عزيز اليمن..
يمنات
ماجد زايد
في إحدى ليالي الشتاء اليمني، ليالي البرد والهدوء والشوارع الموصدة الاّ من عابريها، إتصل رئيس الوزراء اليمني آنذاك بصحفي وكاتب حكومي ليطمئن عليه، ويعتذر له عن تأخره في إعادة رواية كان قد إستعارها منه قبل أشهر، مبررًا ذلك بشغفه في قراءة فصولها كل ليلة قبل نومه، وفي ثنايا إتصاله طلب منه رواية أخرى ليعيد له الرواية السابقة.. كان هذا فخامة الرئيس عبدالعزيز عبدالغني إبان توليه رئاسة الوزراء من العام 96، هذا الفعل لم يكن بإحدى الدول المتقدمة في حضارتها وإنفتاحها وتواضع رجالها وقاداتها، لقد كان من رئيس حكومة الجمهورية اليمنية، رئيس تكنوقراط إستثنائي يعشق الفن والأدب والمسرح والمشي والحياة بنمطيتها الجمالية المبسطة، بعيدًا عن زخم المبالغات والتهويل السياسي من هالة رئيس يعرف جيدًا فروقات المسئولية وتبعاتها بين المنصب وإلتزاماته، والحياة وشغف ممارساتها وإندماجه فيها.
وفي ليلة أخرى، بإحدى الليالي اليمنية خلال الثمانينيات إتصل نائب رئيس الجمهورية العربية اليمنية آنذاك فخامة الأخ عبدالعزيز عبدالغني، بمصور هاوي ليخبره ‘فقط’ عن إعجابه بصورة -أبيض وأسود- كان قد إلتقطها ونشرها بإحدى الصحف المحلية عن إحدى مناطق اليمن الساحلية، يومها قال له: أنت فنان مبدع ولديك حس جميل، وبلادنا في هذه الفترات خصوصًا بحاجة لتوثيق أكثر ونشر معظم تفاصيل المجتمع والناس، كل التوفيق أيها الفنان، نشد على يديك لمزيد من الإبداع والجمال.. إنتهت المكالمة، وعاد نائب الرئيس الى حياته.. قد تستغربون بساطة هذه المواقف والسرديات والحكايات، لكتها حقائق وأفعال حدثت في تاريخنا السياسي اليمني والواقعي، عن رجال كانوا هنا وغادروا لننساهم ونترك ذكرياتهم، ثم نذهب عنهم بعيدًا في الحرب والتخويف.
لا أخفيكم، لقد تبحرث كثيرًا في البحث عن مأثر الرئيس عبدالعزيز عبدالغني، الرجل الذي لا يذكره أحد، ولا يطبل له أخرين، ولأجله ذهبت بعيدًا وبعيدًا في محاولات البحث عن أمل ناصع كان في حياتنا وزماننا رغم كل شيء، عن تجارب وخبرات وتعقيدات صاغها بطريقة نبيلة وحضارية ومتقدمة جدًا، مأثره وتجاربه وتفاصيل حياته خلال عقودٍ طويلة وحساسة من الممارسة السياسية والسلطوية في الواقع اليمني المتلاحق، لا أثر كبير أو كثير على المستوى التوثيقي، لا ذكريات، لا خطابات، لا لقاءات، لا متحدثين عن مسيرته التي إستمرت قرابة الخمسين عامًا، لا شيء أكثر من تعازي ونعي وبعض مقالات من هنا وهناك، هذا العدم الغريب يبدو ممنهجًا تجاه ماضيه وذكرياته، وهو ما تحول لديّ الى تحدي ومحاولة للبحث أكثر، وهنا سأسرد لكم بعضًا مما وصلت إليه، بلغة مبسطة وقريبة الى قلوب الناس البسيطة والمحبة والمنصفة، لغة وأحداث ستعكس صورة واضحة في عقول الجميع عن تاريخ طويل من الفعل والقيادة.
ذات يوم من العام 1968 حينما كان أبن حيفان -محافظة تعز- “عبدالعزيز عبدالغني” مديرًا للبنك اليمني للإنشاء والتعمير، طلب منه الرئيس إبراهيم الحمدي تولي وزارة الإقتصاد، ليتفاجأ من العرض ويتردد وبعتذر، لم يكن المنصب بالشيء البسيط عقب أحداث أغسطس آنداك، إعتذر بكامل إرادته وخشيته وطلب المسامحة والمغادرة من فخامة الرئيس، لكنه لم يتركه، ولم يقبل إعتذاره، وطلب منه مزيدًا من الوقت للحديث، ثم قال له: هل تظنني توليت السلطة والرئاسة بكامل رغبتي؟! خدمة اليمنيين وبناء دولتتهم في هذه الفترات الأصعب والأكثر تعقيدًا ليست وفق رغبات الأشخاص، بقدر ماهي تكليف علينا، ومهام يجب علينا أيضًا تحملها والقيام بها، ليس لك الحق في الإعتذار ونحن نحتاجك، وهذا البلد يحتاجك، واليمنيون جميعًا يثقون بك وبنا وينتظروننا كما وعدناهم، عليك أن تتولى وزارة الإقتصاد يا عبدالعزيز، فأنت أكثر الكفاءات التكنوقراط لدينا، وأنت أحد خريجي جامعات العالم المتقدمة، هذا ليس خيارك هذا واجبك الوطني العظيم، ستتولى الإقتصاد اليمني وفق برنامج اقتصادي يستند برؤية شاملة ترتكز على تنمية القطاعات الواعدة، كقطاع الزراعة والتعاونيات، وكمرتكز واضح للتنمية الاقتصادية المقبلة في اليمن، يومها وافق عبدالعزيز عبدالغني. وقبل المنصب، ليبدأ مسيرة الإنخراط ضمن مؤسسات الدولة وحسئولياتها الجمّة، ليعبر عنها لاحقًا حينما قال حد وصفه: كان التكليف في بداياتي على أساس أن تغيير الواقع اليمني يحتاج إلى نهج أكثر نشاطًا وأشد فعالية بدلًا من محاولة الهرب مما يحدث أو قبوله. في ذلك اليوم بدأ عبدالعزيز عبدالغني مسيرته الحافلة بالكثير من المناصب الكبيرة والحساسة.
الظروف المبنية على الحاجة والكفاءة آنذاك، صنعت من عبدالعزيز عبدالغني رجل دولة وصانع خدمات وسياسة وتكنوقراط، لا رجل سلطة وتنازاعات وتوافقات وحروب، بخلاف ما يصنعه الحُكم القادم على أساس سلالي، أو مناطقي، أو أسري، أو مذهبي، والفرق بين النوعين هنا يكمن في الأخلاق والوفاء والولاء الوطني الخالص لمنظومة الحكم والدولة، لا توجيهات وتوجهات الأشخاص وأحزابهم ومذاهبهم، القيادة الظرفية التي حدثت في حياة عزيز اليمن أدت وبلا شك دورًا فعالًا في تشكيل شكل السلطة بعدها، مع تلاحم كافة أشكال مناطقها وناسها، وخلقت انعطافات كبيرة ومؤثرة في حركة التاريخ وتشكيل المستقبل، هؤلاء القادة لم يخلقوا الظروف بل خلقتهم الظروف، فكان حسهم القيادي الدفين في إعماقهم تجاه الوطن والشعب مبنيًا على أساس المسئولية والأحقية، بمعنى القيادة التي تستند في وجودها على الاخلاق والكفاءة ولا سواهما، قال ذات مرة في معرض حديثه عن ضرورة الدولة الوجودية والحتمية عقب حرب الإنفصال بين الشطرين الشمالي والجنوبي: الحرب تملك قوّة سلب ونفي هائلة تجعل الفرد المواطن يتحقّق من أنّ وجوده يرتبط بكلّ أوسع وأنّ عالمه الخاص؛ أسرته وأمواله وممتلكاته، مرتبط ارتباطًا وثيقًا بسبب الوجود العامّ للدولة. ويمكن أن يندثر إذا لم يساهم في الدفاع عن وجود هذه الدولة.
لحسن الحظ، يمكن لبعض الأدب والفلسفة أن تساعدنا في فهم الماضي والواقع أكثر، وربما لإيجاد مخرج من هذه الفوضى التي وقعنا فيها، عبر دروس ونماذج من حياة السابقين، كعبدالغزيز عبدالغني، الرجل الذي شغل عبر سنوات حياته المتعاقبة أكثر من عشرين موقع وقيادة، معظمها في مناصب حساسة ورفيعة وبالغة التأثير، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى طبيعة علاقاته وسمعته وقَبلته الإستثنائية لدى كافة التيارات والتوجهات الحزبية والمناطقية والفئوية وبقية الأشكال والألوان، أذ لم يكن عدائيًا، أو سياسيًا مهاجمًا، أو إستعراضيًا، بقدر ما كان محبوبًا ومقبولًا لدى الجميع، مع ولاء وطني خالص للسلطة التي يمثلها ويعمل في ثناياها، دون أن يتراجع، أو يراوغ، أو يتلون، أو يتملق، أو يلعب على المتناقضات، سياسيًا خالصًا لتأدية واجبه، ومسئولياته ومهامة، وفي لحظات السلطة المعقدة، أو الفارضة لصراعًات وصدامات وإنقسامات كان ينسحب أو يعتذر ومن ثم يغادر، تمامًا بعد رفضه لاستمرار شخصه في إدارة الحكومة عقب ثلاث سنوات من حرب الإنفصال، في تلك الفترة الحرجة فضل أن يبقى في موقع استشاري ليساعد رأس السلطة في إدارته للدولة حينما صار رئيس المجلس الاستشاري اليمني، ومن ثم رئيس مجلس الشورى اليمني..
أخيرًا..
فخامة الرئيس عبدالعزيز عبدالغني كان رجلًا نادرًا، وفاعلًا صادقًا مع الله والشعب وقيادته في الدولة والحكومة وفق كفائته وأحقيته في تصدر قيادة الدولة، وحتى أخر لحظاته ظل وفيًا، مخلصًا، ناصحًا، وحدويًا ناصعًا، ورجلًا نظيفًا ومسالمًا، ومقرِبًا لوجهات النظر المتفاوتة والمتنازعة، الى أن سقط جريحًا بمصلى دار الرئاسة اليمنية، في ذلك اليوم المأساوي والكارثي، جنبًا الى جنب مع رأس الدولة ورجالاتها وبعض قياداتها العسكرية، في واحدة من أروع وأنصع حكايات الوفاء، والشرف والرجولة.
عزيز اليمن كان أحد مؤسسي الوحدة اليمنية، ومفاوضيها ومعلميها، وربما أول وأخر رجل تكنوقراط يمني شريف ونظيف.. له الخلود والسلام، وستبقى ذاكرته عامرة وناصعة في حياتنا، عن رجال كانوا يقودوننا بمواصفات تنافس أرقى دول العالم تقدمًا وتحضرا.
له الخلود والمحبة والبقاء.