إلى يوم القيامة.. كان إبليس يكره الأقنعة.. فهل يستحق أن نشكره؟!!
لقد أحسست يا “هيفاء” يوما أنني صرت جلادا وسجّانا، وأنا أحبس صهيلي في السراديب السحيقة.. وأخنق بوحي وحبي في مدافني وأنفاقي العميقة.. أقمع أجمل المشاعر بقسوة جلاد وطاغ..
إذا غبتِ يوما عن الجامعة، أهوي إلى قاع الجحيم.. ما أقوى اشتياقي والحنين.. يا لعمر مهدر ومصلوب وخائب.. يا لخيباتي الكثار التي أتخمتني حد الانفجار، وأقداري التي خذلت مُناي، وكان عليها أن تخبرك، أن هناك شاب بحبك يموت أو يحتضر.
أحدث نفسي وأسأل: كم هذه الأقدار علينا قاسية، وهي ترفض نقل إحساسي إليك.. كان قلبي يخفق ويضطرب كعاصفة، فيما أنتِ كجلمود صخر لا تحسين ولا تشعرين.. كنت وأنا أحدثك أشعر إن أقداري لم تتقن صناعة جهازي العصبي، وأن فيه ألف خلل، وأنا أعيش لحظة إرباك أمامك، وكأن على رأسي يقف ألف عفريت وطير..
قطعاً كنتِ تلاحظين جزعي وخجلي وارتباكِ، وتفاصيل وجهي والجسد، إن تقابلنا أو تحدثنا في لقاء عابر.. ألم تسألي نفسك يوما ما سر هذا الارتباك الذي يحس به التراب الذي أقف عليه؟!.. هل كنتِ ضريرة؟! أم كان غبائك فاحشا حد الذي لا يرى اضطراب شجرة في وجه العاصفة!!
أستحضر روحك كل ليلة، محاولا أن أبلغك رسائلي، وأعلمك بما يدور داخلي.. حاولت بحواسي فوق الخامسة أن أبلغك بعض ما يجيش من حب لا يُحتمل، يشب في صدري كالبراكين العنيفة، وفي غمرة المحاولة اكتشفت أني وحواسي نعاني من عطب كبير..
توعكت بك حتى خانتني الحواس، وقتلتني تلك التي تفانت في إخلاصها حرصا عليك، ومن الحرص ما فعل الدب بصاحبه.. ما عهدتُ الحرص يوما مُضلل وكاذب.. كنت حر طليق، والكاذب من أبلغك أنني قد صرت أبا، وأن لي زوجة جميلة.. إنه الكيد المظلل والأكيد.. ما يكبح الطيش بالمكايد والمفاسد يا مُخلصين..
أكل الحزن والغياب ما أشتهى من عمري، وضاع مني الحلم الجميل، ورغم ذلك لازلت أنبض بحنين الذكريات، أحاول أن أستعيد ذكرى بعض من عمر هرب، ولم أدركه لأبوح له بأشجان لها طعم النبيذ المعتق بحنين السنين الطوال..
(12)
هيفاء تبوح
بعد ربع قرن مضى هيفاء تبيح لي بما كنت أجهله، حيث قالت:
لم أكن أعرف بإحساسك ناحيتي.. لم أكن اعرف بمشاعرك نحوي.. أنا انسانه بسيطة جداً، وكنت انظر اليك باعتبارك قدوة في الجانب العلمي.. حاجه كبيرة جدا.. لم يخطر ببالي انك معجباً بي.. كنت اسمع عنك الكثير واهابك واقدرك.. اشعر أنك تحترمني ولي منزله عندك بسبب مكانة والدي وعائلتي لديك.. اكثر ما لفت نظري تفوقك وخجلك.. اشتغلنا مع بعض بأسبوع الطالب الجامعي.. كنت احس بشخص مرتبك ومتردد وخجول.. اعتقدت أن هذا طبعك في التعامل، وبالذات مع النساء.
اخبرتني اختي إن كنت أحتاج شيئاً أو إجابة عن سؤال متعلقا بدراستي أطلبه منك، وكنت أتردد وأحجم عن الطلب تجنبا لذلك الخجل، والارتباك الذي أراه يعتريك.. اعتقدتُ أنني أثقل عليك.. أرجعت خجلك وارتباكك لطبيعتك فحسب..
اتذكر يوم وقوفي اقرا المجلة الحائطية في الكلية.. لفتت نظري قصيدتك وقرأتها لكن لم يخطر ببالي اني كنت ملهمتك في القصيدة..
سألت عنك؛ وقيل لي بانك متزوج، ولديك اسرة واطفال.. لم أكن أعرف أنك لازلت عازبا.. هذا أيضا جعلني لا أفهم سر ارتباكك غير إرجاعه إلى طبعك في التعامل مع النساء، ولطالما ظننت أنك لا تكن لي أكثر من مشاعر الاحترام..
لو بحت لي حينها بما كنت تشعر به، كانت حياتي تغيّرت، أو ستتغير كثيرا.. لقد ظللت ابحث عن حب يروي عطش روحي ولم اجده.. ربما لو قرأت قصيدتك وعرفت أنني موضوعها أو اهديتني إياها كانت تغيرت الاحداث كلها.. لم أكن ادرك انك تحبني.. كثير ممن كانوا حولي كانوا يتقربوا منّي، وبعد خطوبتي ابتعد الجميع..
أنت من كنت تملك اللسان يا صديقي؛ فالقدر اصم وابكم ويمكن هو اختار لك ما هو أفضل..
كانت زميلتي “هدى” تقول لي عنك: هذا الشاب يهيم بك.. وكنت اقول لها مستحيل، هو رجل متزوج وخجول، ولا يحمل لي سوى الاحترام والمودة التي جاءت نتيجة لمعرفته بأهلي وتاريخ والدي..
لم اكن منتبهة لجمال عيني، لذا لم اشعر بالغزل لهما، ولم ألاحظ لنظراتي ذلك السحر الذي كتبت عنه.. لم اكن اعلم ان لخطواتي الإيقاع الذي تحدثت عنه.. أحلى حاجة فيك انك صرت تتكلم بصيغة الماضي عن حبك لي، وهذا دليل انك تغلبت عليه.
لازلت أتذكر وأنا أمرُّ من امامك أنت وزملائك.. كنت أزداد تحفظاً، وأتحاشاهم لظني أن لديهم رأي ووجهة نظر عن المرأة لا تروق ولا ترتقي..
ظللت اقرأ واتابع ما تنشر عن قصتك حياتك.. عانيت كثيراً يا صديقي.. تألمت كثيرا على خالتك وموتها وقبرها.. اسلوبك رائع لدرجة اني ابكي وانا اقرا.. تشبيهاتك حلوة وجميلة.. ومع ذلك حاولت أن افتش عن ذاتي بين سطور ما كتبته، ولم أجدها على نحو ما ذكرت، لعل أمر يتكرر بشكل آخر، فأنا لم ألحظ عليك ذلك الحب الذي تحدثت عنه، وتدّعيه هنا، في زمن غادر ولن يعود..
لم اكن أنا تلك الفتاة الأرستقراطية التي تحدثت عنها يا عزيزي .. كنتُ فتاة اكثر من عاديه أكان بالنسبة لجمالي أو لوضعي الاجتماعي.. لا أمتلك تلك الصفات التي وردت فيما نشرت..
لا أحب ان يكون لهذا الحنين انين لروحك يا صديقي.. انت شخص حساس وبسيط وصادق جدا.. لذا فالتسامح والنسيان طبعك.. بجد هذا الالم سيؤثر عليك، وما نعيشه اليوم من الآلام والمرارات فيها ما يكفي ويزيد..
على غير طبيعتك حلمت في أحدى المرات بك بعد انتخابك عضواً في مجلس النواب.. حلمت انك أتيت إلى بيتي ومعك حرس وشديتني من يدي بعنف وقوة وعيونك تقدح شرراً وغضباً وتقول لي: الآن اقدر أن آخذك لي.. كنت مستغربة من كمية الغضب في عيونك وقسوتك الشديدة.. ظللت فترة مستغربة من هذا الحلم ومن هذا الغموض الذي فيه..
***
كنت قد ألتقيت بـ “هيفاء” بعد أسابيع قليلة في ساحة التغيير للمرة الأولى بعد أكثر من واحد وعشرين عام من الغياب والانقطاع.. جمعنا الظلم الواقع علينا، وكان لكل منّا قصته.. ازدريت فن السياسية وقبحها، ولم أتنازل عن حلمي الكبير الباحث عن المدينة الفاضلة التي ربما ليس لها مكانا في الوجود، فيما كانت هيفاء في السياسة واقعية جدا وإلى حد بعيد..
تزوجت هيفاء مرّات، فيما أنا تزوجت من فتاة، في غمار البحث عمِّن تشاركني السعادة والنكد وعبور الجحيم.. أحببت من صارت لاحقا زوجتي.. أحببتها من نظرة واحدة، ودفعة واحدة، بعقد نافذ إلى آخر العمر.. عمَّدنا حبَّنا بالتحدّي والعِشرة الطويلة والصمود الأكيد، وجذرته مصالح سبعة من البنات والبنين.. لم أفكر يوما بالزواج عليها من أي حورية.. اعتبرت الزواج من ثانية، قتلا لضمير أحمله، وتشويه لروح لطالما نشدتها، وإيذاء للحياة في عالم غير عادل..
قبل أن تنشب هذه الحرب اللعينة، ألتقيت بهيفاء ذات مرة في البعيد.. حكيت لها عن حبي وعذابي وقصتي معها، وقهقهت وقهقهة معي، غير أن قهقهتي كانت بصوت طاحون، وفي اللحظة تذكرت أنني يوما قرأت من يقهقه عاليا يخفي تحت قهقهته مخزون من الحزن الكثيف..
بعد ربع قرن من العمر باحت هيفاء بما لا تبوح، ورأيت في مرآتها بعض تفاصيلي وما كنت أجهله.. فرقتنا الحرب وكل منّا صيرته على النقيض من صاحبه، ولكن ربما الغد يجلي ما خبى، ولربما يوما توحدنا الحقيقة ومُرّها، أو تظهر لنا تلك الحقيقة التي كانت عنّا مطمورة ومغيّبة..
(13)
عندما تتعاكس أقدار المحبين
جل قصص حبي خائبة، غير أن قصة حب مغايرة خيبت فيني أمل المحب.. هي نقيض تلك القصص التي أعتدتها وألفتها.. في هذه القصة ربما كنت أنا الجاني.. ربما جنيت عليها حتى أحسست أني أحدثت في رأسها مقبرة.. حفرت فيه مغارة مظلمة تركض فيها أشباحي المزعجة.. سببت لها كثيرا من الألم والوجع، وإن كان دون قصد أو عمد..
كانت ذكية ومتفوقه.. عفيفة وطاهرة.. صبورة وكتومة.. حصيفة ومخلصة.. هادئة كبوذا، وعاقلة كحكيم الصين العظيم.. من أسرة شفيفة.. تملك من العقل رجاحته، ومن الروح سماءها المشبعة بالشفافة والجمال..
لستُ وحدي من حب وجلد نفسه في جحيم الحب الناقص نصفه.. لست الوحيد الذي بحث عن توأم روحه في متاهات وجودية خاسرة.. لطالما وجدت نفسي في معادلات حب أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها غير عادلة.. لطالما حالت الأقدار دون أن يكتمل الحب المنقوص بحظه العاثر، وقلّة الحيلة المهدودة بتكرار الخسران، وفداحة الخيبات المتعاقبة..
لست وحدي من فقد حيزه الوجودي لصالح الفراغ الذي ألتهم ذلك الحيز الذي كان يبحث عن نصفه المفقود، فاجتاحه الفراغ، وتمزق تحت دواليبه المجنزرة، وأنتهى حبه إلى خسران موجع، وذكريات اليمة، وبقايا إنسان يندب بقاياه المتلاشية، ويرثيها بحزن عميق..
مثل قصتي مع “هيفاء”، كانت لهذه الفتاة قصتها معي.. كان للحب مسارات متعاكسة لما كنّا نتمنى ونرتجي.. عتبتُ على أقدارنا التي وضعت قلب كل منّا في مكان قصي، أو على مدار مختلف..
كنت شاردا عنها في البعيد، موغلا في التيه، غير مبالٍ ولا مكترث إلا بما كنت أعيشه من خسران الحب المستمر الذي ألقى على عيني العمى، وسد مسامعي بالشمع الأحمر، وكتب على جدار القلب مُغلق من قبل المحكمة.. وعند علمي بحبها تمردت.. حاولت أن أساعدها وأساعد روحي المهشمة من خيبة الحب الكفيف..
كنت لازلت أعاني من فقدان هيفاء وفراغها الملول، ومن خيبة تلاحقني وتقتفي أثري أينما ولّيت.. لم أفطن لحب الفتاة إلا في الأشهر الأخيرة من سنتي الرابعة في الكلية.. السنة التي يتجاوز فيه المحب ما أهدره من الزمن الذي فات، محاولا اللحاق بالفرصة الأخيرة.. فرصة تغتنم ما بقي من وقتها الضائع، والرجاء الأخير للمحب الكتوم..
حاولت التأكد من حبها حتى لا أجد نفسي متوهما على غير الحقيقة.. طرحت كل الاحتمالات في مبحثي حتى لا أكرر خيبتي.. اختبرت كل فرضية أتت.. أجبت على كل الأسئلة.. وجدت الخلاصة كلها.. إنه الحب منها لا سواه..
لا أدري متى بدأ إعجابها أو صرت محلا له!! لا أعرف متى بدأت تفكر أن نكون معا!! لا أعلم إلى أي مدى كانت تحبني؟! لم نتحدث عن هذا، واكتفينا بالإيجاب والقبول.. تركنا بحث التفاصيل إلى المستقبل الذي غادرنا هو، أو نحن من تركناه..
كل ما فعلته من جهتي حيالها كان يشبه قفزة الكنغر، ولكن إلى مكان أحسست أني محاطا بما هو مجهول ومستصعب.. لم أستطع المضي فيه إلى مستقبل مجهول، واستصعبت العودة إلى المكان الذي أتيت منه.. خياران بين ذهاب وإياب.. وجدت نفسي على صخرة محشورا في وعر أحاط بي من كل اتجاه..
نقبل على الحب حيث تدبر حظوظنا فيه.. نلوذ بمن ليس لنا فيه ملاذ أو أمان.. نعبر فتعترضنا نتوءات الخيبة التي لا تلبث أن تكبر وتصير أكبر منّا.. عقبات كأداء تعترض طريقنا وتستنزف أرواحنا قبل الوصول.. نحتشر في المأزق الذي يضيق حتى يُطبق علينا من كل الجهات.. تتكوم الموانع في وجوهنا.. تعترض النحوس أقدامنا المنهكة وخطواتنا المتعثرة.. ننزف في الانتظار الطويل ولا يأتي الحبيب.. نصير أنقاضا تحت أقدامنا المثقلة بالحديد، لا نستطيع المضي نحو الأمام، ولا نقدر على العودة من حيث أتينا، وقد صرنا ركاما من حطام..
تتحول فسحة الكون الفسيح في وجوهنا إلى أضيق من زقاق مملوء بالمخانق.. أحلامنا الكبيرة تتحول إلى كوابيس مرعبة ترفض الرحيل عن بقايانا المبعثرة.. آمالنا العراض تتلاشى في التيه وتنتهي إلى وهم على وهم، وسراب في سراب، وما كان لنا متسع في الأمس يتم خنقنا فيه بقبضات ثقال تجهز على أنفاسنا اللاهثة والباحثة عن نصفنا الآخر، أو نصف الحب المفقود منّا إلى الأبد..
حاولتُ الخروج من مأزقي المحشور فيه، وأصنع ممكنا في وجه استحالتي التي رجوتها متوسلا أن تطاوعني لأجل من تحبني.. تمردت على حكم المحكمة.. حاولت أن أفتح لها في جدار قلبي شرفات للحب والفرح؛ فأدركني الفشل الذريع.. أصبتها بجرح عميق دون أن أدري كم ظل ينزف!! يا لنبلها الآسر وكبرياءها الأبي وكرامتها التي شمخت في وجه جرحها ونزيفها وحزنها الوخيم..
حاولت أن أفتح لها شغاف قلبي.. فرشت لها سجاجيدي.. حاولت أن أفتح لها أبوابي وشرفاتي.. دعوتُ الحمام إلى نوافذي المحبّرة بالهيام.. حاولت أن أجد لفرصتها في قلبي مسار متسع.. لم أتريث ولم أطلب منها فُسح أو مُهل..
عرضت عليها الزواج فوافقت.. شرحت لها ظروفي فلم تعترض، ولم تبدِ حيالها أي مانع.. أرجينا بحث التفاصيل فأدركنا المحاق ولم نلحق بحثها.. بين بدايتي معها وطلبي الزواج منها ضيق لم يتسع غير أسابيع قليلة.. ثم تبدل الحال بعده.. ظلت الفجوة بيننا تكبر وتتسع بصمت وتجاهل، فيما كنت أعتب على نفسي: يا لعجلي الذي داهمني كطوفان أجتاح تريّثي، وأودى بي إلى ما صرت فيه!!
داهمني السؤال وقد أدركني الندم: ماذا دهاني لأفعل ما فعلت؟!! هل هو تعويضا لما عشته في الحب من فشل وإخفاق؟! أم بسبب إضاعتي للفرص؟! أم هو استجابة لضغط فراغي وفقداني لمن أحب؟! أو هو ظني إن العجل سيلتقطها قبل فوات الأوان حتى لا آتي متأخرا وأندم على ما فات؟! أو هو التوكل وخدعة المثل: “خير البر عاجله”؟! أم هو كل هذا وذاك؟!!،
كان حالي أشبه بمن يلاحق كرة الحظ الصغيرة في يوم مطير على أرض زلقة، فانزلق بعدها إلى المنحدر.. كنت أحمق عجول يطلق وعد الوصول دون أن يفكر بعثرات الطريق ووسيلة النقل والمسافة بين البداية والنهاية.. كنت أحمق أضع العربة قبل الحصان، وألسع الحصان بسوط العجل.. فقدنا التوازن وانقلب الجميع، ووجدت عجلي مجرورا بعجلات الندم.. حاولت إصلاح مدار أقدارنا المتعاكسة، فجاءت الأقدار على غير ما نريد..
حاولت أن أمنح لها في قلبي الفرص لعلِّي أحبها، فأدركني الفشل المؤكد، وأدركت هي فتوري وترددي الذي ظل يكبر.. تخاتلت كقطة.. مشت بأطراف الأصابع.. أدارت المفتاح في مغلق باب الخروج باحتراف لا تسمع منه تدويرا أو طقطقة.. فتحت الباب بخفة دونما أسمع للباب صرير أو رجوع.. انسلت بهدوء كنسمة هواء.. غابت بعيدا في غروب لا يعود..
بلعت جرحها النازف بصمت صبور، ومضت دون رجعة.. وبدلا من أن أساعدها هي من ساعدتني على تجاوز ما كنت فيه.. أخرجتني من حيرتي التي كنت أغرق في قاعها.. أنقذتني من ورطتي التي تشبه حفرة عميقة كلما حاولت الخروج منها انهال على رأسي التراب.. رأسي المثقل بالحياء..
وفّرت عليّ كثير من الحرج الذي يشبه الموت.. غادرت دون حقيبة أو وداع.. لم تحاول طرق بابي ثانية، ولم تلقِ في وجهي كلمة من عتب، أو حتى سؤال عابر سبيل.. غادرت إلى الأبد، وبقيت ألتمس عفوها والمغفرة..
حبي لم يكن بيدي ولم يكن رهن ما أرغب.. الحب في قبضة الأقدار ليس لنا فيها ولاية.. لا نملك إصلاح مسارات أقدارنا المتناقضة.. وعلى قول شاعرنا المتنبي “تجري الرياح بما لا تشتهي السفن”.. كم أنا أسف وكل الأسف إن كنت يوما قد كسرت قلبها.. لقد تعلمت واكتشفت كثيرا أن ثمة خلل موجود في مسارات الحب وكيمياء النفوس، وفي أقدار البشر، وربما ما هو أكثر وأكبر.. لك كل اعتذاري يا أطيب البشر..
(14)
خطوبة وخيبة
أصابتني خيبات متلاحقة بعضها يفوق الاحتمال.. داهمني الفشل الذريع مرات عديدة.. رافقني الخذلان كثيرا.. مررت بانكسارات غير قليلة.. نزلت على رأسي ضربات موجعة.. جيوش من المخاوف ظلت تلاحقني.. مررتُ بلحظات ضعف، وأسئتُ التقدير في أحايين كثيرة.. لازمت حياتي نقاط ضعف اعتدتها، بل وجدتها بعض منّي وجزء من تكويني.. عشتُ هزائمي في الواقع، وتجرعتُ مرارات الحقيقة..
وفي المقابل أظن أني احتفظتُ داخلي بما هو أهم.. لا أيأس.. أرفض أن أموت وأنا لازلت حيا.. لا أكف عن المحاولة.. أثابر من أجل الوصول.. أنهض واستمر بالسير عقب كل كبوة أو وقوع.. استعيد توازني عقب كل صدمة.. أغالب مخاوفي وأنانيتي.. أتجاوز نقاط ضعفي بتعويضها بنقاط قوة موازية.. في وجه الهزيمة أمارس وجودي رفضا وصمودا ومقاومة، أو على حد تعبير أحد المفكرين: “لستَ مهزومًا ما دُمْتَ تقاوِم”
أستريح عندما أتعب.. أرمم روحي عقب كل تهالك أو تهشم أو انكسار.. استعيد نفسي دفعة واحدة، أو على مراحل إن أقتضى الحال.. أتعافى.. أعود وافر الروح، وبمعنوية دافقة.. أراجع بشجاعة.. أعيد النظر والتقييم بجُرأة.. أنتقل للبدائل والخيارات الأخرى كلما وجدت ذلك مناسبا، أو ضروريا وممكنا..
كنت أحدث نفسي: يجب أن أتعافي مما أنا فيه، وأن لا يدركني اليأس.. ألم يقل أحدهم: “لا يأس مع الحياة”.. الأمل وحده هو من يبقينا أحياء ولا يجعلنا نستسلم لموت مغلّظ وساحق.. فقدان فتاة أو أكثر ليست آخر العالم.. الفتيات كثار والأرض واسعة.. يجب أن لا أكف عن المحاولة.. يجب أن لا تنطفئ فيني جذوة الأمل وانتاج الحلم.. لزم عليّ السعي والمثابرة.. سأجد أبواب مشرعة، وشرفات مفتوحة، وقلوب تنتظر مجيئي على أحر من الجمر..
الحياة خلاقة مهما أجهمت.. الأمل يتجدد.. تحويل الفشل إلى نجاح في متناول الإمكان.. تجربة الفشل تضيف لصاحبها معرفة جديدة، بل قال بعضهم: هي أول خطوة في طريق النجاح، وقال آخرون: تمنح الخبرة الواعية على هذه الطريق..
ربما أيضا يبتسم الحظ في يوم قائض وتمطر السماء.. ربما هناك صدفة تتحين اللقاء، أو بشارة لطالما تم انتظارها.. لازال في الآتي ما هو أجمل.. ألم يقل أحد الشعراء “أجمل الأيام تلك التي لم تأتِ بعد”.. هكذا كنت أحدث نفسي وأعيينها في مواجهة انكساراتها وما أصابها من نيل وخذلان..
***
أريد فتاة فقيرة لا تملك قيمة حذاء.. فتاة كهذه ستكون على استعداد أن تعبر معي وادي الجحيم.. لن تتركني وحدي وسط الطريق.. لن تتخلى عني.. لن تخذلني.. أريد فتاة تلاحقني إن تخلت عنّي الحظوظ وتوحشت في وجهي الأقدار..
لا أريد فتاة تقلب المجن من أول امتحان.. أريد فتاة أستطيع أن أساعدها.. أعيد صياغتها وأرتقي بها.. نرتقي معا إلى ما هو أسمى وأجمل.. أريد فتاة جميلة.. أليست أحياء الفقراء مسكونة بالجمال.. أليس في الغجر أجمل الفواتن.. أليس الفقراء حباهم الله بجمال آسر وأخاذ.. ألم يقل أحد الشعراء لربه: “انت جميل تحب الجمال”
وجدتها في “ريف الجبل”.. أمعنتُ في قولي: “وجدتها بعد إعياء وبحث”.. العجز شل لساني!! “جميلة جدا” جملة أصبحت دونها وصفا وخيالا.. جملة لا تليق بما أشاهده أمامي بأبعاده وآماده وكثافته.. كأنها لؤلؤة جاءتني من قاع المحيط!! “لؤلؤة”؟!! هذا أيضا تشبيه لا يليق بوصفها.. هي هبة السماء.. درة كونية جاءتني من فضاء بعيد وعالم آخر.. من غير العدل أن ينتعل كل هذا الإبهار حذاء مهتري!!
إشراقات الكون تجتاحني.. ما أراه فاق تصوّري وخيالي.. السماء تمطر فيني فرحة وبهجة.. تتلألأ في عيوني.. تشتعل في وجداني.. إيقاعات صوتها تجرفني إلى دلتا خصيبة.. نهداها أرجوحة سماوية.. حلمي يتمرجح بين المشارق والمغارب.. تناديني مفاتنها إلى أوطاني التي لطالما بحثت عنها في المتاهات البعيدة..
احتشدت فيني ألف دهشة.. غمرتني بشلالات ضوؤها حتى غبت عن وعيي انبهارا ودهشة.. الألوان تتجاذبي من كل طرف واتجاه.. قوس قزح يكلل وجودنا بتيجان المحبة والفرح.. فيضها بات أكبر من عالمي.. يتمدد في مدى لا ينتهي..
أحببتها من النظرة الأولى.. من الوهلة الأولى.. أصابتني بكل سهام العذارى.. اصطادتني بكل شباك الفاتنات الحسان.. أوقعتني المجنونة في حب مجنون مختلف.. أوقعتني من نظرة أولى.. من وهلة أولى.. من لحظة أولى.. تملكتني من أول مشهد وأول مشاهدة..
هنا حط رحالي.. هنا كل المواسم والفصول.. هنا الفرص وكل الفسح.. الأعياد والهدايا.. الصوت والصدى.. الفطرة والنقاء.. الحقول والأغنيات.. هنا ملاذ ومستقر المحب الذي أعياه البحث والترحال والسفر..
أفرط جمالها وبذخ.. تعدّى الكمال!! جلّت قدرتك يا الله.. كيف لألف معجزة أن تتكثف في واحدة؟!! أسرتني.. تملكتني.. خطفت قلبي من منبته.. قلعتني من الجذور.. صادرتي دون محضر أو استلام.. انتزعتني من وجودي.. ضمتني إلى وجودها دون خيار أو حوار..
خطبتها من أبيها وأمها.. وقبل ذلك كانت موافقتها.. كان عيد للجميع.. عيد مكلل بالرضى.. مغمورا بالسعادة والفرح.. غير إن الحال لم يدم.. بعد أيام أو أسابيع قليلة أنقلب الحال إلى محال.. صدمني خبر بالغ السوء.. قطعوا أملي بصاعقة.. متطرفو حماة العقيدة وحراس معبدها أطاحوا بفرحي.. أجهزوا عليه.. ضغطوا على الأسرة البسيطة التي عادت وسحبت موافقتها.. منعوا ومانعوا وحالوا.. غم عليّ.. أكلحت السماء واسودت الدنيا في عيوني.. هبط الليل وأدلج في عز النهار.. وكان العذر أقبح من ذنب دميم.. قالوا أنني “شوعي وملحد”..
عدت أدراجي منطويا على نفسي.. كسيرا ومتعبا ومثقلا بخيبة كبيرة لا تقوى على جرّها خيولي المنهكة.. عدت مكسور الظهر والخاطر والفؤاد.. أغالب الكآبة والألم والكمد.. عدت ألملم حطامي.. أشلائي المبعثرة.. روحي الممزقة.. حلمي المبدد بعاصفة.. أضافوا إلى معاناتي خيبة جديدة تشبه الجحيم.. قتلوني المتطرفون من كهنة الدين وحراس المعبد وحماة العقيدة..
(15)
زواج الخمس دقائق
يمضي الزمان إلى الأمام في وجهته ولا يعود.. لا يكتمل مساره ولا ينتهي.. يغادر ماضيه إلى الآتي على نحو مستمر دون توقف أو عودة أو انتظار.. أما أنا فلم أكن أبالي بما يمر من سنين عمري حتى خلتُ أن بمقدوري الاستيلاء على مقوده، والتحكم بفرامله، وتغيير وجهته؛ فاكتشفت أن أيامي تمضي بعجل دون مهل، وعمري ينفذ بسرعة، وما أنقضى منه لا يبقى ولا يعود..
بدأت خيبتي على صفحة مشاعري كحبر يفيش عليها ويتسع.. بدأ خجلي يعرِّيني ويكشف قلة حيلتي.. بدأ هلعي يزداد، ويزيد في إيقاظ محاذيري المنسية، ويثير مخاوفي التي لطالما سخرت منها، ودفنتها في أعماقي البعيدة، فيما مضى من سنين عمري المهدرات..
مرت السنون كما تمر السحاب.. سحاب صيف لا غيث فيها و لا رشة مطر.. أحسست أنني أدنو من “عنوسة” الرجال، وأنا أدخل عمر الثمان والعشرين عام، وما يمر من العمر لا يعود ثانية.. أحسست أن الانتظار الطويل وخجلي المسيطر سيسرقان سنين عمري الباقيات..
كانت تذهب منّي جميلة، فأرفض أن تأتي دونها، وأذهب للبحث عمن هي أجمل منها، لا أدري إن كنت ما أعانيه مرضا أم سوية؟! تحدٍ أم اختلال؟! طبيعي ومعتاد أم اضطراب نفسي وسلوكي.. أم هو كل هذا؟!! ذهب الجمال إلى البعيد، وهبط الندم كقدر، وعشت جحيمي لوحدي..
لم تقتصر شروطي على الجمال، بل تشددت أيضا في غيره حتى صارت المواصفات التي أبحث عنها في فتاة أحلامي بمقاس المستحيل، والتي لن أجدها حتى في بنات الحور، ولا في مخيال البداوة الندي.. فالأقدار الوفيرة لا تأتي إلا بين ندرة ومحال.. كما لا تجي زمرا، ولا تتكرر إلا بصدفة تشبه العصي من المستحيل.. وحتى إن وجدتها في معجزة للقدر، فمن يضمن أنها ترضى بأقداري البائسة..
في لحظة اضطراب غير سوية تمنيت أن يكون هناك معرضا عالميا لطالبي الزواج، وفي جانب كل طلب “كاتلوجا” مرفقا به، يتضمن كل صفة ورغبة وتفصيل؛ غير أن صوتي صرخ من داخلي! وسخر مني صداه! : “ما هكذا يا سعد تورد الإبل”!!
– فقلت: أنا لا أقصد تسليع المرأة، وإنما أقصد إننا نحتاج إلى تحرير الوعي وتحرير أنفسنا من العُقد والموروثات التي تمنعنا من أن نتصالح مع أنفسنا، ونحسن اختيار من نحب في ظروف سوية.. ما أحوجنا إلى نقد وتفكيك وتعرية ثقافة العيب التي تثقل كواهلنا، وتجعلنا ننافق ونخاتل، ونرتدي ثياب الزيف، ونخفي دمامة وبشاعة الوجوه بالأقنعة المزيفة..
أحسست أن عمري يمضي بإيقاع سريع، وما كنت أبحث عنه بدا لي خليط من المستحيل، مثقل بخجلي الكبير، وعُقدي المعلنة، وغير المعلنة المحبوسة في دهاليز أعماقي البعيدة، وتناقضاتي التي تحتدم داخلي، وضميري المقاوم لزيفي وعقدي التي أخفي وأداري بعضها في الزوايا البعيدة المظلمة التي لا تصل إليها شمس ولا ريح.. فضلا عن معاناتي من مجتمع مثقل كاهله بتخلفه، ومشروط بواقعه الثقيل..
حدثت نفسي: يجب أن أهزم خجلي أولا.. هذا هو بداية الطريق.. لم أعد احتمل مرور الوقت عبثا وسدى دون طائل .. يجب أن أجد فتاة أحلامي بأسرع ما يمكن قبل أن يفوت قطار العمر الذي لا يعود.. كنت أعيش كثير من الضغوط فضلا عن شعور اللحظة التي أعيشها، ومدى احساسي بالأمل أو التحدّي أو التعاسة والضجر..
وأنا أغادر منزل صديقي نصر في التواهي، خرجت حسناء من البيت التي في جوارهم، عائدة إلى بيتها القريب.. كانت فتاة جميلة ومشرقة ونابضة بالنور.. أسرعت في خطاي لأدرك السير في محاذاتها، ثم ملت إليها قليلا فيما كانت عيوني ونظراتي لازالت مصوبة نحو الطريق وقلت لها:
– هل تتزوجيني..؟؟
قلتها دون مقدمات وأنا أريد أن أسحق خجلي، وأختصر طريق الألف ميل بخطوة واحدة، وأقطع بها دابر العنوسة التي توقعت إن طالت ستتحول إلى عقد إضافية ورهاب لا يزول..
ألتفتت الفتاة إليّ بدهشة مُربَكة، و لم ترد على طلبي ببنت شفة، بل ركضت مهرولة ومسرعة إلى بيتها الذي كان بمحاذاة الطريق في مكان غير بعيد..
فتحت شرفتها، وأطلّت منها تحدج فيني بدهشة ولهاث وأنفاس متقطعة.. يبدو أنها لم تستوعب بعد ما حدث لغرابته.. صحيح إنها غرابة تثير فضول الحجار، ولكني كنت في الحقيقة، جادا وصادقا ومستعجلا حتى النفس الأخير..
وفي “التواهي” أيضا وفيما كنت ذاهبا إلى منتزه نشوان أيام شهرته، شاهدت فتاة في وجهها مملكة من الحسن والجمال تستحق أن أسحق من أجلها خجلي الكبير.. راقت لي وعزمتُ على البوح لها بما أريد بسرعة واختصار لا يخلو من كثافة وعجل، أتمه بطلب الزواج منها..
لحقتُ بها، بعد أن عقدتُ العزم على الحديث معها خمس دقائق، ويكون مسك الختام طلب الزواج منها.. وعندما استوقفتها بجملة “لو سمحتي.. لو سمحتي” ركبني الإرباك، وخانتني اللسان والشجاعة، وبدلا من أن أقول لها: “ممكن أتكلم معك خمس دقائق” قلت لها: “ممكن أتزوجك خمس دقائق”.. وهي بدلا من أن تشيح بوجهها عني و تمضي إلى سبيلها؛ استدارت نحوي، تتفرس في وجهي الذي كان مكسو خجلا ونكسة، ثم قالت: “أني لا أتكلم مع مجانين” ومضت في طريقها، وتركتني خلفها أجر خيبتي كمذَنّبٍ منتحر ..
شعرت بإحباط شديد، ولعنتُ خيانة لساني وشجاعتي وحظي العاثر أيضا.. ومع ذلك أدرجته في إطار “الفشل بشكل أفضل” الذي تحدث عنه “صوميل بيكيت”.. تجاربي السابقة كانت تهدر سنوات من حياتي، ثم يأتي عقبها الفشل والحصاد المر.. أما هذا الفشل فإنه يتفهم قيمة الوقت ولا يهدره..
(16)
بكره عرسها
في سباق عمري مع الزمن أنخفض سقف شروطي حيال الفتاة التي أبحث عنها لتكون شريكة حياتي في المستقبل، بعد أن أحسست إن العمر يذهب سريعا، وأني أرزح تحت ضغوط نفسية واجتماعية شتّى ترى من غير العادة والسوية حيال كل من تقدم بالعمر نحو الثلاثين دون زواج، فيما جل أقراني كانوا قد تزوجوا قبل أن يبلغوا سن العشرين عام، أو أكثر بقليل لمن تأخر..
بدخولي سن الثمان والعشرين عام أحسست أني أخوض مواجهة تشتد كل يوم مع وعي مجتمع مثقل ومحكوم بطغيان موروث من العادات والتقاليد والثقافات التي تستنكر وتنتقص من أي شخص يمضى نحو الثلاثين وهو أعزب.. لا أذكر أحد من اسرتنا أو قبيلتنا قد تأخر في زواجه إلى مثل هذا السن..
إن ولوجي في عمر الثمان والعشرين سنة قد جعل العنوسة بمعيار مجتمعي تزحف نحوي كتمساح.. تطرق بابي بيد من خشب.. تقذف وجهي الخجول والمتسربل بالحياء بشرر نظراتها وسهامها الحداد.. ومع ذلك لم أتنازل عن الجمال الذي أبحث عنه، وإن تنازلت عن المغالاة المفرطة فيه، واستمريت متمسكا برفضي الشديد أن أفطر بالبصل بعد صيام دام طويلا، وصبر أشبه بـ”صبر الحجر في مدرب السيل وأكثر”..
كنت أحدث نفسي: إذا توفر الجمال الذي يناسبني، فكل شيء غيره قابل للبحث والتعاطي؛ فطالما هناك فترة خطوبة فالأمر فيه رحب وسعة.. لابأس أن تكون مرحلة الخطوبة مرحلة أفرز فيها ما هو ممكن عمّا هو مستحيل.. تفاوض أحاول أن أجد فيه نفسي أو أحاول إعادة صياغتها في مخاضي مع الحبيب، ثم نمضي معا لنكمل مشوار العمر الطويل، أو ما تبقي لنا منه..
في فترة الخطوبة يمكن بحث كل شيء، وأولها الملائمة، وأعني ملائمة كل منا للآخر.. وتقدير مدى إمكانية نجاح الزواج مستقبلا من عدمه، ثم اتخاذ القرار أما بالمضي إلى الأمام، أو التراجع إلى الخلف إن وجدت أسباب جدية تحملني على هذا التراجع وفسخ الخطوبة.. هكذا كنت أحدث نفسي، وأنا أفكر وأفترض كل الاحتمالات..
***
في إحدى الأيام وفيما كنت ذاهبا إلى بيت عمي “الحربي” في دار سعد، شاهدت بالصدفة فتاة تطل من باب بيتها جوار منزله القريب.. استبشرتُ بها وملئني الفرح وغمرتني السعادة.. ظننتها صدفة العمر التي لا تعوض.. ليلة القدر التي لا تعود.. أو على الأقل الفرصة التي يجب أن لا أهدرها دون محاولة.. لقد ملئت تلك الفتاة عيوني وأعادت ثقتي بأن الدنيا لازالت بخير، وأن في الحظوظ لا زالت ولادة..
ورغم أن وجهها كان مخلوب بالحنّا، إلا أنه لم يستطع الانتقاص من جمالها الفارط.. وجهها كالشمس التي تتحدى الغيوم.. محياها يشرق وهجاً وبهجة.. صوتها وهي تدعو الصغيرة كالناي والحنين.. رأسها معصوب بقماش ملون تبدو فيه متوجا بجمال الطواويس.. ملكة بكل المقاييس..
مررتُ من زقاق صغير على مقربة منها، لأن الطريق العام كانت مسدودة بـ “مخدرة” تم تحضيرها لعرس.. وما أن اقتربت من الفتاة أكثر حتى بدت في عيوني مكبّره، سحر يحلق في البعيد.. يحملك إلى أحلامك التي ترف في السماء.. رقة تحتويك من ألفك إلى ياءك ولا تبقي لك همزة.. أنوثة تناديك وتفجر فيك عوالم من شوق وعشق وفرح.. جمالها الطاغي يترامى في مداك، ويتسع بعد احتلاك.. غرقتُ في ذهولي حتى قاع المحيط..
آسرة إبهارا ودهشة.. رشيقة كغزالة كادت أن تطير.. متحفزه بعنفوان مهرة برّية.. نهودها حقول وضباء وأيائل.. شفتاها نبيذ معتق يصطفيك.. عيونها تبرق حنينا وتغدق بالمطر الهتون.. سحرها غالب لا يُقاوم.. اصطادت قلبي كعصفور.. صادتني بيسر وسهولة.. بديت في لحظة دهشة كسمكة على سناره صياد محترف.. تراجعت إلى الوراء، فتبعتها روحي الهائمة..
دخلتُ إلى بيت عمي، وقد تملكت الفتاة روحي وقلبي ومشاعري.. رحب عمي بمقدمي والذي كنت أزوره على فترات متباعدة.. جلست وأنا مسلوب اللباب، شاردا في ذهول عميق، فيما كانت خيولي داخلي تركض وتصهل في اشتياق ولوع.. بديت موزعا بين شرودي واضطرابي المحتدم..
– سألني عمي: مالك.. أيش في..؟!
أجبت: عادي .. ولا شيء.. تمام
أحسست وأنا أقولها أن لساني تجرُّ قطارا دون عجل.. لم يقتنع عمي بإجابتي وبدأ كأنه يريد أن يساعدني باختراع عذر فقال:
– بائن عليك تعبان.. مريض.. محموم..
أجبته: ولا شيء.. أنا تمام..
أحسست أن الكلمات تفر مني، وعقلي لم يعد قادرا على جمع حروف مفردة واحدة..
حاول عمّي أن يوفر بعض من إحراجي الذي يجتاحني.. أراد أن يخفف عنّي.. دخل إلى غرفة في الجوار ربما لإعطائي فسحة استجمع فيها أشتاتي وكلماتي.. أستعيد اتزاني وبعض من وعيي الشارد أو المضطرب..
حدثت نفسي وقلت: إنها فرصة يجب أن لا تفوتني.. لطالما الخجل ألحقني بالخسران.. يجب أن أسأل عمّي عن تلك الفتاة! ومدى امكانية طلب يدها؟! يكفي ما أهدرته من فرص وسنين طوال.. أهدراي للفرص يعني أنني لا أستحقها.. فرصة مثل هذه يجب أن لا تذهب سدى!! لطالما أهدرتُ الفرص وخذلتها وخذلتُ معها روحي المتعبة..
بإمكان فرصة واحدة أن تغيّر مجرى النهر.. كان بمقدور فرصة واحدة أن تغيّر ممشى الطريق، وتختصر مشوار الألف ميل.. فرصة واحدة من سنين طوال كان بإمكانها أن تغيير الحال إلى أفضله.. عاشق وزوج وأب لأطفال يكبرون..
احتدم التناقض داخلي.. تجاذبني التردد والخجل واستصعاب الحديث، وبين فرصة تستدعي جمع شجاعتي وجُرأتي.. وفي مخاضه قررت الانتصار للفرصة التي لربما تنتظرني، والبوح لعمّي عمّا يُعتمل داخلي من وقوع واحتدام..
وما أن دخل عمّي قلت له وأنا أتصبب عرقا:
– أريد أتزوج يا عم.. فترة طويلة وأنا أبحث عن فتاة تناسبني.. قبل قليل شاهدت فتاة ملئت عيوني في باب البيت التي في جواركم القريب.. أريد أن أخطبها.. أتمنى أن تساعدني في طرح الأمر على أسرتها وتعرفني عليهم ويتعرفون بي.. لعلي أجد فيها نصيب..
أستفسرني عمّي عن البيت وصفات الفتاة التي شاهدتها بتفصيل أكثر.. فذهبت أصف كل التفاصيل من الصغيرة إلى الكبيرة، حتى لا يحدث أي التباس أو أدنى خطاء يمكنه أن يوقعني ويوقعه في حفرة كبيرة وإحراج أشد..
أجابني عمي وقد فلتت عليه ضحكة.. أحسست إنها أصابتني بزلزلة.. ثم أعلمني إن “المخدرة” التي تم تجهيزها في الشارع أمام بيتها هي لعرسها.. أمتقع وجهي.. لحظة إرباك اجتاحت كياني.. زادت نبضاتي حتى انعدمت فواصلها وصارت كتيار كهربائي.. عاد قلبي من لديها عصفورا بلا جناح ولا ريش.. عاد يحشرج بصوت مخنوق بغصة ذابحة..
أحسست بالخجل الأشد يستولى على كياني.. خيبة علقتني فيما يشبه المشنقة.. أردت مواراة وجهي سريعا عندما لم أجد مكانا أدسه فيه.. تمنيت لحظتها حضن أمي لأدس وجهي فيه، وأجهش بالبكاء حتى آخر نشيج، ولكن أمي كانت في البعيد..
نهضت دون سيقان تقوى على حملي، وأنا أقول: “ليس لي نصيب” فيما كان عمي يطلب استبقائي لأستريح ونتغدّى معا، فيما أنا أستعجل أمري نحو المغادرة، والحزن يعتري بدني والصدمة تكاد تفجر عظامي.. حملت رجلاي التي خارت قواها، ولم تعد تقوى على المشي، وخرجت وأنا مكسورا ومكسوفا ومقطوب الوجه والحاجبين..
(17)
أم شريف أعانت وصولي إلى نصفي
“أم شريف” امرأة بلغت سن التقاعد، ولكنها كانت تبدو متينة وكرّاره.. تشبه الصناعة الجرمانية في قوتها وصلابتها.. وجهها الطولي ذو قسمات وملامح جاذبة تجعلها محل رضى وقبول.. متعافية وتتمتع بصحة وافرة.. لديها من الجُرأة ما تبلغ بها أحيانا حد المغامرة.. تجمعني بها صلة قرابة عن طريق بعض الأقارب من جهة أمي.
وجدتُ ضالتي في “أم شريف”.. إنها الصدفة التي أعانتني في الوصول إلى ما أريد.. فعندما ألتقيت بها كنت محبطا للغاية.. أحسست أن بمقدورها أن تساعد نصف وجودي بالعثور على نصفه الآخر الذي لازال في ظهر الغيب.. لذتُ إليها لاعتقادي أنها ستسرّع خطاي من أجل العثور على زوجة مناسبة، بعد فشلي الذريع وحصادي المُر للخيبات المتعاقبة..
قلت لها:
– يا أم شريف.. أنا احتاجك.. أعتقد أنك تستطيعين مساعدتي أكثر من أي شخص آخر.. أنتِ “الكمندوز” الذي أراهن عليه.. أنت الإنزال المظلي الذي أعول عليه في الوصول إلى ما لا أستطيع الوصول إليه.. بإمكاني أن أعبر من خلالك الأبواب والغرف المغلقة.. أدخل البيوت التي لم أستطع الدخول إليها.. أنت جسر عبوري أتجاوز بك ما أستصعبه.. أصل من خلالك إلى فتاة أحلامي التي لطالما رمتها، وأخفقتُ في الوصول إليها..
يا أم شريف.. أتوق إلى فتاة جميلة وفقيرة وطيبة لأتزوجها.. لا أهتم كثيرا إن كانت تعمل أو لا تعمل.. لا أكترث إن كانت تقرأ أو لا تقرأ.. أهم شيء لدي أن تكون فتاة جميلة، ولديها الاستعداد أن تعيش ظروفي كيفما كانت، وتعبر معي وادي الجحيم دون حذاء إن أقتضى الحال.. أريد فتاة وفيّة تشاركني وجودي حتى آخر العمر..
أبدت أم شريف استعدادها الجم واستجابتها المتحمسة والمجملة لما طلبتُ منها، وصرتُ أصحبها معي في غزواتي.. سرية استطلاعي ومفرزتي المتقدمة.. عندما أكلفها بمهمة مهما كانت صعبة وشاقة كانت تؤدّيها بنجاح وجسارة فذه.. انطلاقها عند تنفيذ بعض المهام كانت تشبه الصاروخ وهو ينطلق إلى هدفه.. هكذا كنت أشيد فيها وامتداحها من باب التشبيه وضرب المثل مع الفارق..
وفي مرحلة من مراحل البحث عن شريكة حياتي شعرتُ أني استنفذت حيلتي، وبديتُ مثل ذلك “الهندي” الذي من شدة ما يعيشه من فقر وطفر يعود ويفتش سجلات جده لعله يجد على الغير دينا مهملا لصالح جده؛ فيذهب يبحث عن المديونيات، ويقوم بتحصيلها.. إنه مثال مع الفارق أيضا.. فتشتُ في ذاكرتي القصيّة.. وعصرت ذهني عشر مرات.. وتذكرتُ وجود أختين ينضحان بالجمال الذي يسلب العقول ويستولي على الوجدان.. عرفتهن قاصرات قبل سنوات حالما كنت أسكن عند عمي فريد في “دار سعد”..
– قلت لأم شريف:
الأن لاشك أن الزهرتين قد بلغتا سن الزواج.. لعل أجد نصيبي في إحداهن.. ربما القدر يعوضني عمّا فاتني من فرص وما طال من انتظار، ويجبر ما لحقني من عذابات وما أصابني من خيبات كثار.. إنهن جميلات يجبرن مصابي مهما بلغ.. جمال ينافس بعضه، ومفاتن تتملك القلوب وتسلب الألباب..
وعندما سألتني أم شريف عمّا إذا كنت أعرف بيتهن، سارعتُ بالإجابة: نعم؛ ثم صحبتها معي حتى وصلنا باب العمارة، وأطلقتها في المهمة، بعد أن أرأتها الباحة القريبة التي سأنتظر فيها..
كان قلبي يرجف ويوجف في انتظار طال.. قلق يغلي على موقد نار.. احتدام بين توقعي لخبر سار ومفرح، ينازعه بشدة خوف يبلغ حد الهلع من خيبة أخرى إن أصابتني ستكون فوق بلوغها صادمة تزلزل كياني وتهدهُ إلى آخره.. وجدتُ نفسي في انتظاري بين سقف توقعاتي العالي، وقاع صلد يُحتمل سقوطي عليه من برج مشيّد..
لم أعد قادرا على ضبط إيقاعات نبضي السريع.. خرج قلبي عن السيطرة.. شعرت بوجود فجوة داخلي تشبه المغارة، وفراغ يتكور في صدري يكبر ويتسع.. قلق واضطراب يزداد ويشتد على روحي الممزقة.. إحساس يخامرني مع كل دقيقة من الوقت تمر أشبه بعربة مجرورة بثمانية وعشرين حصان تمر سنابكها على جسدي المنهك بالبحث والانتظار الذي طال..
كلما تمادى الوقت أجد نفسي أدور وأذرع المكان الذي أقف عليه طولا وعرضا.. أنتظر الرد بفارغ الصبر.. أتوقع وأفترض وأتكهن.. أزداد اضطرابا كلما طال الانتظار أكثر..
كنت أسأل نفسي وأتوجس:
– ماذا يا ترى يتحدثون كل هذا الوقت؟! هل أم شريف أحسنت العرض كما يجب؟! هل ارتابوا بقواها العقلية؟! لماذا لا ينادوني إن أرادوا التعرف على شخصي؟! هل أخبرتهم أم شريف بالمكان الذي أقف عليه؟! هل عاينوني من ثقب صغير أو من تحت ستارة النافذة؟! هل شاهدوا حركاتي القلقة ودوراني وذرعي للمكان، فاستمرأوا المشاهدة؛ ليخلصوا إلى الشك بسلامة قواي العقلية والذهنية؟! لماذا لا يدعونني لأثبت لهم أن قواي العقلية سليمة ومعافاة، وإن اعتراها بعض الضيق والإرباك والقلق؟! كانت الأسئلة تتزاحم، ورأسي يكاد ينفجر، فيما الانتظار لازال يطول ويضخ مزيدا من الأسئلة الأكثر قلقا..
خرجت أم شريف من المنزل وفي صحبتها فتاة أظنها في سن العاشرة أو أكثر بقليل.. كان المفترض أن تأتيني أم شريف وتخبرني بالنتيجة، غير أنها رأتني في باحتي دون أن تعرني بالا، بل تجاهلتني على نحو غريب، ومضت منقادة كمسحورة خلف الفتاة الصغيرة.. غرقت في استغرابي وحيرتي!! لم أعد أفهم ماذا الذي يحدث؟! تبعتهما وكانت عيناي مصوبة نحوهما وتقتفي أثرهما، فيما قدماي تتخلف عني وكأني أسحب شجرة..
دخلن إلى شارع فرعي فقير وقصير وغير متسع.. فيه ضوضاء وحركة وأطفال صغار.. تبعتهما بحذر وبمسافة أكبر.. شاهدت الفتاة وأم شريف يدخلان إحدى البيوت المتواضعة.. زدتُ غرقاً في حيرتي وذهولي دون أن أفهم ما الذي يحدث؟! ولماذا تجري الأمور على ذلك النحو؟! بديت غاضبا من أم شريف لأنها لم تكشف لي عند خروجها عمّا حدث!! لم تُفهمني إلى ماذا آل أمري؟! وماذا بخصوص من أتيت لأجلهن؟!
كان عليّ الانتظار حتى تخرج أم شريف من البيت الأخير الذي ولجته لأسألها عمّا حدث ويحدث، وقد بدأ الغضب يغل ويحتدم في صدري.. وبعد قرابة النصف ساعة ـ وهي فترة بالنسبة لي كانت طويلة وقلقها أشد ـ خرجت من البيت بمفردها.. حاولت أكظم غيضي لأسمع أي نثرة قد حدثت دون علمي.. وما أن وصلت إلى عندي أجابتني باقتضاب وعجل:
– ما لك نصيب في البنات التي تشتي واحده منهن.. الكبيرة تزوجت، والصغيرة مخطوبة..
قلت لها: وليش تتأخرين مادام ليس لي نصيب.. “كلمة ورد غطاها”.. أيش جلستي تفعلي كل هذا الوقت بدون فائدة..
– أجابت: جلسنا نتكلم عن بنت دلتني عليها “أم البنات”.. ثم ارسلت معي الصغيرة، ودخلتُ أشوف البنت ما شاء الله عليها..
قلت لها: يعني خطبتي لي واحده ما شفتهاش.. ماعرفهاش.. أعجبتك أنتِ.. أنا ماعرفيش حتى بصورة..
– قالت: البنت حلوة وصغيرة ويتيمة بتعجبك.. أني فقط شاورت عليها.. أمها لم تكن موجودة.. قالوا أخوها مات، وراحت بيت الميت، وما بتعود من بيت الميت إلا بعد أسبوع.. عندما تجي سوف يردوا لي جواب..
قلت لها وهواجسي تهاجمني من كل صوب:
ما أدراني إنها جميلة؟! كيف أركن على عيونك؟! أبي شاف أمي ثم ذهب يطلب يدها من أهلها.. كان هذا قبل ثلاثين سنة، وأنا اليوم أطلب يد بنت ما شفتها!! هذه قده يانصيب!! أنا لا أعرفها وهي لا تعرفني.. لم يحدث هذا حتى في زمن جدي!!!
أحسست أني قد وقعت في ورطة تكاد تكون غلطة العمر.. أتحرق وأشتاط على نفسي في داخلي.. أحاول أكظم غيظي وما يعتمل فيني من غضب.. شرر يتطاير منه إلى خارجي..
قلت لها:
“غلطة الشاطر بعشر” .. من قال لي أصطحب معي مجنونة؟! كم فيني هبالة وخفة عقل!! أين هذه الكلية التي تعلمتُ فيها، وعاد اسمها كلية الحقوق.. والله ما استاهل حتّى بصلة..
فردت أم شريف وقد بدأ غيضها يفيض:
– إذا ما تريدها عادي.. نحن لا خطبنا ولا تزوجنا.. نحن شاورنا بس.. وهم ماردوا.. قالوا لما تعود الأم لنا خبر..
عادت أم شريف أدراجها، وبقيت أنا أحاول أن أرى الفتاة بأي طريقة، فيما لازالت كلمات أم شريف ترن في مسامعي ” بنت ما شاء الله عليها.. حلوه وصغيرة ويتيمة” أثارت تلك الكلمات جماح فضولي.. جعلتني أكثر شغفا لأن أراها.. يومها صلت وجلت في الشارع ولكني لم أراها.. حاولت أمر من أمام بابها مرات عديدة، ولكنها لم تخرج ولم تطل برأسها.. عدتُ مرهقا، ولكن مع إرهاقي ليلتها لم أنم.. عشت ليلا أستعجل صبحه الذي تأخر.. وما أن أشرق الصبح حتى غادرت مكان إقامتي في “القلوعة” نحو بيتها في دار سعد.. أصريتُ أن أراها قبل أن أبدأ بأي خطوة أخرى..
وفي اليوم الثاني لم تأت الساعة التاسعة صباحا إلا وكنت أنتظرها في مكان يسمح لي أن أرى الدخول والخروج من باب بيتها.. وبعد ساعات رأيت فتاة تكنس وتكرع الكنيس إلى الخارج.. هرعت نحوها.. استطعت أن أشاهدها وهي أيضا شاهدتني.. عدت كرة أخرى فأحسست أنها هي، فيما هي أيضا أحست أنني هو..
غمرتني سعادة بطول وعرض السماء.. كدت أصرخ مثل أرخميدس “وجدتها.. وجدتها” كدت أطير من الفرح فوق السحاب.. صار حلمي أمام عيوني يقول لي: أنا هنا مُد يداك..
بات الأمل أكبر مني، فيما اليأس الذي ظل يلاحقني وكاد في الأمس أن يدركني صار مهزوما ومكسورا يتلاشى إلى زوال.. باتت مقولة ناظم حكمت تدق باب قلبي وهي تردد “أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد” خُسراني بات معوضا، وما أصابني من فادح الخيبات صار مجبورا ومملوء بالعافية.. إنها صدفة القدر.. صدفة عثوري على نصف وجودي الذي كاد يتحول إلى مستحيل.. شكرا.. شكراً يا أم شريف..
(18)
أسبوع قبل الخطوبة..!
رأيتها وجزمتُ للوهلة الأولى أنها هي لا غيرها، بإشراقها وجمالها وإحساسي بها، بيد أن شك جاس فيني وأعترى.. هاجس إلى نفسي تسرّب وأنتشر.. تشربت منه ظنوني، وأيقظ الشك فيني الأسئلة!! ما أحوج حاصد الخيبات لقلب مطمئن.. لطالما صادني البخت النحوس.. كم خانني الظن، وكم قلَب الحظ في وجهي المجن، كم هويت في مهاوي مُهلكات، وكم وقعتُ في درب الهوى “رأسا على عقب”!
رأيتها في المرة الأولى بأم عيني الاثنتين.. أبهرتني وأحيت الروح فيني من جديد.. عاد الأمل بعد إخفاق ويأس.. رغم هذا بقى في صدري هاجس يجوس.. ربما عيوني كانت مجهدة.. عدتُ وعاودتُ النظر.. فركتُ عيوني ودعكتها بالأصابع واليدين..
سألتُ نفسي: هل ما رأيتُ هي الحقيقة ذاتها؟!
– أجابتني الحقيقة: ذلك ما رأيت..
رغم هذا ظل شيء داخلي يشدّني دون علمي ما هو!! اعتلال أم اختلال واضطراب؟! أخشى التوهم والسراب.. نفسي تريد أن تُصدّق بعد يأس وانتظار!! بلغت الدهشة مبلغا لا يصدّق.. وجب التحقُق والتأكد مرتين..
بعد العيان كرّتين، قالت عيوني “هي.. هي..” طرتُ بأجنحة الفرح فوق السِّحاب.. حلّقتُ في السماء البعيدة والفضاءات الرحيبة.. ثقب من الخوف تسلل إلى نفسي وقال:
– ان تهوي من فوق السحاب أنت مقتُولا لا محالة..
قلت لنفسي: لن أترك باب موارب، أو التباس يربك أم الحواس.. لزم التحرّي وسد كل الشقوق والثقوب والثغور.. لزم التحرر من كل المخاوف والضنون.. حيرتي أشغلتني.. يا أم شريف بددي حيرة نازعتني بين أكسوم ومارب..
ذهبتُ لأم شريف وأنا مثقلا بالهم الثقيل.. أريد أن أقطع شكّي باليقين.. استجديتها ورجوتها أن تستفيض بما رأت، وما تنامى للمسامع، وتزيل عن فهمي كل لبس محتمل.
أفهمتني وأكدت أنها هي لا سواها.. أختها الكبرى متزوجه، والثانية لازالت صغيرة.. فصلّت أوصافها، وأنا مُنهمك أطابق.. أعاير قولها على ما رأيتُ.. ثم صرتُ أنا من يصف، وهي تردد وتؤكد كل فقرة مرتين.. تلألأت في وجهي العبوس وهج الشموس البهيجة.. كل شيء بات فيني يضيء ويحتفل..
سعادتي باتت أكبر من وجودي.. ورغم هذا لازال فيني إحساس يجوس!! هاجس في داخلي يحثني لتكبير الحقيقة.. لابد للقلب الشغوف أن يطمئن ويستريح.. قلبي الذي عاش أكواما وأكوانا من الخيبة الثقيلة.. كل حيرة يجب أن تبددها الحقيقة.. أو هكذا صرتُ أفكُر عندما أجد الوجود لا يتسع لفرحتي الكبيرة!!
***
في اليوم الثالث ذهبت لعمتي أم عبده فريد، اليد التي التقطت خروجي لواجهة الوجودِ.. طلبت منها أن تزرها وتقريني تفاصيل الكتاب.. تتأكد بأم عينها مما رأيت.. يومها كانت تقيم في مكان قريب من بيت الفتاة.. أعطيتها أوصافها وما سمعتُ من الكلام؛ عادت بتأكيد المؤكد.. ثم قالت: آية في الحسن ومعجزة قلما جاد بمثلهما الزمان..
استمعت لها بألف اذن وألف لهفة، ولم أكف عن السؤال!! بديت كطفل في سن الحضانة.. فاغر الفاه مبلودا بدهشة، وأحيانا أعيد السؤال وأكرره كأبله.. يا لقلة حيلتي!! وعندنا تفرغ ما لديها من الكلام، أرجوها بأن تستمر ولا تتم.. أريد أن أوغل في السماع حتى أسكر..
كنت أرجوها أن تُسهب وتُكثر في الحديث.. وأكثر من الكثير إن تأتّى.. تستفيض إن كان ممكن.. تعرّقتُ وشعرتُ بحرج أشد وهي ترسل نصف ابتسامة حالما سألتها عن نهود من رأيت.. بديتُ كرضيع أو دون سن الفطام.. ظللت مشدوها إلى فمها وهي تُحدّث عمن أحب.. معلقا أنا على الشفة كأجراس الكنيسة.. وشغفي بمعرفة المزيد لا ينتهي، ولا يحط له رحال..
أسبوع كامل صرت فيه أحلم أكثر مما أنام.. أستقطع من يقظتي أكثر من بواقيها.. أنشغل بحلمي أكثر من وقت انشغالاتي، حتى بديتُ حالما على حلم أستغرق صاحبه ألف مرة.. نهاية الأسبوع أرسلتُ رسولي لأكمل ما بديت، غير أن أم الفتاة استمهلت للسؤال عنّي حتى لا تجازف.. وكان عليّ الانتظار..
(19)
الخطوبة
طلبت أم الفتاة مهلة من أجل السؤال عنّي، وهو ما كان يعني بالنسبة لي مزيد من الانتظار والأرق الذي لا أعلم كم سيستمر.. صرت لا أحتمل كثيرا من الانتظار دون جواب، أو جواب يستغرق كثيرا من الوقت للوصول إليه.. بات قلق الانتظار يجهدني ويستنزف روحي المتعبة الباحثة عن توأمها في مدارات الصدف، وبقاياي لم تعد قادرة على الصمود تحت رحى ودوران الانتظار الثقيل..
لم أعد أطيق خيبات أخرى وقد امتلأتُ بها فيما مضى من الوقت.. كاهلي مثقل بالهزائم ولم يعد بمقدور الحيل المهدود تحمّل نصف هزيمة أو ربعها.. لا يوجد في العمر بقية تسعفني لتجارب أخرى، أو فشل ذريع آخر.. صرتُ وكأنني أعيش الوقت الضائع، وبقية من فرصة أخيرة إهدارها يعني الضياع والتلاشي إلى بدد..
حالفني الحظ هذه المرة، ولم يستغرق أهل الفتاة في البحث عن مصدر المعلومة والإجابات على أسئلتهم غير أيام قليلة.. كانت إقامتي السابقة عند عمي فريد الذي كان يقيم في مكان قريب، وكذا بيت عمي الحربي الكائن في مكان غير بعيد، ووجود عدد غير قليل من معاريفنا ومعاريفهم المحيطين بنا قد ساعدهم في الحصول على ما يريدون من المعلومات بيسر وسهولة..
كنت أنا أيضا بالموازاة أبحث لأعرف وأستوثق وأطمئن أكثر عن الفتاة التي صادت فؤادي، وأردتها أن تكون شريكة حياتي حتّى آخر العمر.. لحسن الحظ كل الإجابات جاءت بما يسر ولصالح كلينا..
أراد أهل الفتاة معاينة بيت الزوجية ليطمئنوا على مدى صلاحيتها؛ فكان لهم ذلك، وكانت النتيجة كما بدت لي في خلاصتها بدرجة مقبول.. شعرت أن هذه النتيجة تشبه نتائجي في مادة اللغة الإنجليزية في الجامعة.. غير أن الأهم لدي ظل هو تجاوز ما أخشاه.
البيت كانت عبارة عن بيت شعبي أرضي متواضع للغاية ينطبق عليه مثل “دبر حالك”.. شكلها أشبه بزقاق أو ممشى طولي تم تقطيعه.. غرفة تليها غرفة ثانية، بسقف خشبي رفيع وخفيف يعلوه زنك، وتلي الغرفتان دارة غير مسقوفة، ثم يليهما مطبخ وحمام.. كنت يومها أعيش في هذه البيت أنا وخالتي أم أخي، وأطفال أخي منصور وندى..
الحقيقة لم أكن المتقدم الأول لطلب يد تلك الفتاة، بل سبقني إليها عدد من المتقدمين بعضهم لم يصل إلى مرحلة الخطوبة، وبعضهم وصل ولكن تم الفسخ، وإحداهم وصل إلى مرحلة العقد، ولم يصل إلى الزفاف، ولم تستغرق أطول تلك المراحل والفترات إلى أكثر من بضعة أشهر..
كانت الفتاة ترفض فتستجيب الأم لرفضها، وعندما تكرر الأمر تدخلت سلطة الأم القوية، وباتت الفتاة تُرغم على الموافقة، وكان تمردها ومعاملتها لمن تم فرضهم عليها سببا آل إلى الفشل.. هذا وغيره كنت قد عرفته مسبقا من خلال رفيقتي أم شريف.
كانت أم الفتاة ذو شخصية قوية ومهابة، وفي نفس الوقت لا تخلو من طيبة.. كانت تملك سلطة قوية ونافذة في بيتها على جميع أفراد الأسرة، بما فيهم زوجها الطيب الذي توفى قبل سنين من مجيئي إليها.. كدت أكون أنا أيضا واحدا منهم لاسيما في فترة الخطوبة والعقد إلى يوم الزفاف.. كانت هي صاحبة الكلمة النافذة في البيت، بما فيها حتى تلك التي تخرج منها تعاطفا أو تبدو استجابة لرغبة المعني الأول في الشأن بعد تصويب ومراجعة..
الأم تفرض كلمتها على ابنتها في قبول الخطوبة أو العقد، فيما الفتاة تتمرد وتلعب دور تأزيم العلاقة وإفسادها وإيصال الأمور إلى طريقها المسدود.. كانت تُضرب وتُرغم على القبول، ثم تعاني وتتمرد وتفسد ما تم، وتُفشل مخرجات هذا الإرغام.. ثم تراجع الأم موقفها وتتخذ قرار التراجع الأخير الذي ظل هو الآخر بيدها.
كنتُ المتقدم الوحيد الذي حصلتُ ابتداء على موافقة ورغبة الفتاة في أن أكون شريكا لحياتها أو تكون هي شريكة لحياتي بمليء إرادتها واختيارها.. ربما كان هذا هو الفارق مع من سبقوني إليها.. ربما بديت هنا بالنسبة لها فارس أحلامها، وربما أيضا المُنقذ لها من إخفاق وإرغام، فيما كانت هي حلمي الكبير وآمادي القصية، ونصف وجودي الذي أعياني البحث عنه..
أختها الصغرى إشراق هي من قالت لي: “أنت أول شخص توافق عليه من غير ضغط.. كانت مبسوطة بمقدمك ومتحمسة للخطبة والزواج.. كانت طائرة من الفرح.. وكنتُ مستغربة سبب فرحتها فيك، وكأنها كانت على علاقة بك.. مستغربة لأني كنت أراك شخص ريفي، فيما كانت هي قبل أن تأتي إليها تتخيل فارس أحلامها بقصة شعر موضة، ولبس آخر موديل..”
لقد كانت بالنسبة لي نصف وجودي الذي أعياني البحث عنه.. لقد عاش كل منّا تجربته الخاصة بمعزل عن الأخر، وعانى كل منا الكثير من الفشل وعناء البحث، فيما القدر كان يخطط من وراءنا بصمت أن نكون لبعض، وكانت الصدفة جامعة لنا، وقررت أقدارنا أن نجتمع إلى آخر العمر..
خطبتها رسميا بحفلة متواضعة جدا.. لم يتعد الحضور غير بعض من أسرتها وأم شريف وابن عمي عبده فريد، ولم يتعد الاحتفال شرب البرتقال “السنكويك” ، وجلوسنا جوار بعض، والتصوير، ولبس دبل الخطوبة.. كل هذا حدث في وقت ربما لا يتجاوز الساعة.. مرق الوقت كلمح البصر.. كشهقة عاشق في ذروة الحنين.. أسيف على لحظة تلاشت بسرعة وقد انتظرتها عمرا بكامله.. مرّت بعجالة دون إمهال، وقبل أن أملئ منها النظر، وفي يوم كان يفترض أن يكون لنا طرب وأعياد..
أعجبتني بساطة الاحتفال إلى حد بعيد.. أحسست بوجودي وأنا جالس جوارها.. رعشة كانت تصاحب أصابعي وأنا أمسك يدها وألبسها دبلة الخطوبة.. رأيت الحياة تبتسم وتبارك لنا بعد انتظار طال.. غير أن اقتضاب الوقت نال من غمرة هذه السعادة، ومن بوح الفرح الذي لطالما انتظرته طويلا بصبر مُجالد..
بعد مغادرتي لبيت الفتاة اجتاحتني الأسئلة القلقة، وظلت تلح على ذهني باحثة عن إجابة:
– هل سأنجح في الإبحار حتى النهاية؟! هل سأصل إلى بر الأمان؟! أم سأكون أحد المهزومين الذين مروا من هنا؟! هل سأنجح حتى الأخير في العبور إلى مناي الذي لطالما أهدرت العمر بحثا عنه؟! أم سأكون مجرد اضافة خيبة لي ولها في سلسلة الخيبات المتعاقبة التي عجزت أن تصنع فارقا أو اضافة للحياة التي نرمها؟! هل سأكون الفارس الذي أنتصر أم سأكون واحدا من المكسورين والعائدين الذين يجرون أذيال الهزيمة والخيبة؟! هل بإمكاني العبور إلى نهاية الطريق أم ستخور قواي قبل الوصول؟!
إثر تلك الأسئلة فاضت حميتي وعلت همتي وحماستي فقلت لنفسي وأجبت:
– سأعض على هذا النصيب بالنواجذ.. لن أترك له مجالا للتملص أو الفكاك.. لن أغفل عنه دقيقة واحدة حتى لا أندم وأقول فلت منّي في غفلة بلحظة زمن شاردة “ولات ساعة مندم”.. سأستميت من أجله في اليوم عشر مرات إن لزم الأمر.. سأنشب فيه أطرافي وبكل قوتي، وسأدافع عنه ببسالة.. ستشبث به بيداي وأسناني وكل جوارحي.. فلتفض روحي وتذهب قبل أن يذهب منّي مناي.. مستعد من أجله أن أحارب بقية العمر إن أقتضى الحال.. لامجال للتخلي عنه تحت أي قوة أو مبرر أو عنوان أو مسمي..
أول أغنية أهديتها لها “مش هتنازل عنك أبدا مهما يكون” للفنانة المغربية سميرة سعيد لتعبّر عن بعض ما يجيش في وجداني من حب، وعن لسان حالي وإصراري، أقتضب من كلماتها:
“ياللي اديت لحياتي في حبك طعم ولون
مش هتنازل عنك ابدا مهما يكون
دا احنا لبعض حنفضل دايما
طول العمر حنفضل دايما
مهما يكون … مهما يكون
انا حبيتك لما لاقيتك قدام عيني حلم بعيد
كان في عنيا صعب عليا وبعد شويه بقي في اليد”
أكبر أشقائها كنت أراه عندما أصادفه متجهما وغضوبا.. لا أذكر أنه مر من جانبي خلال تلك الفترة وألقى عليّ السلام.. كان حاد الطباع ويبدو متشددا في الرأي.. كنت أشعر أنه غير راض عنّي، بل ومعارضا لي بشدة، وهو شعور لطالما اجتاحني مرارا.. لا أدري ما السبب؟! أظنه ضاق من تكرار فشل خطوبة شقيقته أكثر من مرة، أو ربما بسبب عدم توفق صديقه في خطوبتها التي آلت إلى الفسخ، وربما لسبب أخر لا أعرفه.. كل ما أنا متأكد منه هو إحساسي أنه لا يطيقني، ولم يكن بيننا أي كيمياء ولا ود من أي نوع كان؛ ولذلك كنت أشعر أن المجهول لازال يتربص بي.. أحسست أن الطريق أمامي لازالت غير سالكة على النحو الذي أروم..
(20)
قبل عقد القران
في أول زيارة لها بعد الخطوبة تفاجأت.. وجدتُ شكلها قد تغيّر تماما عن تلك الصورة التي كانت مخزونة في ذاكرتي يوم الخطوبة.. تسألت مع نفسي: ماذا حدث؟! كيف حدث هذا؟! من أين جاء هذا التغيير؟! ومن أين أتى هذا الفارق الذي صار يفوق خيالي؟! كانت تفيض سحرا، فصارت ساحرة على نحو خرافي.. كانت جميلة جدا، فصارت أجمل بأضعاف مما كانت عليه.. بديت كالمسحور وأنا أسأل نفسي: يا إلهي ماذا الذي يحدث؟!
في أول وهلة تملكتني الدهشة! أُصبتُ بربكة في استيعاب ما هو أمامي؟! سألت نفسي في غمرة اندهاشي: من هذه الفتاة؟! وبعد لحظة وأنا أحاول أن أستحث ذاكرتي، وأجمع أشتات صورتها المنطبعة في ذهني؛ استدركتُ أسأل نفسي: يا ترى هل هي أم غيرها؟! كنت مشدوها إليها.. مبلودا من الدهشة، ومبهورا بجمال لم أر مثله من قبل.. داهمتني الأسئلة وغمرتني الحيرة على نحو لم أكن أتوقعه..
بديتُ أمام نفسي مشوشا للغاية.. أحسست أنني صرتُ أكتشف حبيبتي وأميزها عمن حولها كونها الأجمل فقط.. وتارة أكتشفها بحدسي وتكهني.. وفي أحايين أخرى أتعرف عليها من خلال استحثاث ما أملكه من استشعار بالصور المخزونة في ذاكرتي، وكأن القدر يمازح حواسي المربكة، ويمتحن إيماني بقدرته.
تطلعت بعينيها نحوي بخجل آسر، ثم رأيت إشراقة ابتسامة أحسست بحدسي إنها هي.. سحرها تسلل داخلي كقبس نبوة.. تملكتني بصوفية تجاوزت مداي.. استوطنتني مناجم وكنوز من العجب.. دوحة حب في أعماقي تنتشر وتضرب جذورها في شراييني وآمادي البعيدة.. تفتتني وتبعثرني ثم تجمعني من جديد في دهشة لا تنتهي..
سألت نفسي ثانيا وثالثا: ماذا صنعت حبيبتي لتبدو بهذه القدرة في صناعة العجب؟! كيف استطاعت أن تكون أجمل مما كانت عليه، وهي الجميلة دون منازع؟! كيف تغيّر شكل وجهها عن شكله السابق.. هل هي عيوني المضطربة الفاقدة للتركيز أم عيونها التي صرتُ مسحورا بها إلى الأعماق السحيقة؟!! عيونها عندما خطبتها كانت عسلية؛ فكيف صارت الأن دعجا بسواد أكثف من لون المسك؟! تبرق عيناها في عيوني ببشارة ميلاد وحياة وسعادة..
أسبوع مضى وأنا أتخيلها على تلك الصورة التي كانت مكنوزة في ذاكرتي من يوم الخطوبة، ثم أجدها في لقائي التالي على نحو مختلف.. شككتني بحواسي وخيالي وذاكرتي.. تركيزي صار يتشتت، وغير قادر أن يستوعب ما يحدث! حيرتي تكبر وتسأل: من أين أتى ذلك الكم الفارق بين الحالين؟!!
في زيارتي التالية تكرر الحال على نحو مضاعف.. والسؤال يتكرر: ما الذي يحدث؟!! وبعد عناء وتكرار افترضت أن تسريحة شعرها ولبسها والشمس والظل وكل المؤثرات التي تحيط بها، وأيضا ما يخصني من اضطراب التركيز، وتشتت الحواس، وضغوط وإرباك اللحظة، وما يحيطني من ظروف تصنع في مجملها مثل تلك التساؤلات، وتستغرقني اللهفة والعجب العجاب..
وفي كل حال عندما تكون دون مساحيق أو مراهم أو رتوش تصير أكثر بهاء وإشراقا وحياة.. هذا ما ظللت أوكده وأكرره على مسامعها، مع ملاحظة أنها ظلت على نحو مستمر تزداد إبهارا وجاذبية، ويزداد حبي لها كل يوم أكثر من سابقة، ومن دون نقصان أو توقف عن الجريان..
من أجل العبور إلى الضفة الأخرى، أو الوصول إلى مناي الذي لطالما بحثت عنه ولازال مهددا بالفقدان، حرصت على الاستمرار في استمالة الفتاة التي أحببتها، ونيل رضى أمها التي كنتُ أتحاشاها وأخشى انقلابها.. كنت أعتقد أن وجود الاثنتين في اصطفافي ستمكنانني من العبور بأمان، أو السير في الطريق إلى ما أريده دون مخاطر محدقة، أو مجازفة أو انقلاب يحدث على حُين غرة..
كانت لقاءاتنا في فترة الخطوبة قليلة وصعبة ومحدودة للغاية.. لقاء عابر وسريع لا أجد فيه فرصة للبوح، أو حتى السؤال الذي يستكشف كل منّا ما في نفس شريكه.. صرنا محروسين بعناية الأهل وما أكثرهم!! كل منّا محاط بالحرس المدجج بعيون زرقاء اليمامة!! كل إلى جانبه ملكين ومشرف، وحراس أفذاذ ويقظين!!
أحسست أن هناك من يعترض أو يستثقل مجيئي.. شعرت أن شقيقها الأكبر ربما كان له دورا في ذلك أو كان يضغط في هذا الاتجاه.. أنا أيضا كنت استثقل نفسي بسبب هذا الاستثقال الذي أراه واحس به.. أشعر بحرج شديد حياله.. ربما خفف عنّي هذا العبء انشغالي لفترة بدورة قادة وأركان كتائب.. لم أعد أذكر كم هي الفترة التي استغرقتها تلك الدورة، ولكنها كانت قصيرة ربما شهر أو أكثر..
ومن أجل أن أتحرر من هذا الاستثقال كان لابد أن أستعجل العقد.. وهذا معناه أن أكون بجاهزية كاملة لكل المتطلبات اللازمة؛ ولذلك لابد أن أعرف كل تفاصيل ومتطلبات العقد، وأكون جاهزا لكل الاحتمالات الواردة.. رغم هذا فأنا كل ما أعرفه أن المهر وفق القانون لا يزيد عن ألفين شلن، فيما الذي أملكه أو أذخره بالبريد مبلغ وصل إلى ثلاثة عشر ألف شلن.. مبلغ كهذا بدى لي في خيالي بحجم ثلاثة عشر ألف جمل.. جمل ينطح جمل.
الحقيقة أنني أول مرة فيما مضى من حياتي أستطيع أن أحبس مالا، أو أوفر شيئا اسمه “نقود”! أول مرة أستطيع توفير مثل ذلك المبلغ بعد اعتراك استمر طويلا مع يدي التي لا تستطيع أن تحبس المال.. كما أجهل كثير من تبعات ومستلزمات الزواج، وشروط الأهل التي يمكنها أن تفاجئني..
ومع هذا كنت مطمئنا إلى حد بعيد أن كل ما وفرته بات كافيا لأن يتصدى لكل متطلبات العقد والزفاف، بل وما بعد الزفاف أيضا بشهر.. اعتقدتُ إن الحال ليس مستورا فحسب، بل أيضا كافيا ووافيا ويفيض.. اعتقدت إن الأمور ستسير على هذا النحو السهل والمريح.
حددنا موعد العقد وذهبت أنا وابن عمي عبده فريد إلى بيت الفتاة.. استغربت لأول وهلة أنني لم أجد شقيقها الغضوب.. حيرني وأقلقني غيابه إلى حد بعيد.. عدم حضوره يعني أن عقد القران لن يتم، حيث وهو المعني الذي يجب أن أضع يدي بيده أثناء العقد.. شقيقها الغائب هو الأهم الذي افتقدته بين الحضور..
داهمتني الأسئلة واحتلتني الحيرة، حيث لم أجد في انتظاري غير أخوها الأكبر من الأم، و أخ أخر من الأم أيضا، وخالها أخ أمها وآخرين.. ظننت أن أخوها الغضوب معترضا على شيئا ما، أو أنه صار ينفذ انقلابا ضدي، ويريد فركشة كل شيء.. يريد أن يعدم حلمي الجميل ويعدمني معه.. وفي أفضل حال واحتمال يريد أن يؤخر موعد العقد حتى تتم تسوية خلاف ما داخل البيت لا أعلمه.. هذا ما ظننته أو فكرت فيه، وأنا أرى اجتماع العقد ناقص من كان يفترض أن يكون في صدره.
(21)
عقد قراني وتناقضاتي
بعد أن كاد اليأس يدركني، تفاجأت أن أم الفتاة قد حسمت قرارها لصالحي، ورتبت أمور العقد على نحو لا يؤثر فيه غياب ابنها الذي كان يفترض أن يتولى أمر العقد.. بدت الأم وهي تدير الأمور من خلف جدار كأنها شجرة الدر.. أسندت لأخيها إدارة جلسة العقد، وكان خلف الزمام زمام تمسك به سلطة الأم القوية.. فيما أسندت لابنها الأكبر غير الشقيق اتمام العقد.. بدى لي أن الأم قد حققت إجماعا من الرضى والقبول لدى كل أفراد الأسرة، باستثناء ابنها النافر والغضوب.. هكذا خمنتُ الأمور، أو بدت لي على ذلك النحو.
بدأ خال الفتاة يدير جلسة العقد، وحدد ما يتعين دفعه بثلاثة عشر ألف شلن.. كان اطلاق هذا الرقم أشبه بمن نصع النصع.. إنه نفس المبلغ الذي أملكه بعد أن راكمته في حساب توفير بريدي خلال فترة ليست بالقصيرة.. استغربت على تحديد هذا المبلغ، وكيف تطابق مع رقم المبلغ الذي أملكه ولم أبح به لأحدا غيري!! هل هي الصدفة، فيما الصدفة نادرة وتصير أحيانا مثل المعجزة؟! لماذا هذا الرقم بالتحديد وليس غيره؟! هل لديهم شياطين أخبروهم بما أذخره على وجه الدقة والتحديد؟! هل قرأوا أفكاري؟! ما قصة هذا الرقم؟! رقم 13 هذا يحيرني فضلا أنه يثير قلقي وتوجسي، وزائد على هذا هو رقم معروف بشؤمه لدى عدد من الشعوب والمجتمعات..
كان اطلاق هذا الرقم أشبه بمطرقة هوت على رأسي.. حاولت أن أبدو متماسكا دون فائدة.. بديت لبرهة أشبه بمصعوق، ثم صرتُ شارد الوعي في تيه بعيد.. ظهر على وجهي كل شيء أردت مداراته عن العيون.. حتى الطفل الذي لازال حديث عهد في النطق والتهجّي صار بإمكانه أن يقرأ اللحظة في وجهي بسهولة شرب الماء..
حاولت بصوت خفيض مثقلا بالحياء أن أطلب إعادة النظر في المبلغ، فبدى لي الأمر غير قابل للنقاش.. لا توجد مساحة أو هامش لمن يدير الجلسة.. “رفعت الأقلام وجفت الصحف”.. قُضي الأمر وأنتهى.. حتى القانون العسكري “نفذ ثم ناقش” لا يتم العمل به هنا.. كلما فعله الخال الطيب هو شرح التفاصيل التي لا تغير من واقع الأمر غير اضافة ما كان محسوبا أيضا أن تكون عليّ تكاليف حفلة “الصبحية” وعليهم تكاليف حفلة الدخلة أو ليلة العرس..
كنت أريد أن أضيف جملة في مجلس العقد وهي: “لستُ بخيلا ولكن الحيل مهدود” وهو قول بدا لي لاحقا إنه مجازف وربما تكون كُلفته فادحة.. ربما ينقلب الأمر على رأسي.. ألتقط اللحظة الحرجة ابن عمي عبده فريد وكان محقا.. وافق سريعا، ولملم الأمر بحنكة، ولم يترك فسحة للشيطان، والحقيقة لا أريد أتهم الشيطان الذي أفتريه.. إن مضيتُ فيما فكرتُ فيه لكان كل شيء أنتهي إلى زوال، وآل إلى حزن وخيم.. لو حدث مثل هذا كنت سأنزل على نفسي عقاب جم، وندم يرافقني إلى آخر العمر، ولن أسمح لنفسي في الحديث حتى في يوم العيد.
تم الأمر على هذا الإنقاذ المتدخل كقدر حسن، وتم العقد على المعتاد.. سمعتُ زغردة الفرح تنتشر من أمكنة البيت، وكانت أول زغردة فرح في حياتي أفسدها هم ثقيل وحيرة خانقة، وغصة سؤال تقول: من أين؟!! ما العمل لإكمال مشوار الزفاف؟!! أحتاج إلى سحر وساحر، أو قدر يقول للشيء كون فيكون؟! أحتاج إلى رحلة مضنية أخرى لأتمكن من جمع مبلغ يقارب المبلغ المدفوع أو دونه بقليل لأتم الزفاف، والانتقال إلى بيت الزوجية..
بديت في لحظة أكثر من مربكة أعتب فيها على نفسي وأقرّعها:
– أنا طالب فاشل جدا في الحساب.. ضعيف جدا في الاقتصاد.. حديث عهد وتجربة في شؤون الحياة.. عديم الخبرة في شؤون المقبلين على الزواج.. استصعب مراكمة النقود على نحو يفوق التصوّر.. لا أدري كيف ستكون النتيجة!! هل سأصل إلى يوم الزفاف أم إن الخيبة القاتلة ستحل محلها، ومحل من أحب؟!!
صرتُ أرزح تحت واقع ثقيل، ومُرغما على التعاطي معه.. أحسست أني والقانون نعيش مأساة واحدة.. يومها كانت الوحدة تطرق الأبواب، فيما كثير من الحقوق باتت أكثر من أي وقت مضى مهددة بالانتقاص والنيل..
طلبتُ عند العقد مهلة ثلاثة أشهر، غير أن هذه المهلة وجدتها في الواقع لا تكفي بأن أكون جاهزا لأصل إلى ليلة الزفاف، وإن ضربتُ على تبذير اليدين قيدا من حديد..
تذكرتُ أن لي أم حنونة في القرية تحبني إلى درجة لا تصدّق.. لن تبخل من أجلي بروحها إن طلبته منها.. أمي التي فدتني بعمرها في كل مرة.. أمي التي صبرت لأجلي وتحملت ما لا تطيقه أثقال الجبال.. فكانت وجهتي الأولى إليها..
أمي التي لطالما ألحّت هي عليّ بإتمام نصف ديني، فجاء الوقت لأطلب غرمها في الدين.. نصف ديني الذي ظننته أيسر من اليسر كان ثقيلا يفوق الاحتمال.. ليس آية من القرآن أو خاتم من الحديد، فالواقع كان أكثر ثقلا وجهما وشراسة في وجه خيالي الحالم، والشطح في البعيد..
أمي التي ظلت تهتم لأمري ونصف ديني سنوات طوال آن لها أن تساهم، ناولتني ما كانت تملكه وتحتاط به للزمن.. ثلاثون جرام من الذهب “شعيرية”.. مهرها ومكسبها الذي خزنته لفرحة كهذه أو لأيام الشدة التي قد تداهمنا دون إنذار.. فرحت أمي لفرحتي حتى كادت تطير.. الحلم الذي ظلت تنشده أكثر من عشر سنوات صار ممكن يقترب..
أمي أيضا بثت في أبي روح التعاطف والمساعدة فساندني أيضا بسخاء.. أقبل إلى بيت أهل الفتاة التي عقدت عليها.. بدى كريما ولطيفا، بل وقالوا عنه أيضا أنه أجمل مني.. بعد هذا وذاك بدى تحقيق حلمي يطرق باب الممكن والقريب.. وعلى إثر هذا أهديت حبيبتي أغنية الفنان نهاد طربية (بدنا نتجوز عالعيد) وكنت أقصد الزفاف..
شهدتُ في المدة بين العقد والزفاف صراع محتدم وعنيف في داخلي بين الشاب المتحرر والمتفهم للحياة، والكهل المتخلف الذي اكتشفت أنه كان نائما داخلي.. صراع بين ثقافتين، تلك التي تشربتُ منها التحرر والتثقف، وتلك التي تثقل كاهلي وهي موروثة من عهد غابر وبعيد.. أحسستُ أن هذه الأخيرة كادت تفجر رأسي الذي سيتطاير بسببه كشظايا قنبلة..
بدت الغيرة الشديدة غير المبررة تجتاحني كطوفان نوح لأتفه سبب عابر دون قصد.. تفاصيل ماضيها أريد أن أعرفه بحذافيره ابتداء من اليوم الذي بدأت تعرف نفسها فيه.. حتى يومياتها الغير مكتوبة أريد أن أعرف ما بين السطور!! أريد التفتيش كشرطة الفكر في ذاكرتها الحية وذاكرتها المعطوبة.. أريد معرفة كل شاردة وواردة وتفصيل كان في الماضي أو الحاضر.. أريد أن أعرف حتى التوافه.. بديت أمام نفسي أكثر من رجل مريض.
صرت غيورا على نحو مجنون.. أريد أن أستحوذ عليها باستغراق مستبد.. أريد أن أتملكها من ألفها إلى ياءها.. بديتُ أمام نفسي أنانيا ومتوحشا وشريرا.. أذكر أنها لبست قميصا يكشف بعض من ظهرها لتخصني فيه، فانتابتني نوبة جنون وصلت أعنّتها.. لم أكن أعلم أنني بهذه الدرجة من السوء..
تهديد أطلقته يوما بارتكاب جريمة قاتلة ضد أحدهم.. حبي بات يلج كل يوم أكبر من سابقه نحو الجنون المنفلت.. اكتشفت أن داخلي رجل بدائي يسكنني بعنفوان مجنون لم أكن أعلم به من قبل..
في المرحلة الثانوية.. مراهقتي الأولى.. كنت شخص آخر يتوق لانفتاح عابر للقارات.. انفتاح إلى حد كان صادما لأحد أصدقائي الأعزاء.. ربما الحرمان كان بعض صانعيه.. كانت لدي أفكار تتوق إلى ما يتجاوز حدود الأرض والسماء.. انفتاح كاد يكون بلا حدود، وبعد أن تخرجتُ من الجامعة وعقدتُ اكتشفت غول شرير مرعب نائم داخلي دون أن أدري!! شعرت أم الفتاة للحظة أنها زوجت ابنتها لشيطان لا لبشر!!
كان يسكنني أيضا في نفس المكان طفل.. غاية في البراءة.. صادق إلى أبعد الحدود.. خالي من عُقد الحياة.. متحرر من كل موروث.. طفل لم يتلوث بعد بعقد الكبار.. ينفجر بالبكاء لموقف بسيط..
كان يسكنني أيضا شخص يفرح ويطير لأبسط دواعي الفرح.. تسيح عيونه بالدموع لأبسط مشهد مؤثر.. يبكي بحرقة دامية وهو يقرأ قصة أو رواية أو حتى وهو يشاهد فلم كرتون.. أحيانا يحتاج لأن يجهش بالبكاء؛ فينعزل وينفجر بالبكاء في وحدته ليفرغ ما فيه جوفه من حزن ثقيل يهد الحيل..
كنت أتناقض مع نفسي.. كانت نفسي مشحونة بتناقضاتها الكثيرة.. كنت أشعر أنني في ساحة معركة بل أشعر أن في داخلي صارت ألف معركة.. غير أنني كنت أطمئن وآنس إلى ضميري.. هو الحكم الذي أسلم له رايتي.. أنقاد بعده بأمان وثقة.. هو إمامي والحادي والدليل.. دليلي الذي أعتمد عليه في حل تلك التناقضات التي تعترضني وتهدد عقلي وتفكيري وسلامة الحواس.. كان ولازال ضميري ضامنا وحاضرا في حياتي حتى وإن تأخر بعض الوقت، أو وقع في غفلة أو لحظة حمق لا تدوم..
(22)
زفافنا..
زفُّونا بفرح وبهجة كأننا جئنا من الفضاء.. بشارة أكبر من نبّوة.. سر أكبر من مجرة.. حب أكبر من الوجود.. شلال من نور إلهي.. قطعة من شمس ملونة.. نار وسلام.. عشق وغفران.. محبة لا تنضب ولا تنحسر.. إحساس عشناه ونحن نُزف بركب فرح كبير..
في حضرة الحضور.. تلاشى الخجل الوخيم.. تبدد العيب المكوّم.. تآكلت القيود.. أطلقت عيون النساء من محابسها العنان.. أطلقت النهود الأشرعة.. والعذارى أطلقنّ الخيال والأجنحة نحو المدى باحثات عن فرسان أحلامهن..
تحررت الخيول من محابسها الكئيبة.. أمتطى الفرسان صهوات الجياد.. أطلقت الخيول صهيلها بجموح وعنفوان.. أحلام العذارى تسابق الريح.. سمعتُ صوت العشق الخفيض.. أنفاس الهيام.. هديل الحمام.. تموجات الحب.. اكتظاظ الحنين.. صخب الحياة التي كانت هامدة..
غنّت لنا الحقول والفصول والأودية.. توسدنا الأفئدة.. ترنمت العصافير الجميلة وأشجت مسامع من حضر.. نظرت إلينا عيون الحاضرين وباركتنا بالفرح.. أحاطت بنا الأسئلة.. شغفت بنا المعرفة.. زاد الفضول وازدحم العجب..
توجونا بالفرح الكبير.. اعتليتا المنصة كالضوء البهيج.. ليلة كانت أكبر من مملكة.. قعدنا على الفخامة كاليقين.. كشلالات الحنين.. لحظة عشناها للمرة الأولى.. بدينا وكأننا جالسين على عرش عظيم.. اكتظ الجمال أمامنا وطاف حولنا حتى بدينا وكأننا مركز الكون أو قلب المجرة..
رأيت أمامي فخامة عروش الروم وسجاجيد فارس.. المباسم أمامنا تضيء سمانا.. تبرق حدقات العيون الكثار.. ينهمر المطر الشجي على القلب والوجدان والذاكرة.. جمال العذارى فارط وباذخ من يلملم أطرافه.. من يحتوي شاسعات المدى؟!! هذا المحيط المديد!!
كل المروج هنا تحتفل.. أعناقنا تشتاق فن العناق.. والشفاه تتوق لأقداح الخمر المعتق بسنوات الحنين الطوال.. الكل رقص مع الدان ودندن.. الكل معنا غنّى واحتفل.. نسائم البحر وأنفاس الوجود.. في زفافنا الكل حاضر..
سعادتي تموج كما يموج المحيط.. تمتد إلى مدارات الفضاء بلا حدود.. هالات جسدي تنشرح وتتسع.. تنتشر في الآماد والفضاءات الفسيحة.. جسدي يضيء من وهج الفرح.. بهجتي تملأ الوجود المتسع.. شموسي تتوّج ذلك الليل ملكا على كل الليالي الداجنات..
غادرنا المكان إلى غرفة تشرف على البحر.. شنّفت مسامعنا صوت أمواجه التي غنّت لنا وباركت هي الأخرى أفراحنا.. النجوم تدور حولنا كسلال الورد، وخلفها تنساب فصول الربيع.. يتضوع الليل بعطر الملوك الذي يفتح في مسام القلب نوافذ العشق الفتي، وبوابات الفرح البهيج.. الأزهار تبارك أفراحنا، والزنابق تبتهل وتدعوا لنا.. تنثر علينا عبقها وعطرها المنتشر.. الكل بنا أحتفي وأحتفل..
تفلسفنا حتى مطلع الفجر المتوج بالربيع الندّي.. وفي الصباح أشرقت فيني بهية.. صباح كوني عظيم.. قطفتُ قلبي وردة حمراء.. في قلبها طاقة كونية.. متجددة لا تذبل ولا تشيخ.. كثافة من أريج الحب الذي لا ينتهي..
أهديتها جواهري.. أصدافي ولألئي.. مشارقي ومغاربي.. عصرتُ نبيذها من دمي.. أشربتها من منابعي.. ومضتها من لوامع أدمعي.. أنّقتها بكأستي التي تلمع بالعيون وتبرق بالحنين.. كل شيء لمحبوبتي عربون لحب يدوم.. توجتها ملكة على حبي العظيم.. جوهرة من دمي القاني نقطُّها وسط الجبين.. منحتها كنوزي وتيجاني وكل ممالكي.. سكبت روحي على راحتيها قبلة تسري خمرة ونشوة في روحها والجسد..
بعد إعياء وبحث قال القدر فينا كلمته.. ألتئمنا في واحد.. وأكتمل وجودنا والتأمنا بالوجود.. عِشرة واجتماع وحياة.. سبعة من البنين والبنات.. حياة وامتداد لا يموت..
مضى على زفافنا ما تعدى الثلاثين عام حافل بالكثير.. عطاء وإرادة وصمود.. كثير من الحياة والمشاركة وممارسة الوجود.. ومن تقلبات الحال وعبور المحال.. صراع البقاء ومشاهد العجب.. شاسعين بحبنا.. بصبرنا.. بجنونها.. وغفراننا لخطايانا العظام..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.