لمحة من التعذيب السياسي
يمنات
أحمد سيف حاشد
و فيما كنت أتوقع أن يحضروا لي كرسيا لأقعد عليه، جاءوا لي بجندي مسلح، و معه كرسيا ليجلس هو عليه .. لم أتنازل لهم، و لم أطلب منهم شيئا .. هنا التنازل لدون الله مذلّة .. هنا الضباط ينظرون إليك بأعين فاحصة و مرتابة .. ينتظرون الأوامر، و يتحفزون لتنفيذها بدافع سادي شديد .. إحساس كثيف بالوحشة و الغربة في مكان لا تجد فيه من يساعدك أو يخفف عنك..
الغرفة التي احتجزت فيها كانت فارغة إلا من طاولة منهكة .. بدت لي كأنها هي الأخرى قيد الاحتجاز .. لا أنيس لي هنا إلا هي .. أحسست إنها تقاسمني الحال الذي أنا فيه، و تريد أن تقدم لي المساعدة لتخفف عنّي ما أعانيه .. الأشياء في وحدتك تشعرك بحضورها و قيمتها و معناها المختلف عمّا هو معتاد..
خالجني شعور رهيف .. أحسست إن الطاولة تتعاطف معي، و تعزّيني، و تبادلني بعض مشاعر حزني، و تحاول أن تخفف من اكتئابي .. تريد أن تقدم لي المساعدة دون أن طلب .. استجبت لها بامتنان، جلست عليها برفق، و أسندت ظهري للجدار..
الطاولات ليست واحدة .. إنها تختلف بعضها عن بعضها الآخر كأقدار الناس .. بين طاولة و أخرى ربما تجد ثمة فرق شاسع و كبير .. هذا الاختلاف نقلني إلى ماضي يعود إلى ما يقارب الستة عشرة عام خلت..
***
بعد الوحدة في العام 1990جئت من عدن إلى صنعاء، و سمعت من زميل لي في القضاء العسكري قصص تعذيب مروعة .. لم أعد أتذكر أسماء الضحايا الذي ذكرهم لي، ليس لأنني تجاهلتها، أو لأنني لا أهتم بها، بل لأن ذاكرة الأسماء لدي ضعيفة، و مع ذلك حفرت تلك الوقائع المرعبة التي سمعتها منه، أخاديدا عميقة في ذاكرتي المنهكة .. ما سمعته كان يفوق المعقول، و وقعه على الوجدان أشبه بصدمة و زلزلة..
و مما رواه زميلي هذا هو أن أحد ضحايا التعذيب قبل مباشرة التحقيق معه، تم تثبيت كفيه بالمسامير على الطاولة .. و لم يكتفوا بهذا النوع من التعذيب البشع أثناء التحقيق الذي أستمر لساعات طوال، بل و استخدموا معه أيضا وسائل تعذيب أخرى، فبدا لي الحال على الضحية أشد من الجحيم .. و أثناء فتح و نشر ملف التعذيب في العام 2008، تم التثبت و التأكد من صحة هذه الواقعة .. و كان الضحية شخص اسمه علي قلهيز..
واقعة أخرى تتلخص في كسر يد أحد ضحايا التعذيب، و يقومون بتجبيرها حتى تكاد تتماثل للشفاء، ثم يحضر الجلاد و يسلّم على الضحية، و يعصر يده ليكسرها مرة ثانية، و يصرخ الضحية بصرخة وجع مدوية يسمعها و يهتز لها الجميع، إلا الجلادين لا يسمعون و لا يكترثون بصرخة وجع حتى و إن شُقّت الأرض و تشطرت السماوات العُلا، بل تجدهم يغرقون باستمتاع لا مثيل له..
***
عبد الرحمن سيف إسماعيل العبسي أحدى ضحايا تلك السجون و المعتقلات المرعبة .. تم اعتقاله أربع مرات قضى في إحداها فترة أربع سنوات، تعرض فيها للتعذيب الجسدي و النفسي، و منها الضرب الشديد أثناء التعليق على طريقة (كنتاكي)، و التغميس في برك الماء أثناء البرد القارس، و كسر الأيدي، و نزع الأظافر، و استخدام الكهرباء، و الصفع على الوجه، و استخدام الحرب النفسية، و الحبس الانفرادي، و التهديد بالقتل، و الايهام بتنفيذ الاعدام عن طريق اطلاق الرصاص..
و لا تزال بعض الأثار باقية على جسده، و منها آثار كسور في يده اليسرى، و ضعف حاد في السمع، و آثار الربط بأسلاك الكهرباء .. و قد حكى بعض من معاناته في السجن بقصيدة نقتطف نتف منها:
“في السجن .. في زنزانة ظلماء كالقبر
مكبل بالقيود والسلاسل والأغلال..
تلهبني سياط الجلادين..
و نعالهم الحقيرة،
أموت في كل ثانية مرة واحدة
أو مرتين ..”
و يذكر آخرين ممن تعرضوا للتعذيب البشع و المروع، و منهم علي قلهيز، الذي دقوا المسامير في يديه، و عبده الكوري الذي تم كسر أحد أضلاعه، و العبادي الذي أصيب بالجنون بسبب التعذيب بطرق بشعة، و عبد القوي رافع الذي حُبس لمدة 12 سنة، و كانوا يحققون معه و يضربون بجانبه الرصاص، و هو معصوب العينين، و عبد الحفيظ جازم الذي كانوا يضربون رأسه بالمطرقة، و علي بشر القباطي الذي كانوا يعذبونه و يقضمون صلعته بأسنانهم و أنيابهم..
***
و عودة إلى زعفران “أم حمير” أحد ضحايا التعذيب المؤلم و المرعب جاء في شهادتها إنها تعرضت للضرب بطواية أسلاك كهربائية، و صعقها بالكهرباء، و التغطيس في برك مياه باردة، و التعليق عن طريق الأرجل إلى سقف الزنزانة، و الضرب رغم حملها..
و لم ينحصر أو يقتصر التعذيب عليها وحدها من بنات جنسها، بل تذكر بعض رفيقاتها اللاتي تعرضن للتعذيب المريع في معتقلات و سجون السلطة آنذاك، ذكرت منهنّ على سبيل المثال لا الحصر: طيبة بركات، و أمينة محمد رشيد، و درة الفاتش التي عذبوها، و علقوها في السجن، و شنقوها، وزعموا أنها انتحرت..
و هناك حكايات تعذيب أخرى مؤلمة عاشها آخرين مثل: أبو القصب الشلال، و عبد الرحمن الأهدل، و يحيى أمين زيدان، و يحيى علامة، و علي مكنون، و عبد الباري محمد سعيد، و عبد الباري طاهر، و أحمد علي الوادعي، و سلطان الصريمي، و غيرهم الكثير ممن سمعنا عنهم، و من لم نسمع عنهم هم أكثر من الكثير..
***
فرحان عبد الله وهفان من عمران واحد ممن تعرضوا أيضا لبعض صنوف التعذيب حيث يقول: كانوا يخرجونا في بعض الليالي يطوفون بنا حول بركة ماء، و نحن مثقلين بقيود حديدية، و نظل نطوف حول البركة، و لسعات العصيان تنزل على ظهورنا، و أخيرا يقذفوا بنا إلى داخل البركة الباردة كريهة الرائحة.. “
و عن الآخرين ممن تم تعذيبهم يقول: “أتذكر من الذين تعرضوا للتعذيب “زعفران” زوجة أحمد فارع، و زوجة عبد الله نجاد و ابنته، و أبناءه الاثنين (سند و رشاد) و علي المولّد، و أيضا صالح المولد، أبناء عم صالح المولد، و الأستاذ عبد الرحمن سيف إسماعيل العبسي، و عبد الرحمن غالب المقطري..”
و يستغرق في تذكره الذي لا يخلوا من مرارة وألم فيقول: أتذكر أن محمد خميس كان يلوي يد علي المولد وهي المصابة بطلقة نارية، و مكسورة، و يزيد من ليها، فيصرخ حتى يسمع صوته كل من كان في غرف السجن، و قد ظلت عاهة يده ملازمة له أيضا، فيما زعفران كان محمد خميس يعذبها بعصا غليظة .. يضربها على بطنها بمنتهى القسوة، و هي حامل و على وشك أن تلد، و بالفعل ولدت داخل السجن، و أسمت ابنها على اسم السجن “حمير” سلام على أم حمير..
***
سلطان أحمد زيد أيضا تعرض في سجنه للسب و الشتم، و القيد على الرجلين، و الحبس الانفرادي، و الحرمان من النوم، و المنع من التبول و قضاء الحاجة، لفترات طويلة، فضلا عن مصادرة كثير من حقوقه الوظيفية والمادية..
و عن الزملاء الذي تعرف عليهم في السجن و تعرضوا لصنوف التعذيب يقول: تعرفت بعد فترة من الاعتقال في زنزانتي الانفرادية على بعض من الزملاء في الزنازين الأخرى، أتذكر منهم: الأستاذ أبو القصب الشلال الأديب و الشاعر المعروف، و الفقيد المناضل أحمد صالح جبران، و علي العلفي، و عبد العزيز قائد سيف، و الأستاذ عبدالله الرديني الناقد والكاتب، و علي محمد محرز موظف في البنك المركزي، و الضابط فوزي الذي اعتقل عشية زفافه في تعز، و هو أحد المخفيين قسريا إلى اليوم..
و يشير أن هؤلاء المعتقلين الذين اعتقلوا و عذبوا لا لشيء غير آرائهم السياسية، و يضيف: علمت لاحقاً بأن أغلبهم لاقوا صنوفاً من التعذيب و المعاملة القاسية، و منهم المناضل الفقيد جمال المخلافي الصحفي الذي عذب بالضرب على الخصية، و لم يخرج من المعتقل إلاّ فاقداً لعقله، إلى جانب الحرمان من زوجته و تطليقها منه بالقوة..
و من وسائل التعذيب الذي يستخدمها الجلادون ضد الضحايا، يذكر سلطان أحمد زيد بعض منها، كعصر الرقبة، و الصفع المفاجئ على الوجه، و التعليق في قضيب خشبي عبر اليدين و الركبتين و ربطهما معاً، و الضرب بالسلك على الفلكة “باطن القدمين” حتى الإغماء، أو ساعات تمتد طوال التحقيق، و لا يسمح له بشربة ماء واحدة، ثم يعود بك الجلاد إلى الزنزانة و يقذف بك كالقمامة..
و في الخلاصة نشير أن هذا كان مجرد لمحة شديدة الاقتضاب عن التعذيب في الأمس .. أما اليوم فالتعذيب بات أكبر من أن يستوعبه عقل أو وصف أو لغة..
***
المصدر: صحيفة المستقلة
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520.