فضاء حر

منظمات انتجت منفصلين عن مجتمعهم

يمنات

ماجد زايد

وباء الحرب أنتج لنا طبقة جديدة من البشر.

طبقة متعالية ومنفصلة وبعيدة كليًا عن الناس ومحيطها، طبقة فاشلة في علاقاتها مع المجتمع والناس، وناجحة جدًا في التباهي أمام الأخرين.

هي طبقة من الشباب الذين يرتدون الوانًا غريبة من الملابس الضيقة بينما يتجولون في الشوارع والطرقات وضجيجهم الغربي بسياراتهم وسماعاتهم يملئ الكون من حولهم.

يرتادون المقاهي والإستراحات والأماكن العامة بوجوههم المتجهمة ومناخيرهم المنفوخة ليتحدثون بفوقية على العمال والمباشرين والسواقين وأصحاب المحلات، ومن يصادفهم يظنون أنفسهم عيال الحظ السعيد وأبناء السلالة الذكية في هذا العالم.

يتجمعون بجوار الصرافين ويتزاحمون عند نوافذ البنوك والمكينات الألية، هكذا يعيشون حياتهم المملة كل يوم، وحين تقابلهم في مكان ما يتحدثون عن أنفسهم دون توقف، عن تجاربهم وخبراتهم وبطولاتهم ورواتبهم وسياراتهم وعشيقاتهم ومدارس أبناءهم.

يتحدثون وجوالاتهم ترن بنغمات إنجليزية غريبة، قليلًا قليلًا حتى يضعونها من أيديهم ليرفعون رؤوسهم في عيون الحاضرين.

يقاطعون الحديث أيًّا كان، رافعين مناخيرهم صوب السماء وبصوت متعجرف يسألون الحاضرين: الآ تعرفون من نحن؟ يهز الجميع رؤوسهم باستغراب، لا نعرف للأسف، يتجهمون على الفور بينما يستغربون ممن لا يعرفونهم، يرفع أحدهم صوته ليقول: نحن موظفون في منظمة أدرى الألمانية! كيف لا تعرفون هذا؟!

يالله، يارررباه، لاااا يعقل هذااااا، أنتم تعملون في دكان الفساد ذاك، أيّ شرف قد قذف بكم إلينا، وكيف قبلناكم أيها الصغار بيننا، يصمت الجميع بعد كلمتيهم تلك، أقف ويقف أحد اصدقائي ونغادر المكان.

في اليوم التالي وجدنا دفعات أخرى منهم، كانوا يشبهون بعضهم في كل شيء، يرتدون لوحات دعائية عليها شعارات منظمتهم، يصعدون في مدرجات المطعم كأنهم يحكمون الارض، يقول صديقي في وجوههم: هاهم اللقطاء، وصلوا حاملين شعاراتهم ولوحاتهم الدعائية خلف مؤخراتهم.

هؤلاء المغفلين لا يقدمون شيئًا للمجتمع سوى اللوحات الإعلانية خلف مؤخراتهم..!!

صدقوني، هؤلاء الصغار المتبخترون في الشوارع والمقايل والمحلات، لا تتجاوز أحاديثهم المرتبات والوظائف والدولارات والبدائل والسيارات، لا شيء أخر سوى مخلفات غباءهم ووساطاتهم وسطحيتهم في الحياة، لهذا، لطالما كرهت المقايل التي تجمعهم أو يتواجدون فيها، أكرهها حقًا وأتركها على الفور، هي بالفعل مجالس برجماتية عمياء، ظاهرها سطحي وعمقها تصنع وتباهي وتهابل، غادروها على الفور أنصحكم.

لا أقصد كل المنظمات الدولية لأني أعمل في إحداها، أعمل فيها لأنني أحترم ما تقدمه للناس وأعرف جيدًا مبادئها وقوانينها وشفافيتها واحترامها للخدمة التي تقدمها للناس، ليست دكان دعاية، أو برميل قمامة مليء بالشعارات، أو مناقصة معلنة سعرها مليون دولار وحقيقتها عشرين الف والبقية لفريق الفساد الصغير.

هذه خلاصة الحقيقة، دكاكين المنظمات أنتجن لنا طبقة جديدة من المنفصلين عن مجتمعهم، طبقة حلمها الأبدي أن تستمر الحرب وتسقط العملة الوطنية، الحرب ذاتها هي من أنتجت المنظمات، والمنظمات هي من أنتجت هؤلاء المنفصلين المغفلين، هي إذًا معادلة مترابطة ببعضها، معادلة لها معطياتها وحساباتها ومنتوجات من الدلالة والبراهين.

لا شيء أسوأ من وباء الحرب سوى وباء الدكاكين الدولية، ولا شيء أعظم من قيام الدولة وبقاءها سوى الإنسان الذي يحب وطنه ويساعد على بناء الدولة، الدولة التي تعني في النهاية الأمان والمستقبل والأمنيات، اللحظات المستقرة والخالدة في حياة كل إنسان، أرزاق الفقراء وقلوب التكالى والحزينات، ما عداها مجرد ضياع وتراكمات، الدولة بمعناها المادي .. دولة القانون والمساواة، دولة المدنيين والتشارك الجمعي في تسييرها وتداول أمر سلطتها، دولة النظم المتوافق عليها .. الدولة التي تجمع السياسة لتؤسس كياناً ذا إختصاص سيادي ونطاق إقليمي محدد يمارس السلطة عبر منظومة من المؤسسات الدائمة .. الدولة التي تقوم بكل الأعمال الإنسانية بذاتها، الدولة التي تمنع الدكاكين الصغيرة من العبث بمجتمعها وسكانها وجغرافيتها، الدولة التي تقف أمام العالم وتمنع المراوغة باسم الانسانية، تقول لهم في إباء وسيادة: من أراد أن يبرهن للعالم إنسانيته ليقدم تبرعاتهم الى مؤسسات الدولة وهي المعنية بواجباتها للناس المتضررين والمنكوبين.

في النهاية هي رسالة واحده ينصحني بها الكثير ممن يأتون من الخارج:
عليكم النظال في سبيل إنهاء الحرب لأجل إقامة مؤسسات الدولة التي تقوم بإعمالها، مؤسسات الدولة في المحصلة تعني نهاية الدكاكين الدولية في اليمن.

من حائط الكاتب على الفيسبوك

زر الذهاب إلى الأعلى