العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. “الوحدة” التي ذهبت

يمنات

أحمد سيف حاشد

تعلمتُ أن “الوطن العربي” واحد من أقصاه إلى أدناه .. ربما كان هذا أجمل ما تعلمته، و بات له اليوم وحشة الغياب الذي طال، و الفقدان الذي يشبه الموت، في عهد سادهُ المتوحشون و أنتشى فيه التافهون، و مات أحراره كمدا و قهرا..

تعلمتُ أن يكون المرء إنسانا ضد كل ما ينال من إنسانية، في أي مكان من هذا العالم، أو ينتقص من حقوقه بظلم أو بطغيان، و الانتصار له في عصر دميم، موسوم بالتفاهة و توحش رأس المال..

رغم كل هذا التوحش الذي يسود، يجب أن لا نيأس؛ لأن في اليأس موت .. يجب أن لا نستسلم لهذا الموت الباذخ و التوحش المنتشر، بل و الأكثر وجوبا مقاومته على نحو لا يعرف الاستسلام، و بأمل لا يعرف التلاشي .. الحياة ولاّدة، و لعل في هذا و ذاك مخاض ولادة جديدة، و بداية عهد جديد، و المثل المشهور يقول: “دوام الحال من المحال”، و لنا في التاريخ ألف عضة و عبرة و مثال.

***

حالما كنت صغيرا تعلقتُ بما كانت تُعرفُ بخارطة “الوطن العربي” .. شاهدتها في إدارة المدرسة، و شاهدتها في بعض المناهج الدراسية المقررة، و تكررت أمام عيوني في أكثر من مشهد و مكان .. استهوتني جغرافية و تاريخ و امتدادات هذا الوطن، و الانتماء إليه، دون تعصب أو انتقاص من الآخر..

و رغم الحدود التجزيئية و الأنظمة العربية القمعية المستبدة الجاثمة على أنفاس هذا الوطن الذي ننشده، و رغم الواقع العربي الثقيل بكل تعقيداته، كانت أحلامنا في ذلك الزمن كبيرة و عابرة للحدود..

 كان لدينا أحساس كثيف بالانتماء العميق لهذا الوطن الذي نبحث عنه، و نشتاقُ إليه .. كان هذا الوطن في وجداننا شديد الحضور .. أحلامنا و مشاريعنا كبيرة .. كنّا نحلم بالوحدة العربية الكبرى، و نفكر بمستقبل طموح..

عندما تراجعت الأحلام الكبيرة صغرت و انحسرت المشاريع، حتى بات أكبرها أصغر من عين الذبابة .. الوحدة اليمنية التي كان يفترض أن تكون بداية انطلاق أو جسر عبور إلى حلم الوطن العربي الكبير، صارت تعاني من التشرذم و التلاشي حتى صرنا نُقتل و نُعتقل في الحدود الصغيرة بين المناطق، و نقاط العبور، و مسميات أمراء الحرب، و وكلاء الخارج المدعومين بأموال النفط المسمومة، و رضى و تواطؤ مراكز رأس المال الجهنمية..

***

كانت الوحدة اليمنية في يوم ما، أملنا و حلمنا و قد تبدد ما هو أكبر منها .. كنّا كلما بدأنا نرى هذه الوحدة تدنو و تقترب منّا، نتفاجأ بأحداث و ظروف تغيّبها عنّا مرة أخرى نحو المجهول، أو ترجيها إلى موعد غير معلوم، أو تجعل من أمر تحقيقها ما يشبه المستحيل..

في آخر أيام الرئيس إبراهيم الحمدي كانت الوحدة اليمنية قد بدت وشيكة التحقيق، و ربما دنت على مسافة مدت يد أو مرمى حجر، أو هذا ما خلناه، ثم أصبحنا على خبر فاجعة اغتياله .. تبدد الحلم الذي كان ينمو و يكبر أمام عيوننا ببيان نعي أسود..

أذكر يومها و أنا استمع المذياع في مفرج بيتنا القديم بالقرية أجهشت بالبكاء بحرقة و مرارة و ألم .. شعرت بقهر و انسحاق لا مثيل له، رغم أن عمري يومها كان دون البلوغ .. كنّا في تلك الأيام كبارا، و إن كانت أعمارنا لا تزال صغيرة..

كان حُلم الوحدة اليمنية بعض من تكويننا .. تعلقنا به من نعومة أظفارنا .. تنشّئنا عليه .. عانينا من أجله .. صار جزء من وجداننا العميق .. الوحدة ظلت لعهد طويل حُلمنا و هدفنا و خيارا لا نحيد عنه..

***

ظلت الوحدة هاجسنا و شعارنا الذي لا نتخلى عنه .. كان شعار “لندافع عن الثورة اليمنية و تنفيذ الخطة الخمسية و تحقيق الوحدة اليمنية.” شعارا لطالما رفعناه و ردّدنا و تعلقنا به .. كان حاضرا في ترويسة جل المراسلات الرسمية و الحزبية في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية..

ظلّت الوحدة اليمنية في دولة الجنوب هتافا و شعارا و قسما و تحية للعلم .. عرضا مكتوبا على الجداران و واجهات ميادين الاستعراضات و التدريبات العسكرية .. في الساحات و الشوارع العامة .. حاضرة في كل ما هو رئيسي، و في كثير من التفاصيل..

صار شعار الوحدة متصدرا للكثير، أشبه بتصدر البسملة لسور “القرآن الكريم” .. الرسالة التي لا تحمل في رأسها الشعار تبدو مبتورة، شأنها شأن البسملة .. أما في القلوب كانت الوحدة حاضرة لدى أبناء الجنوب و أبناء الشمال على السواء .. لا فرق بينهما .. كانت الوحدة حلما شعبيا عريضا و محل شغف يتعلق به الجميع..

بعد كل إخفاق و فشل و ضياع فرصة تحقيق الوحدة اليمنية، كنت أشعر أنها لازالت حلماً بعيد المنال، و أن تحول هذا الحلم إلى واقع يحتاج إلى فترة غير قصيرة، بل و يلزمها أيضا تغيير أحد النظامين .. و عندما تحققت الوحدة في 22 مايو 1990 فرحت بتحقيقها فرحا كبيرا، غير أني و بالقدر ذاته كنت متوجسا و قلقا و خائفا من المجهول..

لازلت أذكر قبل الوحدة بفترة وجيزة تم اختياري لألقي محاضرة على ضباط و صف و جنود معسكر 20 بكرتير عن سلبيات و إيجابيات “دستور دولة الوحدة”، كشفت فيها عن المخاوف و المحاذير .. انتقدت أهم مواد هذا الدستور، و التي لا تهدد فقط المنجزات التي تحققت على الصعيد الاجتماعي و التشريعي في الجنوب، بل و أيضا ما يتهدد مستقبل الوحدة برمته..

بلغ التوجس مبلغة ليس فقط لأن علي سالم البيض صار الرجل الثاني لا الأول، و العملة صارت الريال لا الدينار، و العاصمة صنعاء لا عدن، بل أيضا لأن هناك ما هو أهم؛ و هو الأساس التشريعي التي قامت عليه دولة الوحدة، و وجود بعض الثغرات الكبيرة في الدستور، مثل تلك التي أتاحت للرئيس إصدار قوانين أثناء إجازة البرلمان .. لقد كان هذا بمفردة مدعاة لقلق أشد .. و بالفعل ظلت النوايا السياسية و التشريعية تتكشف تباعا، حتى انتهت بإقصاء شريك الوحدة على كل المستويات، و بحرب كارثية على مستقبل الوحدة و الوطن..

تمت جل التنازلات من طرف واحد هو الجنوب الذي كان أضعاف مساحات الشمال، و من دون ضمانات تُذكر لتلك الوحدة و استمرارها .. لقد تم تحقيق الوحدة دفعة واحدة، و بقفزة واحدة غير آمنة من المخاطر، و دون العمل بالمحاذير .. أحسست مع كل فترة كانت تمر ما يؤكد أن الوحدة مُهددة، و أن مستقبلها قد بات بكف عفريت..

كان يجري التراجع على مختلف الصُعد، و في مقدمتها ما يمكن تسميته بالتراجع لصالح الماضي و قواه التقليدية، و ما رافق ذلك من انقلاب تشريعي مستمر ظل يقوّض ما كان يجب أن يستمر، لقد كان يجري التخلي عن الإيجابيات في نظام الشطرين، و يتم استصدار القوانين بقرارات جمهورية لصالح القوى التقليدية الأكثر تخلفا و رجعية..

لازلتُ أذكر كيف جرى تخلي نظام ما بعد الوحدة عن إيجابيات النظامين في الشمال و الجنوب، و التي كان يفترض أن يؤسس عليها نظام دولة الوحدة، و كيف جرى استصدار القوانين الصدئة و المتخلفة بما تسمى قوانين بقرارات جمهورية حال ما كان برلمان دولة الوحدة في إجازة رسمية..!! و كيف جرى تعديل الدستور لاحقا بعد الحرب لصالح ائتلاف قوى الحرب المؤتلفة، و كيف تم تقويض هامش الحريات الذي تحقق بعد الوحدة، و تقويض القطاع العام و بيعه و خصصته بصفقات بيع لا تخلو من مؤامرة و فساد لصالح أرباب الفساد و القطاع الخاص، كما تم تسريح و تعسف موظفي القطاع العام و المختلط..

أتذكر كيف كان تم خلخلة و استقطاب بعض قادة و كوادر الجنوب و اليسار عموما، و ممارسة الترهيب و الترغيب حيالهم بعد الوحدة، و إذكاء و تسعير الانقسامات بين صفوفهم و صفوف من جاء قبلهم من الجنوب..

لازلت أتذكر أيضا كيف سقط بعض القادة الجنوبيين أمام المغريات، و التخلي عن رفاقهم و الوطن، و كيف هرع بعضهم للتخلي عن المبادئ، و ذهبوا يبحثون ببرجماتية عن الأموال و العقارات و الامتيازات، فيما وجدنا أنفسنا نحن ذوي الرتب الصغيرة نعاني و نكابد ما نتج عنها من نتائج..

بدأت المماطلات و تأخير نيل حقوقنا و استحقاقاتنا ـ نحن الذي جئنا من عدن إلى صنعاء ـ و انتهى الأمر بتقليصها أو تعطيلها أو مصادرتها .. بدينا أمام أنفسنا كمتسولين عند السلطات من أجل هذه الحقوق و المستحقات .. كما أن كثير من وعود تسوية أوضاع أعضاء الحزب و الجبهة الوطنية في الشمال لم تتم، و جرى التخلي عنها على نحو غير متوقع، و بتذاكي و مخاتلة تنم عن عدم التعاطي مع القضايا بمسؤولية..

ليس بعض القادة الشمالين فقط من كان ينهبون حقوقنا، بل أذكر أن بعض القادة الجنوبيين أيضا كانوا يقلِّصونها ليعيدوها وفرا و يحصلون على نسبة منها من رب نعمتهم..

أتذكر أن بعض القادة الجنوبيين الذين كنّا نقصدهم من أجل حقنا في إيجار السكن و غيره لم نعد نتمكن من الوصول إليهم أو اللقاء بهم .. أتذكر أن أحدهم جلسنا منتظرين له ساعات في غرفة حراسته لنقابله و لم نتمكن، فيما كان هو في مقيل مع بعض قادة الشمال يجاملون بعض و يمزحون و يتبادلون ود المقيل، بينما كنا نحن في بوابته نغتلي و ننسحق من القهر .. لازلت أذكر و أنا أقول لمن حولي في غرفة الحراسة: “سيأتي يوما يخرجونهم من هذه البيوت كبّا على الأنوف .. هؤلاء الذين يتنكرون لنا، و يتعالون علينا، و لم نعد نستطيع أن نصل لهم بشكوى أو مظلمة..”

ثم تم الاستقواء بالأغلبية في نتائج الانتخابات البرلمانية، و ممارسة الإقصاء لبعض الكوادر الجنوبية، و اليسارية بشكل عام من الشمال و الجنوب، و التعسف ضدها، و التضييق عليها في حقوقها، بل و وصل الأمر إلى ممارسة الإرهاب، و تصفية حوالي مائة وخمسين كادرا من يسار الجنوب و الشمال أو المحسوبين عليه من قبل جماعات مرتبطة بائتلاف القوى التقليدية لتنتهي الأمور إلى الحرب و الإقصاء، و استباحة الجنوب بطوله و عرضه كغنيمة حرب، ثم صارت اليمن كلها مستباحة من قبل المنتصرين، و تم استبدال شريك الوحدة بخصومهم الجنوبيين الذين قدموا إلى الشمال في مراحل سابقة، و هي مشاركة في حقيقتها محدودة، و تغلب عليها التبعية و الانتقاص..

لقد عانينا و اليسار في الشمال و الجنوب من تبعات حرب 1994 و تداعياتها في السنوات اللاحقة، و تم تسريح الكثير من قادة و كوادر و ضباط جيش الجنوب و المنتمين لليسار عموما، و كدت أكون واحدا منهم، حيث تم احالتي الى الشعبة البرية على طريق التقاعد المبكر أو التسريح، لولا مدير القضاء العسكري الدكتور عبد الله العلفي الذي أستعاد مرتبي و وضعي من الشعبة البرية بعد شهرين، و ذلك على ضمانته و مسؤوليته..

***

بين الأمس و اليوم مفارقات مهولة تصل بنا أحيانا حد الفجيعة .. اليوم لم نعد نتحدث عن ذاك الوطن الذي كنّا ننشده أو نبحث عنه، و قد أنقلب الحال رأسا على عقب .. ما حدث فيه تحوّل مريع بكل المقاييس، بل و يتعدّى أحيانا و كل معقول و مقياس..

بعض الساسة و المدّعون بلغوا بالتفاهة مبلغا لم يتم بلوغها من قبل .. بلغ الأمر ببعضهم في الابتذال أن يكونوا مجرد قفازات و واقيات ذكرية للمغتصب و المحتل .. الكبير فيهم أصغر من حشرة .. و بعضهم مجرد مدعون و هم في الحقيقة أقزام صغار ليس لهم وزن أو بطولة، و يستصعب رؤيتهم حتى بأحدث و أكبر العدسات و المُكبرات..

***

اليوم لم تعد لنا وحدة أو وطن .. تمزق كل شيء شر ممزق .. أكبر جزء في الوطن بات على الخارطة لا يُرى بالعين المجردة .. بدلا من الحديث عن الوحدة اليمنية بتنا نتحدث عن “البعرارة” و “شارع جمال” و “القصر” و “الدريهمي” و “شقرة” و “الشيخ سالم” و غيرها من المسميات الصغيرة المتكاثرة .. بات المشهد أكبر من كارثة، و أكثر من مأساة، و ندم لا حدود له.

خونة صاروا أكبر من الخيانة .. تجار حروب باتوا أبشع من الحروب ذاتها .. أمراء حرب و عملاء باعوا الوطن بالجملة و التجزئة .. أما المواطن فصار الضحية الأولى لكل هذا الذي حدث، و لم يعد له موطن أو بقايا وطن .. الوطن افترسته و نهشته الضباع من كل جانب .. صار الوطن فريسة بين أنياب و مخالب، أو بين محتل و سمسار..

صرنا اليوم نشكو التمزق و التآكل في مجتمع تشظى و تضاءل حتى صار أكبر كتلة فيه أصغر من جرة الفول .. و في المقابل تغوّلت و تضخمت الكراهية المتأججة بالحرب و المال، و على نحو غير مسبوق..

تفجرت مستنقعات العصبيات القروية و المناطقية و العنصرية و الطائفية و غيرها مما هو مسموم و منتن .. تم تلويث كل شيء نقي، بما فيه ما بقي لنا من هواء نتنفسه .. ما تم شحنه وضخه من الكراهية كان مهولا و مريعا و كافيا لابتلاع مجرة..

صارت حدودنا هي حدود المناطق الصغيرة و القبائل و العشائر الأصغر منها .. أمراء الحرب أهانوا كل شيء كبير، و أولهم الوطن، تنفيذا لمخططات و أجندات و أطماع الخارج في اليمن..

و على صعيد أخر صار طيران العدوان و الاحتلال يقصف الجميع لإضعاف الجميع، و أكثر من هذا يقصف من يتعدى حدود “الكنتونات” الذي صنعها، و يقوم برسم الحدود الداخلية على طريق تقسيم الوطن، و تقاسمه كغنيمة حرب لدول “الرباعية” بريطانيا و امريكا و السعودية و الامارات..

أطراف الحرب الداخلية و بتواطؤ دولي وضيع تأمروا على شعبنا و أنهكوه و دمروه .. تعاونوا على نحو ممنهج لإفقاره حد الموت .. تم قطع رواتب موظفيه، و تدمير اقتصاده، و تحويل شعبنا إلى محاطب حرب بين أطراف الصراع..

و أكثر من هذا نحرس حدود المحتل، بل و نشاركه أيضا في غزونا، و احتلال أراضينا، و إقامة قواعده العسكرية في جزرنا و سواحلنا، و تعطيل موانئنا و منافذنا، و التحكم و الوصاية على شعبنا و مستقبله، و تسهيل كل مستصعب أمامه، و تمكينه من استغلال حالة العوز و الفقر و المجاعة في خدمة حربه على شعبنا.

يتبع..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى