العرض في الرئيسةفضاء حر

صدمات توالت

يمنات

أحمد سيف حاشد

حضر إلى قاعة مجلس النواب نائب رئيس مجلس الوزراء لشؤون الأمن والدفاع وزير الداخلية رشاد العليمي، ومعه رئيس جهاز الأمن السياسي غالب القمش.. دخلا من بوابة قاعة المجلس مزهوين بخطوات واثقة، وكأن مستجد ما قد حدث، وغيّر كل شيء، ولم يبق إلا إخراج يتدبره من يدير الجلسة.. توجست بتبدل الحال وقد بدا اليوم منقلبا على أمسه..

بدا لي أن حضور الوزير مع رئيس الجهاز قد جاء بعد تطمينات أكيدة.. “أمر دُبّر بليل”.. لن يتغير شيء يزعزع حال أريد له أن يستمر، والجبل لن يتمخض غير فأر، بل وقد بات هذا الأمر مفروغا منه ومحسوم..

كانت الصدمة الأولى حالما رأيت سرب من النواب يحيط بهما ويتبعونهما حال دخولهما إلى القاعة، في مشهد كان أقرب إلى زفاف من أي شيء آخر اسمه استجواب أو مساءلة .. هكذا بدا لي الأمر من وهلته الأولى، دون أن أهمل فرضية أن أكون متوهما، وأن المجاملة أمر اعتيادي، ولكنها لن تمس ما نحن بصدده، ولن تذهب به إلى ما هو أبعد من حدودها المتعارف عليها..

أما الصدمة الثانية فكانت حالما رأيت زحام من النواب يتكومان عليهما، غير إن الكوم والزحام الأكثر كان هو ذلك الذي يحيط بوزير الداخلية.. هذا التكوّم كان مثيرا لاستغرابي وذهولي، بل وذهبتُ بهواجسي بعيدا، واستفزّني ما أراه كثيرا، ولم أقدر صبرا عليه..

هذا بيده ورقة طلب تجنيد، وذاك بيده طلب نقل جنود، وهذا يريد تفريغ عدد من الجنود معه، وهذا يتابع على نقل مدير ، وهذا بيده ملف ما، وأخر بيده معاملة يريد إنجازها.. طلبات كثيرة، والتفاصيل أكثر منها.. لحظتها شعرت بالخسران والقتامة والحزن، وقد تجسد أمامي ذلك القول: “مصائب قوم عند قوم فوائدُ” وكانت مصيبتي بين قومي اشد..

رأيت الوزير وهو منهمك يؤشر على الطلبات بسرعة لافتة، ويذهب نواب ويأتيه نواب آخرين، فيما الرئاسة تتواطأ مع المشهد بل وتستمريه، رغم أن تلك الطلبات والمعاملات على فرض مشروعيتها مكانها مكتب الوزير أو رئيس الجهاز لا هنا في قاعة البرلمان المطلوب الحضور إليه للمساءلة..

بدأ لي الأمر هنا وكأن الوزير قد تحوّل إلى مزار، وجلهم يتقرّب إليه، ويتبرّك فيه.. فيما هِمة الوزير بدت نشطة ودؤوبة، تلبي وتستجيب لما يُطلب منها دون اعتراض أو تحفظ.. رمقت الوزير والأوراق تمرق من بين يديه وهو يؤشر ويوقع عليها، حتى بدا لي قلمه وكأنه قد صار ذيل عنزة في حركته، ومغزلا في سرعته..

يا إلاهي.. ماذا الذي يحدث؟! .. “يوم الله تعرف من صبحه”.. أنا منتظر من النواب أن يسألونهما ويستجوبونهما، ويسحبون الثقة منهما، فيما الذي أشاهده هو تسولهم لأوامر وتوجيهات وتسهيلات صغيرة وشخصية.. “كل يضع نفسه حيث يشاء” والمجلس وضع نفسه متسولا لا أكثر منه.

أثارني المشهد، وأثار لدي العديد من الاسئلة!! ماذا حدث بين الأمس واليوم؟! كل شيء يبدو أنه أنقلب على أعقابه وتبدل!! حماس الأمس الذي كان باديا للعيان ومتأججا على نحو لافت للاهتمام بات هامدا وباردا كجبل من جليد.. من كان في الأمس محلا للمحاسبة صار محلا للاستلطاف العذب.. النواب الأشاوس الذين كان جلهم يهيج ويموج باتوا يتوسلون ويتسولون استعطاف لا يليق بمقام أحد، أفعال مخزية، ومجاملة مُقرطة أوغلت في مبالغتها حد لا يطاق..

هالني الأمر وشعرت بقرف لا يُحتمل.. تساءلت: كيف يمكن لهؤلاء النواب أن يسألوا أو يستجوبوا مسؤولا ليحاسبوه، فيما هم يتهافتوا عليه كالذباب على قطعة حلوى؟!! يستجدون مطالب جلّها خاصة، ومخالفة للقانون أيضا.. إن ما يحدث أشبه برشوة لنواب كان يفترض أن يكونوا في مقام يليق بهم كنواب للشعب لا متسولين..

أحسست أن الذي يحدث أمر مهين إلى حد بعيد بحق البرلمان.. خرجت من طوري محتجا بأن الذي يحدث مهين وغير معقول.. كيف لبرلمان أن يسأل ويستجوب وزير أو رئيس جهاز فيما أعضاؤه يتسولون التأشيرات منه على طلباتهم التي مكانها مكتب الوزير ومكتب رئيس الجهاز، وليست قاعة البرلمان، وفي جلسة مخصصة للمساءلة والاستجواب لهما..

استفزني هذا الموقف المهين ليس بحق النواب، بل وبحق المجلس برمته.. دفعني هذا الضغط المستفز لأن أحاول الأثبات بصورة لجريمة الرشوة التي تحدث جهارا نهارا قبل جلسة المساءلة المفترضة بنصف ساعة..

حاولت أن أقف على قدمي وأخرج الكاميرا من الجاكت الذي أرتديه لأثبت ما يحدث من عار بحق هذا المجلس، وقبل أن التقط الصورة أو بعدها ببرهة صرخ بعض النواب هلعين على ما أقوم به، فيما رئيس المجلس بدا لي كمصعوق وهو يأمر بحزم “المروني” في سكرتارية المجلس ليأخذ من يدي الكاميرا، ولا يفرج عنها إلا بأمر منه، ولم يتم إعادتها إلا بعد مطل وتسويف، أو ما أسماه لاحقا بتأديب أستمر شهرين أو ثلاثة بحكم المصادرة، وكنت قد ايقنت أنها لن تعاد وإلى الأبد..

الصدمة الرابعة أنه انيط الرد على الشكوى بوزير الداخلية، وليس على المعني والمطلوب للمساءلة أصلا، وهو ما كان قد أقره المجلس من قبل.. رئيس جهاز الأمن السياسي حضر كضيف برفقة الوزير، رغم أنه كان المعني الأول فيما تضمنه قرار المجلس والرافض لدعوة حضور الوزير، ولكن “كلام الليل يمحوه النهار”

أما الصدمة الخامسة أن رواية الوزير كانت كاذبة على نحو مستفز وملفق إلى حد لم أكن أتخيله.. أما السادسة فكانت انفضاض المجلس على حساب حق تم غمطه، ونائبا ارادوا الإجهاز على شكواه، وصبوا اللعنات على رأسه، وسحقوه في ذلك اليوم ظلما وقهرا وباطلا.

***

يتبع..

زر الذهاب إلى الأعلى