فضاء حر

هذه حياتنا يا سادة..

يمنات

ماجد زايد

هنا شاب قُتل في الحرب قبل يومين، وأخر هرب من مدينتنا وإختفت أخباره كلها، ربما مات وربما أعتقل، وربما أكلته الطيور والضباع في صحراءها، وأخر همشته الحياة وأرغمته على الإستسلام والسقوط وجعلته يرضخ للسكوت والهروب، ليقضي حياته يبيع الماء والمناديل في الجولات بعد أن كان شعلة من الكلام والأوهام، وشاب أخر مازال يتخيل الأحلام والأمنيات بينما يلعن الحياة والوجود وكل ما فيهما، وأخرين سأخبركم عنهم كل شيء، ففي مدينتنا هده صار الشباب حيارى بهمومهم، ومختبئون في بيوتهم، يحاولون دائمًا التفكير والتماسك والمضي قدمًا، هكذا كل مساء، وعندما يأتي الصباح لا يجرؤون على الخروج والمحاولة مجددًا، أحدهم يبكي على رفيقه المقتول في كل مكان، يتذكره بعد أن قتلته الحرب في ثنايا إرغاماتها للشباب المنصاعون لها، يتخيله ويتذكر حياته مع رفيقه الجميل وصديقه الوحيد، يقول لي في لحظة الإنهيار; أريد أن أغادر، أريد النجاة من هذا الوطن، لا أريد الموت كـ محمد، لا أريد الذهاب للحرب لأبقى على قيد الحياة، كيف أستطيع النجاة من هذه الويلات أخبرني أرجوك؟ لا أحد يملك الإجابة، لا أحد، هذه الحقيقة التي أخبرته بها، وشاب أخر كان يطمح بأن يكون إعلاميًا ناجح، حاول الف مرة وبذل الطرق والوسائل لكنه إنصدم بحاجز الإحتكار ولوبي الحرب المتقاسم للفرص والمحاولات، في النهاية فقد وقرر المغادرة للعمل في السعودية، وفي طريق الهروب قُتل في الحدود بطريقة مجهولة، وبقيّ أسمه مفقودًا لا أحد يعلم عنه شيء، وشاب أخر كان في ما مضى جنديًا قويًا في القوات الخاصة، كان عسكريًا ومتعلمًا وذات بنية قوية، كان أمل أسرته الوحيد، ولأجلهم حاول بكل السبل للهروب من هذا الوطن المغلق والمحتكر لكنه فشل وخاب، وفي ذريق المحاولة إعتقلوه لسنوات في مأرب بتهمة الإنتماء للعدو، وفي النهاية أطلقوا سراحة وعاد الى مدينتنا خائبًا ضعيفًا ومكسورا، هو اليوم يعمل بصالون حلاقة ليكسب عيشه ويبقى على قيد الحياة مع أسرته، ومن الأيام لم يعد يطلب سوى أن يتركه الأمنيون والمخابراتيون في شأنه، لكنه يخاف كل يوم من تربصهم وشكوكهم حوله، هكذا يقول لي بحسرة الخاسرين والمنهزمين..

هنا مدينة حالكة الحياة، أيامها جميله وبشرها راضخون للخوف، وفي كل صباحاتها يصرخون لحضرة السلطان بالولاء، ويهللون بأسمه عقب كل صلاة، وقبل كل خطاب، وعند كل نهاية عامة يهتمفون فيها له صارخين، وبأصواتهم يعلنون الولاء، للنجاة مما حدث لهم، وللنأي بالذات من شكوك المتربصين، في مدينتنا هنا قبل أشهر أسرة حزينة مكلومة، قتل عائلها الشاب في الحرب مع الطرف الأخر، كانوا يموتون من الحزن عليه، ومع صورته يخافون أن يخبروا الأخرين بمصيبتهم، لكنهم من وقع قهرهم وأوجاعهم تجرأوا أخيرًا وقالوا للجميع لقد مات والدنا، وعلى حزنه سنقيم مأدبة غداء ومجلس عزاء هنا في منزلنا، وكما هي عادة الناس وترابطهم، ذهبوا لتعزية المكلومين بمصابهم، تناولوا الغداء وجلسوا يواسونهم في ذات المكان، كانوا بعدد الأصابع من قلتهم حينما قدموا واجبهم تجاه الأسرة الحزينة، ولكنهم وعلى غير ما توقعوه، تعرضوا للمساءلة والتحريض، ورفعت أسماءهم لحضرة السلطان وأنيابه في كل مكان، قالوا عنهم جميعًا دواعش ومرتزقة ومتعاونون مع العدوان، ومع الوساطات والضمانات تعهدوا بعدم تكرار ما حدث، وأقسموا أنهم لن يواسوا أي إنسان في هذا الوطن، ليمت من شاء، وليذهب الى الجحيم من أراد، فالعزاء صار جريمة وتعاونًا مع الأعداء، وأسرة أخرى أصيب نجلها الوحيد في المعارك، شاب جميل ومراهق صغير، فقد عينيه وتأثر دماغه وأقعد في مكانه، وصار عاجزًا عن الفعل والحراك، لقد أصابه حزن العالمين ومن قبلهم، وفي بقايا عيناه ظهر لون الحزن وصار بائنًا في الأحداق، مسكين هذا الشاب الصغير جعلت منه الحرب ضحيتها الحزين، صيرته شابًا يشفق عليه الجميع، ووالده الضعيف والنحيل أقسم أنه لا يريد المزيد من الأبناء، ليعش حياته مع زوجته وولده العاجز حتى يموتوا جميعًا، هذا قراره الأخير..

وشاب أخر، كان يمشي قرب الناس المتمجعين قرب خزان ماء السبيل، كان الجميع منشغلون بدبابهم الفارغة والماء القليل، إقترب منهم بصمت، ورأى أحدهم يحمل مسدسًا حول خصره، إتجه إليه مسرعًا، وبإحدى يديه أخذ المسدس في ربع ثانيه، وعمّره بكلنا يديه، وصوبه تجاه رأسه وأطلق على نفسه، وقتل ذاته بنفسه منتحرًا بكامل رغبته وإرادته، يومها أنهى حكايته ومأساة إنتظاره، لا تفاصيل أخرى، ليس بوسعكم البكاء عليه، لأنه قد نجى من حياته، وشاب أخر غادر قبل أعوام صوب مأرب، شاب صغير ويافع ولا يعي من الدنيا سوى عجز والده عن توفير لقمة العيش لإخوته، سافر والتحق بقوات الجيش هناك، كان يحاول أن يكسب راتبًا يرسله لوالده وأسرته كل شهر، لكنه خاب وإنصدم وتفاجئ بأنهم لم يقيدوا أسمه ضمن المقبولين، ولم يصبح جنديًا أو مرقمًا، أو رجلًا يتقاضى راتبًا من جهة حقيقية، مرت الأيام والأسابيع والشهور والسنوات، ولم يتمكن الشاب من إرسال ريال واحد لوالده المريض العاجز، تلاحقت الظروف وصار الوالد طريح الفراش من الفشل الكلوي، ونجله الشاب يبكي في معسكرات مأرب، كان يتحدث الي وهو يبكي ويقول: أرجوك إفعل شيء لوالدي، أعطه أي مبلغ، لم أعد أجرؤ على الإتصال به أو الحديث معه، كان يبكي بقهر ووجع العالمين، مسكين، لقد حمل الشاب على عاتقه الحياة بأسرها، مع أناس إنتمى إليهم للنجاة من الموت، لكنهم قتلوه قهرّا وعجزًا وخذلانًا، وهكذا حتى صار يفكر بالإنتحار، لأرى في حالته قبل أسابيع رثائًا حزينًا، كان يرثي أباه الذي مات من المرض، كان يصرخ ويقول; يا عالم، يا نااس، أبي مات من الفقر والمرض، أبي مات وترك أخوتي ليواجهون مصيرهم، أبي مات بعد أن خذلته لسنوات، أبي مااااااااااات، لن أسامح نفسي.. لا جديد في الحكاية، لقد إنتهت كأنها لم تحدث بعد.. وشاب أخر كان يقاتل مع الحـ وثي منذ سنوات، وخلالها كانوا يعطونه سلة غذائية نهاية كل شهر، ومنهم يحصل على مبلغًا ماليًا ضئيلًا كراتب شهري، لسنوات وهو يقاتل ويقدم رأسه فداءًا للغذاء والفتات من المال، وقبل أشهر عاد من الحرب الى أسرته في فترة مزاورته، عاد بسلاحه وراتبه القليل، ليجد والدته مريضه ومطروحة الفراش، أسعفها وحاول علاجها، وأتصل بأخرين ليقرضونه بعض المال، لكنه لم يجد، ليضطر ويرهن سلاحه، رهنه مقابل جزء من المال، وعالج والدته وعاد لقريته، ومضت الأيام وتلاحقت، وحينما قرر العودة للمعارك لم يجد وسيلة لإخراج سلاحه، عاد الى مشرفه بلا سلاح، لكنه رفضه وأقسم عليه أن يعود ليأتي بسلاحه أو يسجن، وبالفعل عاد الى بيته وقريته، ولم يتمكن من إعادة سلاحه، وبقي في منزله يعيش على موعد السلة الغذائية الشهرية، لكنه تفاجئ بأنهم أوقفوها عليه لأنه لم يعد للحرب معهم، تجاهلهم وقاوم لفترة وجيزة، ثم تواصل مع زملاءه ليضمنوه على غذاء أسرته، وبالفعل طلبوا منه تعهد بأن يعيد السلاح ويعود للحرب لأنهم يحتاجونه، عندها عاد للحرب وذهب للقتال وبلا سلاح، على أمل أن تعود السلة الغذائية لأسرته، إنطلق لأجل لقمة العيش، ذهب يومها للحرب وقتل هناك في أول أيامها، وعاد جثة محمولة لا يملك من الدنيا سوى سلاحه المرهون وعجزه عن إخراجه، وقبل أن يواروه المقبرة، طلبوا من أسرته أن يحاولوا إخراج السلاح ويعيدوه لأصحابه، هكذا وقد مات الشاب المرغم على الحرب والغياب، مات وإنتهت حكايته، هل تريدون المزيد من تفاصيلها، لن أخبركم ستموتون قهرًا وغبًا، وهذا الشيء لا ينقصكم..
هل أخبركم المزيد؟!

أقسم أن في رأسي مليون حكاية من روايات الحزن اليمنية، هل تريدون منها المزيد؟ فقط أخبروني، لأصب في قلوبكم أحزان الاف السنين..

هناك المزيد منها، أعدكم بهذا.. لقد تعهدت أن أكتب روايتنا وحكايتنا اليمنية في أبشع حكاياتها وأوجاعها وأحزانها، وبالرغم من كل شيء..

من حائط الكاتب على الفيسبوك

زر الذهاب إلى الأعلى