العرض في الرئيسةفضاء حر

ارشيف الذاكرة .. الأمل المتصحر بالحرب

يمنات

أحمد سيف حاشد

أمل فتاة لازالت دون الـ 18 عام بقليل.. هي ورد وربيع.. حلم جميل مرّ من هنا ولم يغادر.. خيول وفرسان تنتصر دون حرب ولا ضحايا.. مملكة حب وعرش وملكة.. تاج وشمس.. مناسك عبادة وتبتل.. عشق متوهج ولوعة وحنين.

ممشوقة كرمح فارس، وألين من خيزرانة.. لطالما تمنيت أن أكون نبتة لبلاب أتسلقها ببطيء وهدوء في رحلة خلود تدوم.. تبدأ من قاع القدم لتبلغ وهج الشمس.. تستدير على القوام من القدمين إلى الخصر حتى تبلغ عنقها الذي يناديك لتشتعل، وتبدد ألف عتمة وتضيء ألف طريق.
لطالما تمنيت أقبّلها حد التماهي والكمال في غمرة الحب العميق.. أصلّي في مناسكها تهجد وتراويح ويوجا.. أطوف على عنقها ناسكاً متعبداً في عوالمها حتى أدوخ دهشة وذهول.. أقبل شفتيها وأسافر في روحها إلى الأقاصِ والآماد البعيدة.. لا ألذ من أن تسكر في الحب حتى تثمل، وتعرج بالروح إلى السموات العُلا!!

أمل فتاة يافعيه حميرية من اليمن.. حسنها لا يتلاشى ولا يزول.. الجمال مهما غمر واكتمل يظل ناقصاً دونها.. الحسن لا يكتمل ولا يتم مهما بذخ إلا بفيض سحرها.. رشاقتها تأسرك بلحظ حور.. خاصرتها مداراً لا شرود منه ولا تيه، باقيا يدور حتى آخر العمر.. عمرك مهما أمتد وأوغل في السنين يظل فوّارا بعنفوان الشباب الذي لا يبلى ولا يشيخ.

سمرتها خفيفة بصفاء وبهاء وجاذبية.. تدلف باب القلب كغيمة مطر.. شعرها من اسوداده وبرق زيته تتمنى أن تكون أسيراً في شباكه.. تتنفس عبقه عطرا عند السدول.. وفي نهارك تعبق جدائله مطراً وطين.. لو كان الليل مثل شعرها لكنت أول ساكنيه، ولو كان السواد مثل شعرها لكان يُعبد من زمن بعيد.

***

كل يوم تكتشف في روحها سر يذهلك، وجمال ينمو كل يوم تكتشف فيه ما غبت عنه، أو غاب عنك، وما كنت تجهله؛ فيبدو غيابك بلا حدود، وجهلك بلا قرار؛ فتعترف كم أنت في الحب قاصر وجاهل، حتى وأن صرت كهلاً، وبلغت في العلم حكمة.. شفافة روحها جاذبة كالمغناطيس.. مسكونة بثورة أنثى تنصهر فيها كسبيكة ذهب.

كنت ولوعا برؤيتها كلما أمكن.. أمعن النظر فيها وأغرف ما أستطيع خزنُه في الوجدان والذاكرة.. استزيد منها مددا لخيالي الذي لا يخبو ولا يخفت ولا ينطفئ.. يمنح الروح نشوة وتجددا وحياة.. أستلذ من شهدها المخزون في دوح خيالي حتى أدوخ وأغرق في العميق، وألقي عن كاهلي أحمالي الثقال.. أعوّض ما فات أو استحال أو كان عصياً على التحقيق أو صعب المنال.

كنت أهيم فيها، متيماً آتي إليها من بعيد لأراها، ولواعجي بين الضلوع تشتاق وتحترب، ولهفتي تسابق أنفاسي المربكة.. خطواتي تمردت على إيقاعها، وما اعتدتُ عليه في مشيتي.. وأقدامي تسابق وجهتي وتغلب موانعها الكديدة.. كتبتُ لها ما بنفسي من شوق ولوعة.. أحبك .. وبحتُ بما في شفاف روحي يصطلي.

وبعد امتناع وألف محاولة استقدمتها إلى منزلي، ولكني كبرتُ بقمع ذاتي وقهرتُ شهوتي، وتعاليتُ في شأنها بعفة نبي.. لم أسقط في محذور المنحدر.. لقد كانت لنا قصة لم تكتمل، ورغم ارتخاء الأرض تحت أقدامنا، وأقدامي التي كانت تمشي على ممشى زلق، إلا أنني لم أنزلق، ولم أقع في مهاوي السقوط.

***

قبل أحداث يناير بعام أو أقل، زرت عزبة أصدقائي في “كريتر”.. سمعتُ في الجوار ركض وضوضاء!! شاهدتها مسرعة تركض خلف أطفال صغار.. مرقت كحلم ندي.. رفّت كنسمة بحر أنعشت روحي الباحثة عن أمل وسط وجوم اليأس المشبّع بالفشل.. أحسست وكأن القدر بات عنّي راضياً، وفي وجهي أشرق وأبتسم.. بدت لي لحظة تدق باب من أمل.. ولادة تبدد خيبتي.. حب جديد يعوضني عمّا مضى.

كلما انتزعتُ من القدر فرصتي أو تأتت لي الظروف.. أزور عزبة أصدقائي لأجلها.. لأجلها أصلّي دونهم، ولا أطلب مغفرة.. أبحث عن فتاة أحبها.. أسكن شغاف قلبها.. أداري أشواقي داخلي، وأكتم لهفتي، حتّى لا يقطع البوح وما لا أعرفه أقدامي المثقلة بالحياء الندي، وحتى لا يفسدوا قصة حب ما زلتُ في أوله.

أريد أن أراها ثانية.. غزواتي تنتهي بخيبة تكبر وتتسع.. عيناي تحجرت هنا وتسمرت هناك على جدار وردهات المكان.. أخجل من نفسي ومن انتظار طال.. أشعر أن المكان يريد أن يحتلّني، وإن السماء بما رحبت تضيق بي وتستثقل بقائي في المكان.. ألعن خيباتي وأقداري.. وبعد يأس أكيد، وفي طريقي للمغادرة أنقذتني من يأسي صدفة بطلتها البهية.. “صدفة ويا محلى الصدف”.

خرجتُ من “العزبة” والشمس تجر ذيولها نحو الغروب، فيما هي أشرقت من على الحائط القريب من ممشاي.. كاد قلبي يقفز من مكانه في بغتة عين وهول مفاجأة.. وجهها متناسق يميل إلى استطالة، ينضح بوسامة أخَّاذة وغلو في الجاذبية.. آية من الحسن والجمال الآسر، وبرهان أكيد أن للكون خالق جميل ومحترف.

اعترتني حالة إرباك.. تملكتني الدهشة من أول وهلة.. توقفتُ برهة.. شل الذهول حركتي، تسمرت عيوني نحوها.. أمعنت فيما أنا فيه.. أردت أن يكون وقوفي ملفت لها، ومروري على غير كل من مر أمامها.. تمكنتُ من شد انتباهها وعلى النحو الذي أردت.

رمقتني عيونها بنظرات يحيّرها العجب.. كنت وكان أمري كما بدا عجب على عجب!! ربما كانت سابقة لا تعرف مثلها.. ضحكة مكتومة غالبت أغلالها.. اكتظ صدرها الناهد بها.. تكورت حتى طفحت للعلن.. تبدت على مبسميها ضحكة مقموعة بحيائها.

استحثثت أقدامي على أن تستأنف مشيها، فيما الثبات كان يشدُّها.. تعثرت قدماي.. كدت أقع من قامتي، وحبال من يديها إليها تشدّني.. بديت مأسورا وخطواتي طوع اليدين.. أمشي ببطء وكأن سيقاني غرقت في بلل وطين.. أستدير نحوها، وكأن رأسي في غوايتها رهين.. استودعتها قلبي المحب، والمتيم في حبها.

***

خامرني إحساس أن ثمة تشجيعاً منها يدعوني إلى الأعمق.. أحسست إن الصدفة أحيتني من يأس أمتد وتمدد في أرجائي.. كاد اليأس يحتل مداي.. مسحتُ من وجهي المتعب كدري، وما علق في وجهي من سأم وملل.. “أمل” أنستني ما بي من ضيق وضنك وكآبة.

في اليوم التالي وفي نفس الوقت مررت وبي شوقاً وحنيناً ورجاء.. وعلى نفس الحائط طلّت دهشه.. طلعتها تنبض سحراً.. نطقت روحي: يا إلهي.. أصبتُ مناي.. أمل يكبر.. قدرا أجمل.. حب يوعدني بأكثر.. وعد أشرق قبل غروب الشمس.

أسئلة العودة تداهمني: هل الحدس هو المرشد، أم مكتوب لحب يتحقق..؟! من قال لها أني سأعود؟! هل كانت تنتظر مجيئي في موعد دون وعد مسبق؟! أم رسالة كون ابتعثت لكلينا، أو إحساس أدرك شوقاً يتأجج فينا وحدد موعدنا؟! أم موعد شفاف تنادت له روحينا المشتاقة لبعض، ولقاء بات يقترب منّا ويدنوا؟!

إحساسي ينبيني بقصة حب تتخلّق.. تبدأ وتمضي إلى حب أكبر.. لحظات تغمرني بفيض سعادة.. القادم أجمل.. عامر بالحب وبفرح حافل.. هرعت إليها بعجل لافت وبخُطى تسابق بعض.. بدأت أهرول وهي ترمقني بدهشة وأنا أغلب خجلي، وأحدث نفسي: يجب أن لا أخجل هذه المرّة.. لن أهدر فرصة أخرى أبحث عنها.

أهدرتُ فرصاً ذهبت، وبقي ندمي يرفسني.. ذهبت عنّي فرصاً لا تتكرر.. أصلتني نارا وحمم ندم.. لن آبه بخجلي هذه المرة.. يجب أن لا تضيع سُداً.. عوضني قدري عمّا فات.. عمري مضي وفرصي أهدرها خجلي.. أعياني البحث عن حب يأويني إلى كنفه.. نزعت خجلي عني وهرولت كمجنون لا يأبه نحو القدر القادم.

بديت لها وكأني صقراً منقضاً نحو فريسته، أو ثوراً أسبانياً خرج من محبسه يبارز فارس.. تملّكها فزع وهلع.. أنخلع القلب المرعوب بأحمق.. توارت ذعراً.. عدتُ أحمل رأسي المثقوب بخيبة، وظهري المكسور بهزيمة.. لعنت نفسي وغبائي الفاحش.. لعنتُ عَجلي الأحمق.

***

عدتُ اليوم الثالث في موعدنا القدري.. كانت على السور تنتظر مجيئي لتفهم.. دق نياط قلبي شجاً، وعصافير قلبي تزغرد فرحاً.. حاولتُ أهدئ روعي وأتوازن ما أمكن، وفي قبضة يدي قصاصة كتبت فيها “احبك”.. صيرتها كالبرشام، وعندما صرت قريبا منها، ملت إليها قليلا ورميت به خلف السور..

توارت تبحث عن برشام الحب اللاعج.. ثم غابت ولم ترجع.. فيما سؤالي ظل يبحث عن رد!! ألم أعجبها؟! بدأ سؤالي يلح، وينقر رأسي كنقار خشب.. رأيت السور حزيناً بالفقدان تثقله الوحشة.. عيوني المصلوبة تبكيه دماً، وأنا أنعي نفسي، وأسأل: أصار السور حائط مبكى.. الحيرة تتلبسني من رأسي حتى أخمس قدميي.

أحترتُ بتصرفها.. غياب وغموض يبعث أسئلة دون جواب.. حاولت أصبّر نفسي وأقنعها لعل في الأمر خجل وحياء.. دهشة وذهول يحتاج لاستيعاب.. لا بأس من بعض الوقت لقبول أبحث عنه.. لا بأس من مُهلة تفكر فيها.. العجلة نوبة أحمق، والحب الناقص من طرف واحد تيم وهيام وعذاب.

لا بأس من يوم أخر ونرى الأمر بروية.. فسحة أمل لاعج باللهفة والشوق.. لنرى موعدنا القدري الرابع وما أعتدنا عليه.. طلت قبل مجيئي.. قبول لا يحتمل تفسيري غيره.. وسيبقى لديها فضول أن تعرف عنّي أكثر، وتظل أسئلة تبحث عن رد وتفاصيل شتى تبحث عنها.
بدأت أومي لها بيدي وألح.. أطلب منها أن تخرج.. خرجت بحارسها أخوها الأصغر.. حال الحارس من بوح ولقاء.. وما بقي لنا نظرات تتراشق بالود، وابتسامات خجلا مشتعلة بالألفة والشوق.

***

بعد طمأنينة وخوف زال.. خرجت بمفردها ترف جناحيها كحورية.. تتهادى وتموج بأنفاس البحر.. ألق نابض بالشوق العاشق.. الفضاء يتنفس عطراُ يتضوع منها، وفي نهديها شوق يتكور ويتحفّز لحبيب تبحث عنه، ونحر خيل يبحث عن فارس.

أوازيها في الممشى بخجل جم.. لا ألتفت إليها حتّى لا تدركنا الأعين.. أحدثها بصوت يتهدج خجلا.. أحدثها بأنفاس قلقة ومضطربة.. اعرّفها بنفسي، وأعترف لها ما فيني من شوق وهيام.. أنا إنسان لا يتعربد بالحب.. حبك بلغ في كياني حد الطغيان.

وكلام آخر فيه نُبل وشهامة.. حسن نوايا.. تطمين أكثر.. وضمير لا يفسده فساد الدنيا.. ينضح صدقاً ونقاء.. أخاف عليها وأحرص.. أحاول أراكم رصيد ثقة أكبر.. ولأن الوقت عزيزا.. الوقت يسابق بعضه.. وهي تستعجلني كصارم، طلبت منها بخجل أن تخرج ثانية إلى مكان آمن، نتحدث عن الحب بحرية وروية.

حددنا الساعة ومن أين تمر.. هناك “بوفية” بنصف مفتوح على شارع عام.. وجبات خفيفة وعصائر وشاي لعاشق يبحث عن حلمه.. مرت في الغد بعد تأخير طال.. خروج كان بصعوبة.. مرت ببهاء عروس.. قلبي ولهفي يسبقني.. منقاداً كمسحور إلى شارع فرعي، ثم إلى زقاق أضيق.. تحدثنا بقليل من بوح، وكثيراً من خوف وقلق.

والدها شديد القسوة، والتضييق يلازمها، والحراس معها كالظل، والأعذار قليلة جداً، وكلانا قليلي الحيلة.. مواعدنا أكثرها تتبدد دون لقاء.. نال الإخفاق أكثر منّا، والشوق يتبركن فينا، والخيبة تلاحقنا بضراوة، والإفلات منها معجزة لا ننساها.

مواعيد تبلى، وأخرى تحتاج أضعاف الوقت ليكون لنا فيها لقاء.. الخيبات تتكاثر.. يخيب الموعد بالمنع أو التضييق أو بسبب طارئ.. حب يزداد، وشوق يشتد، ومحاذير عدة تحاصرنا.. نتفرق ونتيه حتى يجمعنا الحائط، ثم نبدأ من أول وجديد.

الحب يتحدّى.. نغامر في الحب بعفاف ولقاءات تعبر كالريح، فيما عواصفنا تعصف فينا، والشوق يتأجج براكيناً، والعيب يمنعنا، ويحول دون تماهينا.. ولقاء عابر لا يكفينا.. أريد البوح حتى أثمل، أو أنزف بوحاً ويقينا.

أسميتها “بوفيه المحبة”، أستريح لها وأتذكرها.. حتى تلك الخيبات باتت اليوم معتّقة ومسكرة بذكرياتها في هذا العهد القاحل والمتصحِّر، والمشبع بالموت.. وإن قصدنا مواطنا أخرى نبحث عمن نحب، وجدناها مستنقعات مزدحمة بمستوطنات البعوض والطحالب والأوبئة.

في بوفية “المحبة” تعرّفت على كثير من الوجوه هناك.. اكتشفت أنني لست المحب الوحيد الذي ينتظر محبوبته فيها، بل وجدت كثيرين غيري ينتظرون فيها، ويلتقون بمن يحبون، ثم يغادرون لا أدري إلى أين!! كان أشهرهم شاعر مرموق ومذيعه مشهورة.

***

عندما انفجرت أحداث 13 يناير 1986 وجدت نفسي على مقربة بمن أحب.. جميل أن تجد نفسك في الحرب جوار الحبيب.. رائع أن تدير ظهرك للمتراس، وتوجه وجهك إلى وجه حبيبتك التي تلهمك السلام، وتنتظر منها طلة تكتحل عيناك بها، وتحول الحرب إلى حب تتمنى أن يطول.. لم أكترث بالحرب قدر اكتراثي بمن أحب.

الحب في الحرب سلام ودعة حد اليقين.. حياة جديرة أن نعيشها بسلام، غير أن أوامر المسؤول على المنطقة التي كنت متمركز فيها جاءت صارمة بالانتقال إلى مكان آخر.. انتقلت وأنا أمضغ خيبتي واستودعت قلبي عند الحبيب، ولم أنزلق إلى سفك قطرة دم واحدة.

بعد أحداث يناير زرت “بوفية المحبين”.. وجدت أبوابها مغلقة.. وجهها مجدور بالرصاص.. بدت كخرابة ينعق بها البوم.. تصحر الحب فيها وأجدب.. لا وعد فيها ولا لقاء ولا انتظار حبيب.

لم تعد الأيام كما كانت.. تزوجت حبيبتي أمل لشاب يمني مغترب في الإمارات.. ذبل الورد ويبست الأزهار، وسُفك الدم العزيز، وأنهزم الوطن، ولازال مهزوماً إلى اليوم..

تمزقت الروح وآلت الأحلام والآمال إلى بدد.. انتحر الشعر على بوابة الحلم الكبير، وغاب الشاعر عن حبيبته، ثم رحل وحيداً بداء عضال دون أن يجد من يساعده، وأصاب المصاب الجلل حبيبته التي أُعدم أخيها، وتم زج الآخر في المعتقل.

انتهت القصة هنا، ولم أعلم كيف انتهت قصة أمل مع حبيبها الجديد في الإمارات!!!

زر الذهاب إلى الأعلى