العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. المدعمم

يمنات

أحمد سيف حاشد

عندما كانوا يخاتلوا ويعيدوا طباخة ما فسد، وكان اتباعهم يروجون الافتراءات والإشاعات والأكاذيب، كنتُ غارقا في شأني حتّى رأسي، منهمكا جدا فيما أنا فيه، أسير على نحو حثيث نحو ما حددته لنفسي من هدف، مدفوعا بإصرار نادر وعجيب.. لا أحملق في التيه، ولا ألتفت إلى الوراء الذي يشدّوني إليه، ولا أَعلَق فيما يريدون أن أَعلَق به، ولا أكترث بما هم فيه، إلا في حدود ما هو ضروري ومؤثر على موقفي، وما يعيق سيري نحو هدفي المعلن، وغير القابل للتنازل أو المساومة..

كنت أسير بانهماك، لا يخلوا من جلد عنيد، وصبر لا ينفذ، نحو الهدف الذي أرنو إليه.. ابذل قصار جهدي وكل قواي لبلوغه.. أمضي إليه برغبة جامحة، وإرادة قوية ومتحدّية، ربما عبّر عنها في غيابي، وفي غمرة ذلك الانهماك، الأخ محمد عبد الرحمن من منطقة “المرابحة” عندما قال: (والله ما شتجي إلا لذاك “المدعمم”).

كنت المقصود بصفة “المدعمم”.. و”المدعمم” هو ذلك الذي يتملكه الإصرار في المضي إلى الأمام نحو الهدف، وعدم العلوق في المكان، وعدم الإنشداد إلى الخلف، وإمعان النظر نحو هدفه لا سواه..

الحقيقة لم أكن أعرف في وقتها أنني “مدعمم”، ولكن عندما استعيد تفاصيل اللحظة أو المرحلة، أكتشف أنني كنت بالفعل “مدعمم” لا أناور ولا أخاتل، ولا أضيّع وقتا، بل أحشد كل طاقاتي وفريقي في المضي نحو الهدف.. كنت بهذه الدعممة ربما استثنائيا بين المتنافسين الذي أشد ما راهنوا على أحزابهم.. كان حالي أشبه بمن أحرق كل مراكب العودة، ولم يبق معه خيارا غير التقدم إلى الأمام، والرغبة العارمة في الاقتحام والوصول إلى الهدف..

عيناي معلّقتان بالهدف كالتعلُّق بالحبيب، أهيم فيه كالمُحب، الذي لا ينظر دونه، ولا يرى في الدنيا سواه.. يجب أن لا أغفل عنه هنيئة، أو أستهين فيه بقدر شعره..

من المهم تتبع الهدف وتصويب الاتجاه على نحو مستمر، دون أن أكِل أو أمِل.. يجب أن أضبط زاوية حركتي على حركته، ولا أترك “مشّف التصويب” يحيد عنه أو يميل.. لا بد أن أصيبه في مكين.. ليس لي من الجعاب غير واحدة، وليس في جعبتي غير سهم واحد.. لابد أن أصيبه وأدركه وأنشب فيه كسهم رام، أو رمح فارس..

يقول أحد الفلاسفة الصينيين: “من لا يعرف الهدف لن يجد الطريق” وكنت قد عرفت الهدف واخترت الطريق، وقمت بما يجب من إعداد وجهد وتراكم.. كان هدفي يكمن في المستقبل، أما الماضي والحاضر كما قال مخترع الألة الحاسبة “بليز باسكال” إنهما مجرد وسائل..

احتشدتُ بتصميم لا يتراخى ولا يُرد.. وعندما وصلت إلى مشارف الهدف تسلّحت بمقولة “ديل كارنيجي”: “أنا مصمم على بلوغ الهدف” أعملت مقولة تشبه النصيحة أو الوصية لأحد السياسيين الإنجليز: “الثبات علي الهدف هو سر النجاح” وأخرى لأحد الروائيين الفرنسين والذي حث فيها ليس على الكُثرة والقوة، ولكن على دقة اصابة الهدف، واستعنت بمقولة لعالم إنجليزي جاء فيها: “الصبر والإصرار على الهدف يساويان أكثر من ضعف وزن البراعة.” وقد كانت الخلاصة معرفة الهدف، والطريق إليه، والتصميم، والثبات عليه، والإصرار مع الصبر لبلوغه، وإصابة الهدف بمكين واحتراف.

***

كان فريقي منهمك مثلي.. كنّا في أوج الحملة الانتخابية نغادر الصباح ولا نعود إلا في وقت متأخر من الليل.. لازلت أتذكّر ونحنا في طريق عودتنا بعد زيارة لعدد من مناطق شرق الدائرة وكانت قد بلغت الساعة قرابة الثالثة بعد منتصف الليل، فيما أنا أقترح للفريق أن نتجه إلى “الجوازعة” وننام فيها، ونبكر نزور منطقة “السُبد” في “الأعبوس” الواقعتين غرب الدائرة..

على الفور وافق ردمان النماري على اقتراحي، وهو المعهود بالنشاط المثابر، وحبس البعض أنفاسه، فيما أستفز الاقتراح عبده فريد الذي أنفجر في وجهي بحسم لا يخلوا من توبيخ: “بطّل جنان يا قاضي.. إذا ما باقي معك عقل، عاد نحن باقي معانا عقول” والحقيقة أنه كان محقا في رفضه؛ لأن المنطقتين ببساطة كانت بعيدة، وكان هذا معناه أن لا ننام ما بقي من الليل وهو قليل، والإرهاق على شدّته يفتك بنا..

لقد كظم بقية الفريق غيضه، ربما ليتولى سعادة السفير عبده فريد الرد عنهم، حيث وهو يُحسن الرد، ولا يصبر على الغيض، ودبلوماسيته لا تحتمل طلب كهذا، بعد نهار طويل وثلثين من الليل وكلهما مشقة وإرهاق شديد..

إن لم تخنِّ الذاكرة كانوا ضمن رفقتي تلك الليلة نصر عبدالجليل، وعبدالباقي الناصري، ومحمد علوان ثابت، وراجح علي صالح، ومحمد فريد سعيد..

كنا نُنهك كثيرا في العمل الدؤوب، والذي يستمر بعض الأحيان، ثلاثة أرباع النهار وثلثي الليل.. ونعاني من وعورة الطريق المكسّرة، وغير الصالحة، وأحيانا الخطرة أيضا.. ذات مرة عدنا من “الأغبرية” عصرا عبر طريق نقيل “العريضة” بسيارة أخي عبد الكريم “الشاص”، وهي طريق وعرة و خطرة، تمر عبر قرية “الكاذي” وصولا إلى “نجد الخضر” غرب الرماء، ولم انتبه إلا بعد وصولنا النجد، كانوا ينزلوا من السيارة لوضع الاحجار خلف الاطارات لتتمكن من السير والصعود، فيما كنت أنا بسبب الإرهاق الشديد في السيارة أغط في نوم عميق..

وفي واقعة أخرى أكثر إثارة وعقب زيارة لمناطق “الأعبوس” عدنا من طريق “الراهد” المغنية” وكنّا على موعد حضور زواج ابن عمّتي نبيل علي بشر في منطقة “الحنكة” وحالما وصلنا إلى “رأس الحنكة” بعد الساعة الثانية تقريبا بعد منتصف الليل، لم نسمع شيئا ولم نر عرسا، غير أضواء باهتة في بيت العريس.. المكان تلفه سكينة وهدوء تام.. ظننا إننا تأخرنا على الوقت، أو أن أمر جلل قد حدث لا نعرف ماهيته!! أصرينا على معرفة ما حدث!! ووصلنا إلى بيت العريس..

طرق عبده فريد باب بيت العريس؛ فخرج لنا العريس نبيل، مؤتزر ويرتدي في نصفه الأعلى “جرم نص” ووجهه لا يخلوا من خجل واستغراب على مجيئا في وقت متأخر من ذلك الليل!! سألناه عن “العُرس” وعمّا حدث مع اعتذرنا أننا ربما تأخرنا قليلا عن موعدنا المفترض.

ففاجأنا العريس بإخبارنا أن العرس قد تم في النهار.. وعرفنا منه أنهم صاروا يقيمون أعراسهم في النهار.. تلافتنا إلى وجوه بعض مع توجيه اعتذار آخر بسبب إزعاجنا له.. وودعناه بابتساماتنا العريضة، وتمنينا له ليلة سعيدة، وقد حبستُ أشد ما حبست قهقهة كادت تبتلعني، وتشق سكون الليل الذي يغشي المنطقة بسواده الكثيف، باستثناء بعض الأضواء الشاحبة والبعيدة.. عدنا إلى السيارة، فيما بقية الفريق الذي كان ينتظرنا هناك شغوف بمعرفة الخبر، وعمّا حدث وما صار!!..

أجابهم عبده فريد بعد أن تحركت السيارة ورفعنا زجاجاتها وطلع ضجيجها بقوله: (الرجّال قد معه “جاهل”.. قده مبنن .. العرس قد وقع بالنهار..) فانطلقت ضحكاتنا الحبيسة لتختلط مع ضجيج السيارة التي كانت تقلّنا وتندفع بسرعة..

وفي واقعة رابعة من وقائع “الدعممه” وقع فيها هذه المرة الوفي والنشط ردمان النماري، حيث كان في مهمة إلصاق صوري في وادي الرام بالأعبوس، ثم ظل طريقه من الوادي الذي كان فيه إلى وادي آخر، هو وادي “الزبيره” في قدس، ومكث قرابة نصف النهار يلصق صوري الانتخابية في دائرة أخرى تابعة لمرشحين آخرين.. إنها الدعممة بكل ما فيها من سلب وإيجاب وانهماك ومقالب..

وفي وادي “السبد أعبوس” كانت صوري تتعرض للتمزيق على بعض الجدران والأمكنة، ثم نعاود دون يأس نشر بديلا عنها، إلا أن ما آلمني ما كان يفعله بعض المنتمين أو الموالين لحزب ينافسني مرشّحه ـ كما بلغني ـ في وادي “السبد ـ أعبوس”، عندما كانوا يشوهوا عيوني بخرفها من الصورة، ويتركون بقية الصورة شاخصة ومشوهة بلا عيون.. ومع ذلك ورغم أنهم قالوا في المثل “مخرّب غلب ألف عمّار” إلا أن فريقنا “المدعمم” وأولنا ردمان النماري استطاع أن يغلب ألف مخرّب وهدّام، وقد صارت الصور أضعاف ما كانت عليه..

***

يتبع

زر الذهاب إلى الأعلى