ارشيف الذاكرة .. اليمين الدستورية
يمنات
أحمد سيف حاشد
أنا النائب الذي جاء خجولا، ويُحرج من صوته المكتظ، في بيت الشعب الذي أضاع الشعب وأعدم صوته للمرة المليون.. الشعب المنكوب بحكامه، ونوابه الذين أجادوا دور التمثيل حتى فقد التمييز بين دوائر العرض وخطوط الطول، واختلط فيه حابله بنابله، وألتبس عليه الكوع من البوع.. شعب مقلوب الرأس على الأعقاب..
***
أمام الكاميرا وجد نفسه في أول وهله، يتعذّب ويتألم من فاه غير مفوَّه.. يتحدث فيضطرب كالموج على صخور خليج متكسّر، يقتات الملح.. يهتز كشجره في وجه إعصار قادم من أعلى البحر الهائج موجه.. يخجل من صوته المكتظ بكثرة عيبه.. يتفصد عرقا وهو يسمع صوته من قنوات التلفاز.. كلماته الموجوعة غصّات تذبح حنجرته.. يتألم من عين حولاء ترمق عينيه، فتسري في أوصاله كسم زعاف.. تصعد من أعماقه تنهيدة تتجشأ حسرات أكبر منه.. زفراته تتلظى ناراً وحرائق.. يسمع صوته المتهدج بحيله المهدود.. تتقطع أنفاسه كالطير المذبوح في ليل زفاف الوغد..
**
أنفاسه تسابق صوته.. يعاجل نفسه.. يقع في مصيدة لئام القوم أمام شاشات الرصد، وعدسات نقل البث إلى المليون.. يحبس في جوفه بركان يغلي ويثور.. يبحث عن منفس يخرج منه أثقاله، فلا يجد إلا حنجرة تمزقها حشود الألم اللاسع، وطيشان النار، وفاهه لا يتسع لخروج حشود الكلمات، وأنين الشعب الموجوع بحكامه..
***
يشهد في إلقاء خطابه سباق الـمارثون بين أنفاسه ونبضات القلب.. تختلج وتختلط الأنفاس مع النبضات مع آهات وأوجاع القلب.. تبدو على وقع السامع كحوافر خيل تتحفز للعدو.. تعدو وتركض كالريح.. تتداخل حد المزج.. تلتبس وقع حوافرها على السامع.. نفتقد حدود التمييز.. تكتظ الكلمات المبحرة في شريانه.. تسد زحمتها الشريان التاجي.. تغلق بابه.. تخنق قلبه.. لا باب ولا منفس مفتوح يروي قلبه.. فيصاب بالذبحة الصدرية في ذروة قوله المكدود، فيُعطب قلبه، وتكون السكتة موحشة كالموت..
***
كلماته تزدحم وتكتظ ببعض، وهي تخرج من منفس فمه المليان، بضجيج مكظوم ومتقطع طرقه.. تعكم شدقيه.. تعقل لسانه المتورم بزحام كلام يتداخل ببعضه، لا يُعرف أوله من آخره، ومن أين البدء!! باتت كلماته أكبر حجما منه.. يبدو وكأن في فاه قنبلة وشظايا، أو معمل نووي يتعرض لخطر التفجير.. تتزاحم كلماته.. مضغوطة تتدفق من فاهه.. ما بات يحبسه بداخله من وجع الكلمات أكبر من حجم الكون.
***
يخجل من رأسه حتى أخمس قدميه، بل يتمنّى أن تنشق الأرض وتبلعه، أو تخسف فيه إلى سابع أرض من أن يرى كفوفا تشبه تماسيح الأوحال القذرة.. كفوف كالموت تتناوب بالزخف على المصحف، بيمين أغلظ من قسم الرب، دون أن يرف لهم جفنا، أو تهتز لهم قصبه..
***
قسموا يمينا دستورية بالحفاظ على الجمهورية.. هذا يريد التوريث.. وذاك يريد خلافة مبغى.. والثالث يريد ولاية شفناها بأم العين، ضباعا وفسادا ولصوصية.. والرابع سروال لضاحي خلفان الناكر لعروبته، والخامس واق ذكري لسفير أصغر من حبة فول.. ما أصغركم وما اتفهكم!! الكل يخون ويحترم الدستور.. صار الدستور مكانا لقضاء الحاجة.. الكل يتغوط فيه ليل نهار.. الكل يرعي مصالح شعبه.. الكل يذبحه وينهبه ويخلس جلده.. الكل جحيم وخراب ودمار..
***
يمين دستورية للحفاظ على الوحدة وعلى الأرض، وفي الوقع نهشوها بأنياب ضباع.. أكلوها من الوسط ومن الأطراف والأرداف.. أكلوها كما تأكلنا السوق السوداء.. ما ابشعها من سوق في حرب تأكل بعض.. أكلونا أمراء وتجار الحرب.. أكلونا أرباب مراكز رأس المال.. ما أبشعهم في حرب تشعلها الأطماع الجشعة.. ضباعنا تأكل بعض.. أنياب تنهش بعض.. تركوا الأرض وذهبوا يأكلوا بعض.. تركوا الأرض البكر مباحة لأطماع عقال بدوي يبتز ويتغطرس.. يتوسع في الارض، ويتورم بمال النفط ولا يشبع..
***
ما أبخلكم في وجه الفقراء.. ما أشح أيديكم وملزكم وأشد طمعكم.. استوليتم على رواتبهم، وطعام “لا يُسمن ولا يُغني من جوع”، وأثقلتم في جبايتهم واستنزاف الروح، وتكايدتم بالباطل لتضيعوا الحق من بين الأيدي، يا تجار الحرب وتجار الدم..
***
تخليتم عن الفقراء، وألقيتم بأثقال الهم على كواهلهم، والقيتم بمصائرهم في التيه وفي المجهول.. ونشرتم في كل مكان أسواقا سوداء تتكاثر كالفطر تحت الشمس وتحت الغيم، وحميتموها من الريح دون حياء..
***
تُخمتم وتورمتم بمال الجوعى.. ومع المحتل بسطتم أيدكم كرما.. ووهبتم ذهب سواحلها، وأهديتهم جواهرها دون مقابل.. ما أبخسكم يا ديدان الأرض.. أنا المتوعك بوطن محتل، معطوب الأعضاء ساسة ورئاسة.. نواب وحكومات ومجالس شورى.. صار الوطن موبوء بالموت.. صار وطنا لحشرات وديدان الأرض من كل مكان..
***
يتبع