العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. أول مقلب شربته في صنعاء

يمنات

أحمد سيف حاشد

في عام 1990 بعد الوحدة انتقلت من عدن إلى صنعاء .. كنت أجد صعوبة في فهم لهجة المتحدثين .. أجهل معنى كثير من الكلمات التي أسمعها لأول مرّة .. لا أفهم كثير مما يريدوا إفهامي إياه .. كنت انجح بصعوبة في التقاط فهم بعض الكلمات أو المفردات، فيما كانت جل الكلمات أو بعضها تشرد منّي بسرعة طلقة، أو تهرب كظبي برّي مذعور..

كنت أحاول فهم ما يقال؛ أو فهم بعض الكلمات التي ألتقطها من المتحدث، ثم تحولني الكلمات التي لا أفطنها إلى كاهن أو متكهن؛ فأحاول إعمال حدسي و تخميناتي في السياق؛ لكشف ما لا أفطنه، و أدرك معنى مقارب لتلك الكلمات النافرة؛ ليتأتّى لي قدرا من الفهم، أو بعضه، أو حتى نتف منه..

كثير من الكلمات كنت أجدها عصية على فهمي مبنى و معنى، فأستعيض بدلا عن ذلك بحدسي، و تقديراتي، و محاولة فهمها عن طريق التخمين أو الإشارة .. كنت أشعر بحرج شديد حينما أبدو بليدا، بطيء الفهم لما يرد من الكلام .. كان يداهمني كثيرا من الخجل حالما أتعثر في الفهم، و أحس بأن الفهم قد بات لدي كهلا طاعنا بالسن، مصابا بـ”الزهايمر” و الرعاش .. عجوز أحدب يتوكأ على عصا و قوائم ترتعش..

كان الشخص الذي استأجرت منه الشقة في صنعاء “باب اليمن” يلقب بـ”الرهمي” عمره أغلب الظن يتعدى السبعين عاما، ضخم الجثة و عريض المنكبين، و تزيد من هذه الضخامة الطبيعية القمصان و المعاطف التي يرتديها واحدا فوق الآخر، و جهاز الجنبية المعقوف بالفضة و حزامها العريض، و في الحواشي تستطيع أن ترى أدوات و تفاصيل كثيرة..

شكله الضخم يبدو أثريا، و كأنه جاء من زمن غابر أو عصر منقرض .. طوله و عرضه مهاب .. وجهه مستطيل و جهم و متغضن، و حواجبه كثة سوداء، و بعض شعيرات بيضاء تطل من بين زحامها بفضول جم، و مثلها شحمة اذنيه المتدلية إلى أسفل .. أما لحيته فمطلقة السراح، و يتخالط في لونها الأبيض و الأحمر و الأصفر..

فكّا فمه جاسران و قويان، و شدقه منتفخ، و عروقه تكتظ بالدماء عندما يتحدث، و تبدو كرشاء بئر، و توجد في وجنتيه خفقتين تشي بأن لا ضروس له، أو أن أكثر ضروسه قد اهتدّت بتقادم الزمن عليها، و مبلغ العمر الضارب في العقود، و ربما زاد الأمر سوء مسحوق “البردقان” الذي يتعاطاه على ما يبدو منذ زمن بعيد .. كنت أشاهده و هو يخرج الوعاء من معطفه، أو من خلف الجنبية العريضة التي يحتزمها، ثم ينكت في يده قدرا منه، و يكرع ما صبّه إلى فمه الواسع و الضخم.

لسانه و هو يتحدث إليك تراها تكتظ في فمه، و ربما لا تسمع منها كلاما، بل ضجيج طاحون، أو مولّد ديزل قديم يتضجر و يختنق .. بركضة كلام لا يمكنك أن تفهمه .. كان الحال بالنسبة لي أكثر من صعب، و فهم ما يقول يحتاج إلى من يساعدني على الفهم و الترجمة..

في الأيام الأولى من إقامتي بالشقة التي استأجرتها منه خرجت من بابها الى فنائها القريب، و أنا مرتديا معوزا و جرما داخليا نصفيا، و لم أكن أعلم أن شيئا من هذا القبيل مستفزا و مستنكرا في صنعاء، و صارخا في خروجه عن العادات التقاليد، حتى خلت نفسي خارجا إلى طريق جهنم أو مهلكة من جحيم، بدا لي الأمر لاحقا أن فعلتي كانت مستفزة على نحو لا يقوى الرائي الكهل على الصبر و المكابدة الصموتة.

حالما شاهدني صرخ من نافذة منزله المطل و المقابل، و كأن ركب رأسه عفريت .. صوته الراعد خرج من شدقيه مزمجرا و مجلجلا .. ضج و رج و بركض بالكلام طولا و عرضا حتى أمتلى المكان بما لا أفهمه، لا أعرف ماذا قال..! و ماذا الذي حدث..! لم أفهم ما أرغى و ما أزبد .. لم أفهم حتّى مفردة واحدة .. كل ما فهمته أن هناك غضب جم و شر مستطير حدث..

أما سبب ما حدث فلم أفهمه إلا في اليوم التالي عندما زارت ابنته أسرتي، و حكت لهم سبب الضجيج .. لقد كان مستاء جدا بسبب تصرفي، و هو في الحقيقة تصرّف غير مقصود، و لكنه بدا له تصرفا مستهترا و جريئا منّي في قلب صنعاء المثقلة بالعيب، و الحياء المكوم الذي يلبس القمصان و المعاطف فوق بعضها كصاحبه .. كان هذا أول شيء تعلمته في صنعاء .. أول مقلب شربته و وجدته منقوعا بعيب يشبه السم..

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى