درس من التاريخ
يمنات
حسن عبد الوارث
يومَ أن فكَّر الانكليز في ضمِّ عدن – وما حواليها – الى تاجهم الامبراطوري ، سعوا الى تحقيق هذه الغاية بوسائل مُتدرّجة تتفق مع طبيعة الحال أو سياسة الموقف القائم ، حتى يتبيّنوا الأسلوب الأمثل في نهاية المطاف ..
فالانكليز معروفون تاريخياً بعدم اعتماد قواعد ثابتة في مجال تعاطي السياسة ، مُنوّهين دائماً بمقولة خالدة لديهم تفيد بأن ” سياستنا الثابتة هي أنه ليست لدينا سياسة ثابتة ” . أي أنهم يعالجون المشاكل ويحددون المواقف وفقاً لما يحدث أو يطرأ بهذا الصدد في حينه.
فحين قرروا احتلال عدن ، كانت الخطوة الأولى في هذا المضمار هي التقدم الى السلطان العبدلي في لحج آنذاك (1839م) بعرض شرائهم لعدن التي كانت يومها قرية صغيرة وبائسة تتبع سلطات هذا السلطان ..
ثم تواضعوا في عرضهم من حالة الشراء الى حالة الايجار لزمنٍ معلوم في مقابل قدرٍ من المال، بعد أن لمسوا عدم قبول السلطان موضوع الشراء، بعد أن تنامت مشاعر الرفض لدى نجله الشاب وعدد من أعيان السلطنة لهذا المشروع من منطلق المبدأ أساساً وليس العرض تحديداً.
حينها ، تطور الموقف الانكليزي من حالة العرض الى حالة الفرض، فأنتفت الرغبة في الشراء وفي الايجار، وتصاعدت الرغبة في الاحتلال الذي بات هو الحل لوطء عدن..!
ويومها، بعث الكابتن هينز ببرقية الى مركز القرار في لندن، كانت دقيقة اللغة ومباشرة النبرة وواضحة المعنى، يقول فيها : “لا يمكننا أن نحصل على عدن الاَّ بالقوة العسكرية”. نقطة. أنتهت البرقية.
وافقت لندن، وأعدَّ هينز سيناريو محبوكاً جداً لغزو عدن، فيه من خيال الدراما أكثر مما فيه من واقع السياسة. وكان البطش العسكري العنيف للانكليز يفوق في جبروته الحالة المتواضعة للمقاومة المحلية، فقد كان الفرق واضحاً جداً بين قدرات الطرفين.
وبعد أن هدأت المدافع التي دكَّت قلاع وحصون اليمنيين، ذهب هينز الى السلطان العبدلي ليُجدد عرض الشراء – لا الايجار – في مقابل مبلغ من المال. يومها قال له السلطان بكل أنفة وعزّة: يمكنكم أن تأخذوا عدن عنوةً … أما أنا فلن أبيعكم أياها.
ولكن … جاء اثر ذلك من قَبَلَ باسقاط عدن – وغيرها من المناطق – من حسابات السيادة الوطنية، بعد القبول بقدر معلوم من الدريهمات ثمناً لهذه السيادة.
يحكي التاريخ أن للانكليز قاعدة سياسية مضمونة السريان تقول: “نحن نتحكّم من دون أن نحكم” بأن يُوجِدوا الشخص – أو الأشخاص – الذي يتوهم أنه يحكم البلاد، فيما هو مجرد عُكفي أو موظف صغير لديهم. ان لهم عبارة مأثورة في هذا الشأن تقول: الرجل الذي لا رأي له كمقبض الباب، يستطيع أن يُديره كل من يشاء!
.
.
.
لذا ، أوجد أبناء التربية الانكليزية من المحتلين الجدد لعدن – اليوم – عدداً من مقابض الأبواب. لكنهم أغفلوا درس الأنفة والعزة الذي سطّره العبادل – حُكّاماً و أهالي – مثلما تناسوا بأن في هذي البلاد من البنادق أكثر مما فيها من الرجال، وأن الروح الوطنية لم تكن يوماً عملة وطنية لتفقد قيمتها تحت تأثيرات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، محلية أو اقليمية أو دولية.
ان ما يؤسفني جداً اليوم أن من يريدون كتابة التاريخ، يغفلون في الأساس عن قراءة التاريخ!
المصدر: موقع بلقيس