فضاء حر

ارشيف الذاكرة .. برغْمِ النزيف..!!

يمنات

أحمد سيف حاشد

هناك أحداث غير عادية تعصف بحياة الشخص، ولا يستطيع نسيانها، ليس لأنه حقودا أو أنه غير متسامح، بل لأنها تصل إلى أعماقه وتستقر، وتترك أثارها ندوبا في وعيه وذاكرته، وربما تستمر تعذّبه في حياته، أو تنكأ جراحه بين حينا وآخر، أو تلازمه طويلا في حاضره ومستقبله..

ربما تلك الأحداث تسبب لك كثيرا من الألم والوجع، أو تصير في حياتك أشبه بمن يتسبب لك بعاهة أو إعاقة دائمة تلازمك جل ما بقي لك من عمر، لاسيما إن لم يتم تطبيبك بما تستحق من العدالة التي تكون في أشد وأمس الحاجة إليها..

وأكثر منه أن يستمر الظلم يثقل كاهلك، أو تستمر أنت ترزح تحت وطأته الثقيلة، ويظل يراغمك ويريد منك أن تُذل وتخضع، بل ويحاول أن يفرض عليك أن تحتفي به، وتحتفل بزهو انتصاره على جرحك وألمك ومعاناتك المريرة..

شيء من هذا وذاك يشعرك بإحساس كثيف بظلم ساحق مدعوم باستمرار الخذلان أو طغيان السلبية من قبل تلك الجهات المناطة بها وقف الظلم عليك، وتحقيق العدالة التي تروم، فما البال وقد وجدت تلك الجهات هي الغطاء لقهرك وسحقك واستلاب حقك، أو تجدها تساهم في القى الظلم الثقيل عليك، واستلاب حقك في العدالة وفي الإنصاف الذي تبحث عنه ولا تجده..

عندما تخذلك جهات الضبط المناط بها تطبيق القانون، ويتحول القضاء المعني بإنصافك إلى أداة أو كرباج لإخضاعك وقهرك وسحقك دون وجه حق، أو تنحاز تلك الجهات والأجهزة إلى الظلم الواقع عليك، وتعمد إلى تأييده والانتصار له على حقك في العدالة، ويستمر إحساسك الحر والكثيف والجياش بهذا الظلم، وما يقابله أو تواجهه من خذلان وسياسة إخضاع لهذا الظلم، فمشروع لك بل ومن الواجب عليك أن تقاوم أو تثور أو تناضل ضد كل ذلك بألف ممكن ومتاح، وأكثر منه إن استطعت..

هذا وذاك حدث لي وعلى نحو غير معزول عمّا كان يحدث في السياق والشأن العام.. هذا الظلم الذي استمريت في مقاومته، بعد مقتل سائقي عادل في عام 2004 في عهد صالح، وما فعلته أيضا بعد الاعتداء علينا نحن والجرحى أمام مجلس الوزراء 2013 في عهد حكم ونفوذ حزب الإصلاح، وكذا ما فعلته بعد الاعتداء علينا في التحرير بصنعاء في 25 مايو 2017 في عهد أنصار الله.. الجميع مروا تقريبا على جسدي، وكنت ولازالت أقاوم بقدر ما استطعت من المقاومة وروح التحدّي ورفض الاستكانة والاستسلام..

***

مواقفي تلك بالتأكيد لم تكن بمعزل عن تراكمات سابقة ولاحقة في إطار سلسلة طويلة من المظالم، وغير معزولة عن الظلم الواقع على الناس وقضاياهم.. لقد كانت جميعها تندرج في إطار مقاومة الظلم الواقع على هذا الشعب المنكوب بحكامه، والذاتي هنا يصب في إطار الموضوعي والعام الذي كان حاضرا على الدوام في مقاومة الظلم والقهر والانسحاق..

وإن كانت لا تخلوا حوافزي الذاتية مما أعيشه وأمر به من قهر وظلم وتراكم مظالم، فالجدير بالملاحظة هنا أنني لم أعلق بمكان، ولم أقدم ذاتيتي على الشأن العام، ولكني أراكم ما يحدث لي، حتّى وإن أستمر الظلم على كاهلي طويلا، وأتجاوز ذاتيتي، وربما أخفق في كثير مما يخصني، وأراهن على العام، وأضيف إليه وأتعلم منه، ومما يحدث..

أهمل أحيانا بل كثيرا في الانتصارللمظالم الخاصة بي، أو أفشل في تحقيق نتائج مهمة فيها أو حتى في حدودها الدنيا، ولكن لأنساها طالما ظل الظلم مستمر، وأمضي في المقاومة على نحو أو آخر دون أن أخضع أو استسلم مهما كان القدر ثقيلا، ودون أن يمنع هذا من أخذ استراحة محارب إن أقتضى الحال، أو التعاطي مع الأمر الواقع مرغما، دون أن يعني هذا بحال الاستسلام أو التسليم بأحقيته، بل وتظل نفسي تعافه، وتقاومه بألف طريقه وطريقة..

إنني أتجاوز ذاتيتي غالبا حتى وإن أستمر الظلم ثقيلا على كاهلي، ولا أسمح لشيء أن يقوقعني في ذاتي، أو يعزلني عن محيطي حتى وأنا أعيش غربتي المريرة أحيانا..

لا أنتحر فيما يخصني، ولا أعلق فيه كثيرا، رغم الندوب والجروح والتصدّعات التي حدثت، حتى وإن أستمر حضورها في قاعة وعيي ووجداني، فإنها تظل بالنسبة لي محفزات وطاقات تساعدني على الصمود وعلى الاستمرار في المقاومة وصنع التراكم على صعيد الواقع والوعي ضد القهر والظلم والاستبداد..

***

في قضية المجني عليه عادل ما كنت لأصل إلى شيء، وعندما توفى استمريت ببذل كل مجهود واستطعت تحويل قضيته إلى رأي عام، وخرجت بقرار اتهام وإن كان هشا ضد ثلاثة من قوام عشرة أو عشرين معتدي..

ما أعرفه أكثر أنني واجهت أنا وأسرة المجني عليه ضغوطا شتّى خلال مسار القضية، ومخاوف أم عادل المشلولة على حياتي ظلت تتنامى وتكبر، وكانت لمشيئتها ورغبتها وضع النهاية للمسار بخيارين، أما بترك الأمر لعدالة السماء، أو بالتنازل بأي تعويض ممكن.. قلق أستمر وتزايد ومخاوف ظلت تكبر من خسارة أكبر، ومقامرة ربما يتم فيها خسارة كل شيء..

ما أعرفه أنني لم استطع إحضار شهود مؤثرين في الواقعة إلى النيابة والمحكمة بسبب نفوذ الجناة والسلطة التي تقف وراؤهم.. حاولت كثيرا دون جدوى، رغم أن الجريمة كانت مشهودة.. ترددت كثيرا إلى المحلات التي وقعت أمامهم جريمة الاعتداء والضرب، ولكن لم أجد أي شاهد ممن أبحث عنهم.. تهرب الجميع، وضغوط أستمرت كانت تتم على نحو موازي ومسبق.. وجدت نفسي ربما أشبه بمن يستجدي أمل في خرابة..

وبعد يأس من استمرار حبس الجناة بسبب ضغوط شتّى ـ هذا إن كان قد تم حبسهم أصلا – والتهديد بخسارة القليل والكثير، والحيلولة دون المقامرة بخسارة كل شيء، وحتى لا أغامر وأقامر في حقوق أسرة المجني عليه بالتعويض، وكذا تدخل الشيخ سلطان البركاني.. وكان أكثر ما يمكن الحصول عليه من تعويض أولياء الدم يومها هو مليونين ريال، مليون تم دفعه من والد الجاني الأول، فيما تعهد الشيخ سلطان البركاني خطيا للمحكمة أن يدفع المليون الثاني، والذي للأسف لم يدفعه إلى اليوم، بل ربما إلى الأبد..

اكتفى القاضي بمدة الحبس التي لا يتجاوز في حال حدوثة الشهر أو الشهرين على الأرجح، وتم معه أسقاط الحق العام أو حق المجتمع بتلك المدة القليلة من الحبس التي لا تستحق الذكر..

شعور مرير أن تجد الظالم مدعوما بالسلطة، بل وتجد السلطة هي الظلم كله، أو تجد الظالم يستخف بك أو يستهتر بحقك أو يمنعك من الوصول إليه، ويتعمد تكريسه بأقوال وأفعال ووقائع مستمرة ضدك، وتراه يريد سحقك، أو اخضاعك، أو اذلالك، أو تكريس سلطته الظالمة عليك، ورفضه إنصافك ورفع الظلم عن كاهلك.

اعتبرت قضية المجني عليه عادل واحدة من القضايا التي خسرتها، ولم تكن تلك القضية الوحيدة التي خسرتها بل وخسرت العديد من القضايا الخاصة بي أو بمن أحبهم، ومنها قضية الشروع في قتلي أمام مجلس الوزراء في مستهل عام 2013 والتي لم أظفر فيها بشيء من عدالة، وانتهت تقريبا إلى لا شيء، ومثلها قضية الاعتداء على الجرحى والمتضامنين معهم أمام مجلس الوزراء في نفس التاريخ.. ومثل هذه وتلك قضية الاعتداء من قبل سلطات الأمر الواقع على المحتجين في ميدان التحرير يوم 25 مايو 2017 على قطع رواتب الموظفين والمتقاعدين، وضد إقرار جرع المشتقات النفطية، ورفض رفع الدعم وضد حكومات أسياد الحرب.. ذلك الاحتجاج كانت قد دعت إليها حركة 20 مايو .. جميع تلك القضايا وغيرها ماتت في النيابة أو في محكمة أول درجة..

خسرت تلك القضايا وغيرها ليس لأنني فاشل أو عاجز ولكن لأن سلطة كبيرة كانت تدعم الظلم أو كانت هي بعض منه، ورغم خسائرنا تلك إلا أن تلك القضايا لازالت حاضرة في وعيينا نستزيد منها روح الصمود والمقاومة ضد الظلم والاستبداد والطغيان أي كان مصدره وصاحبه.. وسنواصل النضال ونستمر بالمقاومة من أجل وطن ومواطنة وعدالة وحرية ومساواة للجميع..

وأختم قولي عن عادل ومن إليه من الضحايا بقول نزار قباني

“برغْمِ النزيف الذي يعتريه

برغمِ السهام الدفينةِ فيه

يظلُّ القتيلُ على ما به

أجلَّ وأكبر من قاتليهِ !”

***

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا

لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.

زر الذهاب إلى الأعلى