ارشيف الذاكرة .. عندما يجتمع فيك الجوع والخجل..!
يمنات
أحمد سيف حاشد
جعتُ كثيرا .. جالدت الفاقة و الحاجة و العوَز .. عانيتُ من الهزال و الضعف و الضنك المُنهك للجسد و الروح .. عشت سنوات طوال سوء التغذية، و”فقر الدم”، و مشكلات في الغدة الدرقية، و تورّمات مرضية في القدمين، فضلا عن الأميبيا و الجارديا، و نوبات الحمى التي كانت تداهمني بين فترة و أخرى..
عندما تعتريني الحمى كان جسدي يستلذ و يستمتع بالبقاء تحت أشعة الشمس فترة أطول، و أتمنى أن تشتد حرارتها، ثم ما أن أفرغ منها، اكتشف أن الحمى تزداد و تشتد .. تستقوي و تستأسد على جسدي المنهك و الهزيل .. أما ما يطلقون عليها في قريتي “شمس الميات” التي تودعنا بحمرتها و هي تذوي نحو الغروب فكانت تذكرني بسوء صحتي المتدهورة، و أخواتي الراحلات نور و سامية..
و في مرحلة إعدادية القسم الداخلي بـ”طور الباحة” كانت وجبات القسم المقررة لا تكفيني أو تشبع جوعي إلا في حده الأدنى، لأستمر في حياة ضنكة و منهكة، نقضي جلّها في صراع مرير، و رغبة مستميتة من أجل استمرار البقاء بمعاناة و مشقة بالغة..
كانت أمي تواسيني ببعض النقود التي تجمعها لي بصعوبة و محال، لتخفف عن كاهلي معاناة الجوع، و تحملني على البقاء و الحياة من أجلي و أجلها، و مستقبل كان لا يزال غامضا و مجهولا .. و في ثانوية القسم الداخلي في مدرسة “البروليتاريا” كان طلبة القسم الداخلي كثيرون، و كانت طوابير العشاء و الغداء طويلة، و كان أحيانا ينفذ العشاء قبل أن أصل إليه، و أحيانا أدرك القليل منه، و قد أوشك على الانتهاء..
كنت مسكونا بالخجل و الحياء الذي يمنعاني من المزاحمة، و تخطي من هم في الطابور قبلي، فيما كثيرون من الذين بعدي في الطابور يتخطونني بجرأة و صفاقة لأجد نفسي شيئا فشيئا آخر الطابور دون عشاء .. كنت أصل إلى قرب نافذة الاستحقاق، فأتفاجأ إن العشاء قد نفذ، و ربما عند حسن الحظ أظفر بالقليل من القليل..
كنت أحيانا و بسبب خجلي أنام دون عشاء، أو أذهب أنا و صديقي محمد عبد الملك إلى أشجار “الديمن” التي تسيج جانبا من محيط المدرسة، لنقطف بعض ثمارها التي لم تنضج بعد، أو لازالت بعيدة عن النضوج .. كان الجوع أحيانا يضيِّق علينا، و كنا نتجه نحوها مضطرين، و لم نسمح لها بسبب جوعنا أن تبلغ ثمارها النضوج .. كان جوعنا أحد من المدية، و أسبق في القطاف، فيما هي تنشب بحّتها الخانقة، و أظافرها المحتجة في حناجرنا المحاصرة بالجوع .. لقد فقدت عون أمي، بسبب البعد و طول الغياب..
أحيانا كنت أذهب مع آخرين متسللا تحت جناح الليل إلى المزرعة البعيدة لأحصل على بعض حفن السمسم و نعرّج أحيانا على أشجار الليمون، لنقطف بعض حباتها، لنأكلها بقشرها، أو نستخدمها على وجباتنا لتحسينها و تحسين مذاق الفاصوليا المطبوخة على نحو رديء و سيء..
***
حللتُ ضيفا في إحدى العطل السنوية عند قريب لنا في عدن .. أظن أن نزولي إلى عدن يومها كان لعلاج مشكلة في الغدة الدرقية .. طبيب ألماني في مستشفى النصر شخّص حالتي، و لزمت فراش المستشفى فترة لم أعد أتذكر طولها، و لكنني خرجتُ من المستشفى و قد تعافيت .. واصلت الإقامة لبعض الوقت عند قريبنا عبد الكريم هزاع في حي القطيع بـ”كريتر”.
في الغالب كانت وجبة الغداء الرئيسة لدى الأسرة التي أقمت لديها مكونة من الرز و سمك “الزينوب” و “الصانونة” و “العُشّار” .. وجبة شهية جدا بمقياسي .. من يومها إلى اليوم و أنا أحب هذه الوجبة، و اشتهيها .. المشكلة التي كنت أعاني منها هي خجلي و الحياء الذي يحتلني و يتملكني إلى حد لا يصدق .. كنت لا آكل غير نصف حاجتي و أحيانا أقل من النصف بكثير..
في عدن معتادين، أو على الأقل مع الأسرة التي أقمت عندها، أن لا يتم تقديم الرز و السمك دفعة واحدة، حتى لا يرمون بفائض الوجبة الزائد عن الحاجة إلى كيس القمامة .. هي عادة حسنة و لكني يومها لم أفطن لها، و لم أكن أدرك سببها و الحكمة منها .. كان كل ما تم اكمال ما في الصحن أو قبل انتهاء ما تم غرفه أولا، أغادر المائدة مباشرة، قبل أن يتم غرف كمية إضافية من دست الرز الموجود جوارنا إلى الصحن التي نأكل منه .. كنت أغادر المائدة بمجرد الانتهاء من التهام ما تم غرفه في المرة الأولى أو حتى قبل الانتهاء منها، فيما كانوا يعاودون الغرف مرات عديدة تصل إلى الثلاث و الأربع غرفات .. فيما كان حرجي و خجلي هما من يحملاني على المغادرة و عدم الانتظار أو الالتفات إلى غَرفة ثانية.
بسبب خجلي و حيائي غير الطبيعيين كنت أغادر المائدة بمجرد أن يتم استغراق كمية الرز الأولى .. أما السمك فلا آكل منه إلا قليلا جدا، محكوما أيضا بخجلي و حيائي الشديد .. كنت ما استهلكه من السمك في كل لقمة لا يزيد عن حجم حبة الذرة أو نصف عجرة التمر إن بالغت في جُرأتي رغم وفرته، فضلا إن بعض لقيماتي كانت لا تصطحب سمكا بهذا الحجم أو ذاك، فيما كانت شهيتي الحقيقية إن أطلقت عقالها و عنانها لا يكفيها وجبة خمستهم من الرز و السمك و “العشّار”، أو هكذا أخال و أشعر .. ربما تلك الشهية المكبوتة و المقموعة بالحياء جعلتني أحب هذه الوجبة إلى اليوم و اشتهيها بلهفة أشد..
لاحظ عبد الكريم هزاع و هو رب الأسرة طغيان الحياء و الخجل في يدي و وجهي و هيئتي، و بدلا من الحاحه أن أرمي حيائي و خجلي بعيدا عن مأكلي، عالج الأمر بطريقة “داوها بالتي هي كانت هي الداء” .. كانت طريقته بديعة و على غير ما هو متوقع أو معهود بين الناس .. فبدلا من أن يلح عليّ بأكل قطع السمك قال: “أحمد لا يعجبه السمك” .. تظاهرت بموافقة لما قاله و بديت تعففي تماما عن أكل السمك .. و لم آكل سمكا في الأيام التاليات بمبرر أنني لا آكل السمك .. صرت نباتيا في سفرة و حضرة السمك..
و عندما طبخوا “زربيان” لحم و هي وجبة لذيذة، و قبل أن أمد يدي لتناول فرتيت منه، بادر بقوله: (أحمد لا يحب لحم “الزربيان”) .. فقلت بحياء و خجل: (أيوه .. أنا ما يعجبناش لحم “الزربيان”) .. تعمّدتُ تحت تأثير قوله إلى حرمان نفسي من “الزربيان” أيضا، رغم رائحته التي كانت تشويني حيّا، و تشرِّح شهيتي، و تصلبني في دواخلي و أعماقي بصمت و خفية..
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تكرر بعدها مع الدجاج؛ حيث قال قبل أن أمد يدي إليها: “أحمد ما يأكلش لحم الدجاج” .. فكابرت و أخبرتهم بالموافقة، و شهدت زورا على نفسي أنه لا يعجبني لحم الدجاج..
و في اليوم الذي يليه قال و قبل أن أمد يدي إلى الغداء: أحمد لا يعجبه الرز و الصانونة و العشار .. ساعتها شعرت أنه حشرني في زاوية أنا و حيائي و خجلي و دفعني نحو خيار مستحيل لا استطيع أن أجاريه .. ضحك خمستهم بقهقهة و كأنهم كانوا على موعد معها إثر ما قال، و شعرت أن ما يفعله كان بدافع دفعي إلى مغادرة خجلي و حيائي، و أن احتفظ بما هو مقدورا عليه ومعقول..
رديت عليه هذه المرة بحسم:
– يعجبني كل شيء..
***
يتبع
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.