علوان الاستثنائي والباحثون الاستثنائيون
يمنات
قادري أحمد حيدر
هو استثنائي كرجل أعمال، واستثنائي كحامل لصورة المثقف النبيل في أعماقه، واستثنائي كصديق وفي وكإنسان.
قبل أكثر من خمسة عشر سنة كتبت عنه مقالاً صغيراً في صحيفة “الشارع”/الصادرة في صنعاء، مشيراً في العموم إلى بعض سجاياه الاخلاقية والعملية والإنسانية العامة، وخشيت حينها أن يقابل ذلك المقال بعدم الترحاب للعلاقة التناقضية كقاعدة بين الكاتب والمثقف، والراسمالي/رجل الاعمال، والذي قد يصل بالبعض إلى إدراج ذلك الموضوع في باب النفاق الاجتماعي، خاصة لمن لا يعرفون من هو علوان الشيباني “الاستثنائي”، كصديق وإنسان، قبل أن يكون رجل أعمال، ووصلتني –حينها- بعض التساؤلات والاستفسارات ورددت عليها، وساعدني على ذلك أنني لم أجامل ولم أتقرب ممن هم في السلطة، كما أنني لم أكن في أي يوم من الأيام على علاقة طيبة برجال الأعمال حتى من الذين هم من قريتي على كثرتهم، وعلى محبتي الشخصية لبعضهم، ممن تربطني بهم صلات أسرية و”قروية”، كما ساعدني على ذلك – ايضا- السمعة الطيبة لعلوان الشيباني على المستوى الشخصي الذي لم تتلوث نشاطاته التجاربة بشبهة فساد، واتسام أداء أعماله التجارية – بالعمل المؤسسي/القانوني.
يجمع علوان سعيد الشيباني في ذاته ، شخصية بسيطة متواضعة بشوشة ، محبة للنكتة حتى على نفسه، وهو صارم حين يستدعي الأمر ذلك، صاحب علاقات عامة واسعة مع قطاع واسع من الناس من الأعلى للأبسط، ومن مختلف فئات وشرائح وطبقات المجتمع، وتستغرب أحياناً وهو يحدثك عن اسماء من قريتك، وعن إنسان بسيط في أقصى أرياف البلاد، وعن مصور، وعن سائق، وعن أسماء من الفئات الاجتماعية المقهورة(المهمشة/وليس من “أحفاد بلال” حسب التسمية الخطأ من قبل البعض)، وكيف يتذكر أسماء بعض المبرزات والمتفوقين منهم/منهن، كما يحدثك عن كاتب وصحافي في بداية مشواره مع الكتابة، وعن باحث، وعن سياسيين كبار وصغار، من مختلف المكونات السياسية والانتماءات الاجتماعية، والجغرافية، بما يعني أن صلاته الشخصية قوية بهم. ويبدو أن لذلك الأمر صلة بالطبيعية التكوينية الذاتية الخاصة به كفرد وإنسان، وقد أعيد، من جهتي، بعض ذلك، من جانب(ما)إلى بداياته السياسية والفكرية الأولى، منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي.. كانت هجرته المبكرة إلى الحبشة وهو لم يبلغ بعد الخامسة عشر من عمره بحثاً عن العمل والرزق، وما يزال يحتفظ في ذاكرته بصداقات تلك الهجرة، لمن صار بعضهم من كبار المثقفين ، ومن الرموز السياسية في السلطة وفي المعارضة ومن الدبلوماسيين ومن التجار من مختلف مناطق اليمن.
صار معروفاً أو شائعاً أن رجل الأعمال من المنشأ الطبقي الكادح/الفقير غالباً ما يتنكر لأصوله الإجتماعية الطبقية الأولى حين يترقى إلى الأعلى في سلم التراتبية الاجتماعية/الطبقية، مثله مثل بعض “المثقفين التقدميين”، حين تدفع بهم الظروف والصدف إلى قمة السلطة، فإن أكثر ما يزعجهم تذكر تلك البدايات الأولى التي يكافحون لمحوها وشطبها من الذاكرة.. على عكس الاستثنائي/علوان، فهو يفاخر ولا ينسى استحضار بعض المواقف الطريفة والساخرة التي كانت تطاله في تلك المرحلة، ويحكيها بفخر واعتداد بالنفس مع إثارته من خلال الحكي حالة تستدعي الضحك على ما كان، وهو أن يدل على شيء فإنما دل على طبيعة إنسانية سوية صلبة ومتماسكة، روحياً ووجدانياً واخلاقياً. ولذلك هو استثنائي.
نحن في العادة، ككتاب ومثقفين، نتحدث كيف يجمع البعض من المميزين من المثقفين بين روح المثقف، وبين صورة السياسي النبيل، أي المثقف الذي يحافظ على روحية المفكر والمثقف في داخله وهو يمارس فعله السياسي، وكيف تتحول الفكرة/الكلمة عنده إلى أداة ووسيلة لتطهير السياسة مما يعلق بها من أدران السلطة الفاسدة في سيرورة ممارسة الفعل السياسي اليومي. وهناك نماذج عديدة لذلك في حياتنا اليمنية والعربية والعالمية تدل على جمال تلك الأسماء.
على أننا لم نواجه – إلا نادراً واستثنائياً – شخصاً يجمع بين هيئة ووضعية رجل أعمال ناجح ونظيف وله سمعة اجتماعية وسياسية واخلاقية طيبة، ويجمع إلى جانب كل ذلك، صورة المثقف التي يتمثلها في سلوكه وفي منطق تفكيره، وفي علاقاته مع من حوله.
والاستثنائي/علوان واحد من أبرز وأهم هذه الأسماء على ندرتهم في حياتنا.
2- علوان وبحث الهجرة :
إن فكرة وقضية الهجرة رافقته منذر رحلته المبكرة للحبشة وهو لم يبلغ بعد سن الخامسة عشر، ورافقته – كذلك- في صورة تغرباته الدراسية والعملية، من القرية إلى تعز إلى عدن إلى مصر، إلى امريكا إلى اسبانيا.
إنها رحلة مع اليمن كهوية وحضارة وتاريخ، ودور اليمنيين في التاريخ وفي صناعة مجد اليمن الحضاري. ومن فترة مبكرة وهو في “الغرفة التجارية” –وقبلها- راودته فكرة البحث عن دور اليمنيين في البلدان التي هاجروا إليها ، دورهم المتعدد والمتنوع المستويات، وكان يتداول هذه الفكرة مع بعض الأصدقاء والمهتمين حتى اختمرت الفكرة في صورة عمل بحثي موسوعي كبير، هو في تقديري خطوة باتجاه تنبيهنا إلى أن استعادة دور اليمن واليمنيين يبدأ من هنا، يبدأ من لحظة الوعي هذه، من تحرير وعينا مما علق به من الخذلان ، ومن التجاهل والنسيان في زحمة الصراعات السياسية العبثية والاعتباطية، ومن تغليب المصالحي الصغير على المصلحة الوطنية العليا، هيمنة السلطوي على الوطني ،والسياسي على الثقافي، خاصة خلال الأربعة أو الخمسة العقود المنصرمة ، وهي سنوات أضعناها أو ضيعها البعض منا في تدمير الذات الوطنية، في الوقت الذي كان منوطاً بنا استعادة ذلك الدور السياسي والحضاري والتاريخي الذي كان.
فمن لحظة الوعي/الفكر، يبدأ تحريرنا لأنفسنا وللواقع، ولم ينس الاستثنائي/علوان، رغم مشاغله الخاصة والعامة، الاهتمام والتركيز على لحظة الوعي/الفكر.
ويحضرني هنا ذلك التعب العظيم والنبيل الذي واجهه “لسان اليمن”، أبو الحسن الهمداني في دعوته اليمنيين لاستنهاض الهمم لاستعادة دورهم كيمنيين، ومجد تاريخهم الحضاري العظيم، كحافز لتثوير العقل الوطني وتنشيط حركة فعل الناس في هذا الاتجاه.
وقد بدأ بنفسه في الانكباب على العمل البحثي/الفكري والثقافي، المتنوع في أعماله الفكرية والتاريخية الجبارة التي خلدته في التاريخ:
“الإكليل” بأجزائه العشرة وما تبقى منها اليوم، وفي “صفة جزيرة العرب”، وفي العشرات من الاشتغالات البحثية/الفكرية/التاريخية، لإدراكه أهمية الوعي التاريخي في المساعدة للإنطلاق من مركزية وعينا بالتاريخ ومن دورنا في ذلك التاريخ للإنطلاق صوب المستقبل. ذلك أن الشعوب والدول لا تبدأ من فراغ، أو من لحظة صفرية في الوعي بالذات وبالتاريخ ، واليمنيون من أوائل الشعوب في صناعة التاريخ والدول والحضارة.
علوان الاستثنائي ترك السياسة مبكراً وذهب نحو حلم أسس بذرته الأولى معتمداً على نفسه، وشق طريقه في اتجاه ذلك الحلم. على أنه، وهو يخوض غمار تلك التجربة والرحلة، لم ينس أنه يمني،(الهوى والهوية)، وللتأسيس لهذا المعنى بدأ من الإجراء العملي البسيط، وذلك بإنشاء وتأسيس “مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية” لتنهض بدور “ما” في هذا الاتجاه، أي في الشأن الاجتماعي والثقافي، وانصب اهتمامه على محوري التعليم ، والاجتماع الانساني. ومن قلب هذه المؤسسة خرج العديد من الأعمال الخيرية الاجتماعية والتعليمية والثقافية الأولى، ولا أرى في سعيه لتحويل فكرة الهجرة من فكرة إلى قضية إلى مشروع بحثي موسوعي، سوى استمرار لتلك البداية،(دور القوى الناعمة)، ولتذكيرنا بما نسيناه من واجبنا تجاه أنفسنا وتجاه تاريخيا على طريق استعادة دورنا كيمنيين في صناعة الإنسان والتاريخ والحضارة.
إن العمل البحثي الذي تحول إلى مشروع جاهز في صورة كتاب عن وحول الهجرة من ثمانية أجزاء، هو بحق عمل ريادي وموسوعي جبار. واتذكر أنني كنت أردد على مسامعه دائماً، أننا معا : علوان والباحثون، مقدمون على أجمل وأنبل عمل بحثي ريادي وموسوعي، ليس على مستوى اليمن بل وعلى مستوى كل المنطقة العربية، عمل يجب أن يحفز رموز وممثلي القوى الناعمة للسير بجهودهم الذاتية باتجاه اصلاح ما أفسدته السياسة والسلطة والحروب.
بوعي قصدي أو بدون ذلك، لا أعرف بالضبط، كان علوان الاستثنائي يدرك أهمية البدء من لحظة الوعي، ومن تحرير الوعي في استنهاض الهمم للحركة باتجاه استعادة دور اليمنيين في صناعة الحاضر ومجد المستقبل.. دور اليمنين الذي تجاهله السياسي السلطوي والمثقف الفاسد، والرأسمالي الذي يجري جري الوحوش نحو سقف الحد المطلق من الربح ولو على حساب القيم، وعلى حساب تنمية المجتمع.
إن “مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية” ، هي، وإن كانت مؤسسة صغيرة بحجمها، لكنها بحق كبيرة بفعلها على زمن إنشائها القصير نسبياً، مؤسسة متنوعة الأعمال والأدوار، تجمع بين الخيري و الاجتماعي والثقافي والتنموي الانساني العام، مؤسسة تعهد الاستثنائي/علوان، أن يبقيها خارج دائرة الإعلان والإعلام طيلة أكثر من خمسة عشرة سنة، يدعم من خلالها، وفي حدود قدرات المؤسسة، كل ما يدعم وينمي الفعل الاجتماعي، والأعمال الثقافية، مؤسسة لها اسهمامات طيبة ملموسة في تنمية المجتمع :
وتحديداً فئة المهمشين من أبناء اليمن المغبونين والمقهورين، كما تدعم الطفولة والاعمال الصحية وتنمية بعض مناطق الأرياف، بدءاً من منطقتة إلى مناطق عديدة، تطال وتمس تنمية كل جغرافية اليمن، أعمال بسيطة موجهة تستهدف تنمية العقل “الدراسة والتعليم” وتنمية المجتمع، المشاركة المجتمعية عبر تشجيع الفئات الفقيرة، وأبناء الفئات “المهمشة”، للانخراط في العملية التعليمية.
لم يفكر يوماً في الهجرة النهائية برأس ماله، وباعماله، من اليمن، كما أنه لم يرتبط، كرجل أعمال، بجماعات الفساد.. وطن نفسه حضوراً في تربة الوطن منافحاً عن المعنى اليمني/ الانساني الأصيل، وكانت “مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية” بوابة دخوله إلى الفعل التعليمي والاجتماعي والثقافي والانساني العام.. هو بحق إستثنائي في الكثير من أمور الحياة.
من يعرف علوان أو يقترب منه قليلاً وتختفي عندها حواجز الكلفة الاجتماعية، سيجده ما يزال محتفظاً بأبجدية الطهارة الأولى في فهمه للسياسة والثقافة، سيجد فيه روح الإنسان متوهجة تتحدى ما دون ذلك.
وهو حتى اليوم ما يزال مرتبطاً بالقراءة وبالكتاب.. يطلع على بعض ما يصل إليه، ويناقشك أحياناً في بعض ما يثير شجونه من بعض المقالات، وحتى لبعض مما يكتب ويصل إليه. وعلى زحمة انشغالاته التجارية، يجد بعض الوقت لينمي معرفته بما حوله، وليوسع فضاءات وعيه/ مداركه، ومن يستمع إليه وهو يلقي كلماته في الاحتفالات الاجتماعية، وفي بعض المناسبات الثقافية المختلفة، والتي يكتبها بنفسه ودون أن يعرف من هو،( أي المتكلم)، يدرك مباشرة أنه أمام شخص له صلة وصل وعشق بالثقافة، ولن يذهب إلى ظنه أنه أمام رجل أعمال ناجح.
إن موسوعة كتاب الهجرة عمل بحثي وأكاديمي رصين، عمل يجمع بين الريادية والموسوعية.. عمل بحثي استغرق إنجازه أكثر من سنة وتسعة أشهر متواصلة بين العمل البحثي/النظري/المكتبي وبين الجهد الميداني الاحصائي، حيث تنقل بعض أعضاء الفريق البحثي إلى بعض مناطق اليمن لتغطية هذا الجانب. وبدون أي مبالغة يمكنني القول إن الجانب الميداني بسعته التي غطاها هو الأول من نوعه في هذا الاتجاه، أقصد مجال بحث الهجرة.
كتاب الهجرة بأجزائه الثمانية هو جهد بحثي ريادي/موسوعي، عمل استراتيجي على مستوى قراءة وبحث ظاهرة الهجرة اليمنية، دخل في بحث تفاصيل اجتماعية واقتصادية وثقافية لها صلة بواقع حال المهاجرين اليمنيين ودورهم في التاريخ، هو اضافة نوعية رائدة نظرية/وميدانية، ومساهمة طيبة وفرت مادة ثرية/ خصبة لأي باحث يريد الكتابة عن اليمنيين والهجرة منذ القدم حتى يوم الناس هذا .. وطيلة هذه الرحلة الطويلة والشاقة من عمل فريق البحث الذي تفرع كليا لإنجاز هذا العمل بصبر فوق الاعتيادي، كان الاستاذ والصديق، علوان في قلب هذه المعمعة الجميلة الفريدة والنوعية، كان في قلبها يبدي بعض الملاحظات الجوهرية من بعيد وخاصة في اصراره الدائم والجميل الذي لم يتنازل عنه في أن يتمثل البعد والعمق الوطنيين في كل تفاصيل ومجريات هذا البحث. واتذكر أنه كان يتواصل مع البعض في مناطق البحث المختلفة في الداخل، وفي الخارج – وخاصة في الخارج – ويحفز الجميع لمزيد من المثابرة والهمة في اتجاه انجاز هذا الجهد، لم يكن مجرد ممول أو مستثمر يرجو عائد اقتصادي/مالي، بل كان حاضراً في بعض التفاصيل الصغيرة / الهامة، وكأنه يرى في العمل شيئاً من ذاته، شيئا كان ينقصه وأحب أن يكتمل به،فبادر،مع اصدقائه من الباحثين إلى إنجازه.
هكذا كان الاستثنائي/علوان مع بحث الهجرة الذي سيكون قريبا بين أيدي المهتمين من الباحثين ومن المختصين، وفي رفوف المكتبات في اليمن وخارجها.
إن جميع أعضاء فريق العمل البحثي الأساسي والفريق البحثي المساعد كانوا يلمسون دعواته لمشاركة المرأة بنسبة وازنة في مجريات العملية البحثية، ودائماً ما كان يصير على ذلك، وعلى أن تتخذ مشاركة المراة الصفة الوطنية اليمنية، لتشمل الجغرافية اليمنية، حتى تخرج صورة البحث متوازنة، وطنياً واجتماعياً، من خلال المشاركة الفاعلة للمرأة فيه.
شخصياً لم تتوقف اتصالاتي معه داخل البلاد وكذلك وهو في خارج البلاد، للسؤال عن المدى الذي وصلنا إليه؟ وكان يذلل أي مصاعب أمام الفريق البحثي، ويحث “مؤسسة الخير/ وقيادتها” على ذلك، وهم جماعة “علوانية”، في السلوك وفي الأداء، جميعهم كانوا مدركين لقيمة العمل الذي تقوم المؤسسة بإنجازه، مع أنه عمل جديد عليهم لم يتعودوه، ولكنهم كانوا في مستوى التحدي، وأنا متأكد أنهم استفادوا خبرة حياتية وقيماً ثقافية جديدة تضاف إلى معارفهم.. عمل لم يشاركوا في مثله من قبل وخاضوا غماره بكل جدارة إدارية ،وبكل الحب الذي يحتاجه انجاز البحث، من خلال انغماسهم المباشر/اليومي في المساعدة الفعلية في انجاز هذا العمل الجميل والكبير. بل وأستطيع القول أن كل الفريق البحثي الأساسي والفريق الآخر المساعد لعمل الفريق الأساسي قد استفادوا الكثير وأضافوا إلى خبراتهم ومعارفهم ومعلوماتهم الشيء الكثير. والشيء الجميل والمثير للإعجاب والاعتزاز أن الباحثين الشباب كانوا جميعاً فوق مستوى التوقعات.
شخصياً، استفدت منهم- الشباب- واتذكر أن الصديق د. أحمد الصايدي قال لي هذا الكلام أكثر من مرة ونحن في غمرة إدارة الورشة البحثية في “المجموعة الميدانية”، شباب جدد حداثيون في كل شيء: في الكتابة وفي السلوك وفي طريقة التفكير، يفكرون بطريقة مغايرة.. شباب من الباحثين وكذا من المختصين في البحث العلمي الذين شاركوا في انجاز هذا البحث من مختلف جامعات البلاد، وأخص بالذكر الباحثين من جامعات :
حضرموت وصنعاء وعدن وتعز، والحديدة، وإب، ومن مركز الدراسات والبحوث اليمني في صنعاء.
إن كتاب الهجرة بمجلداته المختلفة(الثمانية)، هو ثمرة عمل بحثي فردي وجماعي اشترك الجميع في انجازه واخراجه إلى حيز الوجود.. هو تظاهرة بحثية أكاديمية ثقافية، كانت أيام تتويجه الأكاديمية في ورشة العمل التي استمرت لثلاثة أيام متواصلة ومثلت صورة حية عن الهمة وروح المبادرة التي تملكت الجميع لإنجاح أيام هذه الورشة .. الورشة التي جمعت بين روح العمل البحثي وبين المصارحة والمكاشفة النقدية لبعض ما يجب أن يصوب ويصحح ويدقق فيه لاستكمال صورة البحث كما يجب أن يكون في حلته النهائية.. كان الجميع خلية نحل في الورشة البحثية عملوا جميعاً، موزعين إلى فرق بحث مختلفة اختصاصية، بدأب لاستعادة صورة وروح كل ما دار خلال السنة والتسعة الأشهر المنصرمة في تفاصيله الدقيقة.. تم التطرق فيها لأشياء صغيرة وكبيرة، كان الإستثنائي علوان حاضراً ومشاركاً في كل أيام الورشة مع الباحثين الاستثنائيين، وفي قلب التفاصيل ، يسمع النقد والنقد الآخر، الرأي والرأي الآخر ، أيام نسينا فيها وخلالها – ولو لفترة قصيرة – صعوبة بؤس الواقع المعاش، وكأننا في فسحة مع الأمل للبحث عن الذات، وعن الوعي، وعن مخارج مما نحن فيه. ولا أكون مخطئاً ومبالغاً إن قلت إن أيام الورشة البحثية، بكل صخبها الحواري والنقدي(البحثي)وما صاحبها من تصوبيات منهجية وعلمية/ أكاديمية، كانت تعني أننا نقترب من سؤال انجاز البحث، وكذلك من سؤال تجاوز الأزمة الوطنية الراهنة، ولكن من باب البحث والفكر والثقافة والبحث العلمي.
وكان قرار الفريق البحثي صائباً وعملياً ،بإنشاء “منصة”، بحثية/ إعلامية لمتابعة قضايا الهجرة والبحث العلمي حول الهجرة اليمنية، لتبقى قضية المهاجرين اليمنين، قضية متحركة، ومفتوحة على كل جديد في هذا الاتجاه، وهو ما نتمنى أن يتحول من قرار إلى فعل.
إن سؤال الهجرة ودور اليمنيين في التاريخ السياسي لبلادهم في التاريخ القديم، حتى الفتوحات الاسلامية وحتى العصر الحديث والمعاصر، وتعميرهم لبعض دول الجوار الذين يتنكرون لهم اليوم، هو ما انتج “الغضبة الشيبانية” حسب تعبير الصديق الشاعر/حسن عبدالوارث، والمطلوب منا أن يكون مثل هذا العمل حافزاً وملهما لنا لتجاوز المصاعب والتحديات التي نعيشها اليوم، ومن أن اليمنيين وحدهم وبقدراتهم الذاتية لقادرون على الانتقال ببلادهم إلى طور آخر/ جديد، إن أمسكوا باعنة إرادتهم بأيديهم، وبعقلهم الحر المستقل.
أتصور أن مثل هذا العمل البحثي الريادي والموسوعي يجب أن يطرح أمامنا سؤال كيفية استعادة ذلك الدور على كافة المستويات: من تنمية الإنسان إلى تنمية الاقتصاد ، إلى بناء الدولة، إلى تكريس وتعميق حضور فكرة “المواطنة الجامعة” التي هي اليوم عنوان تقدمنا السياسي والوطني والاجتماعي والثقافي والحضاري.
طرفان أنجزا هذا العمل البحثي الجميل الأول: صاحب الفكرة والدعوة، ومن تحمل هم وعبء المسؤولية المباشرة في طرح هذا المشروع للإنجاز على طريق تحوله من حلم/فكرة، إلى واقع.
والطرف الثاني: هم نخبة الباحثين الذين حملوا هم، كيف يحولون الفكرة إلى فعل كتابي/بحثي، يؤسس لمعنى شامل حول اليمنيين والهجرة، واشتغلوا على ذلك الهم/المعنى، طيلة سنة وتسعة أشهر، الباحثون الذين وجدوا في الفكرة وتنفيذها أنفسهم وعملوا بكل الجدية والجهد لتحويل الفكرة إلى مشروع مدون في صورة هذا العمل الريادي والموسوعي الجبار.
لقد أدرك الباحثون جميعاً أنهم بمثل هذه العمل إنما يطورون من أنفسهم بقدر ما ينمون وعي المجتمع بذاته، ووعي اليمنيين بتاريخهم ودورهم الحضاري، وبعظمة وجلال ذلك التاريخ، في هذا الزمن الصعب الذي تمر به البلاد.
جاء كتاب الهجرة في الوقت المناسب وليقول للجميع من أننا كيمنيين قادرون على الفعل إن امتلكنا إرادتنا بأيدينا وقادرون على ذلك وبأبسط الإمكانيات.
وبهذا المعنى فإنني أقرأ وأنظر إلى هذا العمل البحثي الريادي والموسوعي باعتباره الخطوة الأول لاستعادة دورنا في السياسة وفي الفكر وفي العمل الثقافي والحضاري. فما تم انجازه في صورة كتاب الهجرة هو عمل وطني وحدوي، هو عمل اجتهادي ذاتي يؤكد على أن اليمنيين إن توحدوا ووجهوا أبسط امكانياتهم باتجاه الأعمال المشتركة فإنهم قادرون على عمل الكثير وعلى جعل حالة الحرب خلفهم ، بدلاً من أن تقودهم – الحرب- إلى حيث لا قرار.
وختاماً أقول: إن أي عمل ريادي بهذا الحجم شبه الموسوعي، ستتخلله وتصاحبه نواقص شأن أي جهد إنساني كبير، وفقط، من لايعمل، هو من لايخطئ، وعذرنا كباحثين، أننا تجشمنا الدخول في هذا المشروع/ العمل الصعب، وفي الزمن الأصعب مع الاستثنائي/علوان، فاسمحوا لنا بحقنا في الاجتهاد وفي المبادرة.