ارشيف الذاكرة .. ثور بيت معياد وثور عدن

يمنات

أحمد سيف حاشد

قبل أن أكون عضوا في مجلس النواب، كان لديّ في حدود ما، تصورٍ زاهٍ لهذا المجلس الذي لم يأتِ بعد، ومهابته ومكانته الرفيعة، ولما صرت عضوا فيه، وقطعت مشوار الألف ميل لأصل إليه، وجدته في الواقع مجرد ديكورا أو ذيلا لحصان، وأكثر منه زائفا وكذوبا، لا رجاء منه في التغيير حتّى في إطار ما هو متاح فيما بقي من دستور وقانون..

في مطلع العام 2003 كان حُلمي كبيرا حتى مع افتراضات وجود بعض الاحتمالات السيئة، إلا أن الواقع كان أكثر سوءٍ ورداءة، حتى مع تلك الاحتمالات السيئة التي كنتُ أفترضها..

وفي مستهل العام 2021 وجدنا انفسنا نعيش عهدا مليئا بالعاهات، ومكتظا بالفساد، واستسهال الخيانة على نحو غير مسبوق .. وجدنا الماضي على سوئه مقبولا وإن كان بمرارة، لاسيما حالما نقارنه اليوم مع سلطات الغلبة والأمر الواقع هنا أو هناك، دون أن نعني بهذا العودة إلى ذلك العهد الذي أنتج أو ساهم في انتاج هذا العهد الأكثر وزرا ووبالا..

اليوم سلطات الأمر الواقع أهدرن بفضاضة ما بقي من دولة ودستور وقانون وعدالة ومواطنة .. وما كان سيؤول الأمر إلى ما آل إليه، لو كان هذا المجلس أحترم نفسه من أول يوم انعقاده، ثم ما تلاهُ على نحو يحكي محنة الشعب في مجلسة، وأكثر منه الخلل التكويني الذي يعتريه..

أما ما يجري اليوم فزاد فيه العجب العجاب، وأكثر منه الخزي والعار والمهزلة علينا ليس كمجلس نواب، بل حتّى كبشر، ولي فيه تناولة أخرى في موضع آخر. 

مجلس النواب كما قلتها يوما، هو أحد منتجات الفساد، ظل يشرّع الفساد لمستفيديه على مختلف توجهاتهم، وآخرها كان ما بقي منه في صنعاء، وعلى نحو ينطبق عليه مثل:“من تزوج أمّنا صار عمّنا” ولم يعد يجيد حتى دور ما كان يجيده في الماضي كديكور، أو ما أسماه أحد المتهكمين آنذاك “أسد في مفرشة”.

كنت أظن أن هذا المجلس قادرا أن يحقق ويستوعب في حدوده الدنيا بعض آمال الشعب المعقودة عليه، أو حتّى يحقق بعض ما هو ممكن ومتاح؛ أو يخفف عن هذا الشعب قليلاً مما يثقل كاهله من أعباء الحياة، وركام التخلف الذي يقطع الأنفاس، فوجدتُ إن الركب يسير على غير هذا الاتجاه، الذي كنتُ يوما أظنه وآمله.

ربما توقعتُ على المستوى الشخصي أنني سأطلق من خلال هذا المجلس طاقاتي المختزنة في مواجهة الفساد، وخدمة الناس، وحماية حقوقهم المهدرة، واستقبال ما هو أفضل في الانتظار؛ ولكن لم أجد غير السراب والوهم الكبير.. وجدته يريدني أن أكون فيه حسيرا، وقد تحوّل إلى حمل يثقل كاهلي، وأغلال غليظة تغلّني، وقيد لكل خلّاق وقدرة، فذهبتُ أناضل خارجه..

بدا الحال على غير الحال.. بدا الأمر على غير ما هو في خيالي ومخيالي.. تبددت الصورة المخملية.. تلاشت الصورة التي كانت تبرق في ذهني المتقد، وقد وجدته من أول وهلة مختلا ومُعتلا ومعكوسا عمّا كان مرسوما في الذهن، وعلى نحو يتخطى الدهشة إلى الإرباك، أو عدم القدرة على الاستيعاب، بل وفي أحيان أخرى يصل فيها حد الفجيعة..

في 2003 أطلّيت على المجلس بعقل منفتح، وهيئة تليق،  فيما أطل هو علينا بثور هائج ومحتج، ومظلمة له قبل صاحبه، ومظلمة أخرى لـ “بيت معياد” وانتخابات هزلية لهيئة رئاسته، وأكثر هزلا في انتخابات لجنة الحريات وحقوق الإنسان..

ما أن أوشكت في الوصول إلى لمجلس، وجدتُ الذعر على الوجوه، ومعه صخب وصراخ واستنفار .. موقف مربك، وثور مُستنفر وهائج يقتحم حرم المجلس، ويصول ويجول في ساحته وباحته بنفور وجنون!!

تبدأ القصة بأن أحضر أهالي “بيت معياد” ثور على سيارة “هايلوكس” إلى أمام بوابة مجلس النواب لذبحه أمام بوابة المجلس تظلما واحتجاجا بصدد خلاف مع أمين العاصمة، وعند محاولة إنزال الثور من السيارة، أفلت الثور من ربقة صاحبه وتحرر من قبضته..  ثار وهاج، وأقتحم بوابة المجلس وحراسته، وبدا أكثر احتجاجا من صاحبه..

مفارقة عجيبة أن تعتقد أنك قاصدا البرلمان في مطلع عهدك البرلماني، فتجد نفسك وكأنك في حلبة مصارعة ثيران.. وكانت حصيلة المعركة خمسة جرحى، من حراس وموظفي المجلس، وصبي، وسيدة روسية تم اسعافها إلى المستشفى، وانتهت المعركة بمقتل “الثور المحتج” برصاص حراس البرلمان، وتم تعطيل جلسة البرلمان قرابة النصف ساعة.

قيل أن سبب إحضار الثور لنحره أمام بوابة المجلس هو تظلم “بيت معياد”، بشأن أرض أخذت منهم بالقوة، وأرادوا نحر الثور أمام بوابة المجلس، احتجاجاً على هذا الاغتصاب، فأحتج الثور قبل احتجاج أصحابه.. وقد أسمينا الثور يومها بـ ”ثور بيت معياد” و “بيت معياد” هي أحد أحياء مديرية السبعين في العاصمة صنعاء، يبلغ عدد سكانه آنذاك أكثر من 17 ألف نسمة.

***

هكذا أستقبلنا البرلمان في مستهل عهده الجديد، بواقعة تحكي مأساة هذا الوطن المأسور بالقبيلة، والعدالة المفقودة، ومأساة القانون المذبوح.. الثور المحتج على السكين، والمواطن الباحث عن عدالة بثور أمام البرلمان الجديد طلبا واستغاثة لعدالة مفقودة، فعظمت مصيبته، وقانون مستباح بأعراف القبيلة ونفوذها..

لقد كان استقبال لعهد يشعرك بالعجب حد الصدمة، حينما تجد ما كان مخمليا في ذهنك قد باغتك بمشهد غريب عن المخيّلة، وقد تحولت ساحة البرلمان إلى حلبة تشبه مصارعة الثيران، واستنفار في الحراسات، وصخب الحضور، واطلاق الرصاص.. وأكثر منه إنه يشعرك بعد أن تسترد وعيك بحجم المأساة التي يعيشها الوطن والمواطن، وربما لا يخلوا من نذير شؤم لمستقبل وجدناه أكثر مأساة وهرولة نحو ماض أكثر بلادة وقتامة..

والأسوأ بين الأمس واليوم ما لا يُقارن من كل الوجوه.. ما كان في عام 2003 تبدّل فيه كل شيء تقريبا في العام 2021، وما يحدث اليوم صار أكثر سخرية من الأمس بأضعاف مما كان عليه.. سخرية اليوم أن تقرأ بلاغ وتقرير أمني مفصل وموثق نشرته “الوطن العدنية” وفيه تفاصيل حادثة ثور هائج أدى إلى مقتل أربعة مواطنين وإصابة خامس في أول يوم من العام 2021

أول يوم من العام تستنفر عدن أمنها وتقوم بضرب طوق أمني بعد بلاغ عن هيجان ثور الساعة الثالثة قبل الفجر من ملحمة “السعيدة” وأستمرت الملاحقة من جولة “القاهرة” إلى أمام سوق عدن الدولي، والتي أنتهت بمقتل الثور الذي رفض تسليم نفسه لقوى الامن، وقد بلغ ضحايا الأمن ثلاثة قتلى وإصابة رابع بالاضافة إلى إصابة مكيف جنرال داخل أحد المحلات، فيما الثور المحتج على السكين لم يقتل غير عامل الملحمة فقط.

 أصبح اليمن اليوم ممزقا بلا دولة ولا استقلال ولا سيادة ولا دستور ولا قانون ولا عدالة.. الدم مسترخص والإنسان لا قيمة له عند القتلة والسلطات، والمواطن بات بلا مواطنة، وثروات الوطن تُنهب من كل حدب وصوب، والأرض تُقضم من كل اتجاه، والبحر مباح والسماء مستباحة طولا وعرضا..

اليوم أصبح في اليمن ثلاث رؤساء أنداد بغير شرعية غير شرعية الغلبة والقوة، والبرلمان صار اثنين، والأعضاء شتات كشظايا قنبلة، وسلطات أمر واقع هنا وهناك تفرض واقعها بالحديد والنار، وأكثر من كل هذا احتلال يصول ويجول، ويطلق يديه ويعربد، ويعيث فسادا واحتلالا، والموت الباذخ لا يترك مكانا إلا وحل فيه الموت والخراب واليباب..

***

يتبع

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.