أبصم بالعشر أنه كاذب
يمنات
أحمد سيف حاشد
تحجج الوزير في روايته بالمخاوف من تصوير مبنى الأمن السياسي من خارجه، باعتباره موقعا حساسا.. كان مثل هذا الادعاء بمفرده يكفي أن يثير حفيظة النواب على هذا الاستخفاف الباذخ بهم وبمعارفهم، إلا إذا كانوا نوابا لازالوا يعيشون في حقبة ما قبل الألفية الثالثة، ويجهلون أبجديات ثورة الاتصالات والمعلومات والأنترنت التي يعيشها العصر..
أعجبني الإعلامي والناشط السياسي لطفي شطارة الذي رد يومها على خفة هذا الوزير، بمقال تحت عنوان “اليمن.. ديمقراطية رقص الحمام” جاء ضمن ما جاء فيه:
“ماذا لو علم الأخ الوزير أن مبنى الاستخبارات البريطانية لدولة عظمى في العالم (MI6 ) يقع على ضفاف نهر التايمز، ويمكنك أن تلتقط ما تريد من الصور بجانبه.. أهمية المباني والمواقع الحساسة تكمن بما يوجد داخلها وليس بأشكالها او بمكان وجودها.. الوزير ربما لم يسمع بعد أن برنامجا تابع لموقع جوجل على الشبكة العنكبوتية يمكنه أن يحدد لك، وعبر القمر الصناعي أي موقع تريده في العالم وأنت جالس على مكتبك، وليس مبنى واقع في شارع عام..”.
ما حدث لي خارج سور الجهاز، لم يكن في مخبأ أو مكان قصي أو معزول، بل كان في شارع عام، وأكثر منه في حضرة ومشهد جمهور غير قليل من الناس.. وحتى احتجازي داخل الجهاز، يمكن كشفه أو الاستدلال عليه أيضا بسهولة ويسر، من خلال الكاميرات المثبتة في أسوار الجهاز وبواباته وزواياه وبعض مبانيه..
كنتُ أعرف إن الوزراء والساسة في الغالب والأعم يكذبون، ولكن لم أكن أعلم أنهم يكذبون إلى ذلك الحد الصارخ من الافتراء والاستخفاف والمجاهرة.. لم أكن أتصور أنه سينكر واقعة مشهودة في جلها بمائة عين لا اثنتين.. لو كان هذا المجلس مهابا أو على الأقل يحترم نفسه ما تجرّأ هذا الوزير أن يستغفله ويستغبيه، بل ويستهتر به إلى ذلك الحد الصفيق.
إنني لا أناكر هنا في موضوع ملتبس، وإنما واقعه رصدتها مائة عين ترى وتبصر وتمعن النظر.. وما حدث في الداخل تستطيع أن تتحقق منه وتستقصيه بالصور والفيديوهات لا ينكرها كائد أو مناكر.. كنت أتسأل كيف يتجاسرون في نكران كل شيء، وقلب الحقائق رأسا على عقب؟!!
الرقبة منّا ولدينا تُقطع بشهادة شاهدين فقط، وما حدث خارج السور كان يمكن إثباته بعشرات الشهود، وأضعاف مضاعفة من الأعين والآذان التي رأت وسمعت ما حدث في صحو نهار مشمس، لا ضباب فيه ولا دُجى، وزائد عليه إنها عاشت اللحظة بكل تفاصيلها..
وأكثر من هذا، لك أن تسخر، وأنت تسمع رواية الوزير الذي كان يتحدّث عن ضباط الأمن السياسي في صنعاء، وكأنه يتحدث عن رجال شرطة وأمن “السويد”.. حتى الحجارة ستسخر من هذا الوزير، لو قدّر لها أن تسخر..!! سخرية بالغة ومقذعة قادرة أن تثير فينا كثير من الألم والبكاء والأنين..
كان بإمكاني أن أصف تفاصيل الغرفة، وطريق الوصول إليها، وكشف تفاصيلها، وتفاصيل الحارس الذي أحضروه، وكذا الضابط ذات الملامح الحادة الذي أمر الجندي بحراستي فيها.. كنت أستطيع أن أميزهما من ألف شبه لا من أربعين..
إنني على ثقة أن أي محقق مبتدئي يستطيع أن يكشف هراء هذا الوزير، وكذبه المتعمد والصارخ.. أي محقق يستطيع كشفه إذا ما اتيح له حتى مساحة الحد الأدنى من الحرية في التحقيق والاستقصاء.. ما حدث خارج السور واقعة مشهودة لا غبار عليها، وما حصل داخله بالإمكان إثباته بأدلة تقطع الحجر..
كان اسم الوزير يتقدمه رتبة “اللواء”، ولكن للأسف كان كاذبا بمستوى رتبته.. صحيح أنه يحمل شهادة “دكتوره” ويسبق اسمه لقب “دكتور”، ولكنه للأسف كان كاذبا بمستوى لقبه ودرجته وشهادته مع مرتبة “الشرف”..
إن الكذب دميم، والسياسية أكثر قبحا ودمامة عندما تعتاش عليه، أو يعتاش عليه ساستنا الذين أنهكونا وأفسدوا حياتنا في الأمس واليوم، وقد صار الكذب قُوتهم اليومي عشاء وصباحا، وأسوأ منه حالا أن نجدهم، وقد اختطفوا منّا وطنا جميلا افتديناه، ومستقبلا لطالما بحثنا عنه، وتوقنا إليه..
هناك مثل روسي يقول “في مستنقع الأكاذيب لا تسبح سوى الأسماك الميتة” ربما رأيت حال كهذا مرارا في هذا المجلس الموات، أو ما يفوقه بكثير في مستنقع لا ينحسر ولا ينزف.. هناك شطر بيت شعري يقول: “لا يكذب المرء إلا من مهانته” وكان هنا الحال أكثر وصفا وابتلاء ومهانة.
يقول مارتن لوثر إن “الكذبة كرة ثلجية تكبر كلما دحرجتها” وها هو هذا الوزير قد كبر بكذبه، وكبرت أكاذيبه حتى وصل إلى أن يكون في مرحلة ما، ممسكا بأخطر ملفين في هذه البلد المنكوبة بهم، وهما ملف الإرهاب، وملف ترسيم الحدود..
واليوم وفي ظل سلطات الأمر الواقع التي تحكمنا هنا وهناك، بات الكذب ماء وعيش وأسلوب حياة.. صار عميما ووخيما حد المستحيل.. فيما الصدق صار بحكم النادر الذي لا حكم له.. صار الصدق مكلفا جدا، وثمنه باهض للغاية، وينطبق عليه قول نوال السعداوي: “الصدق في عالم يكذب أمر مخيف”.
***
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520.