من مذكراتي .. من قصص الحب .. اعجاب وحب
يمنات
السلسلة السابعة عشر
إعجاب وحب
(1)
حبي الأول في عدن
خلال دراستي في ثانوية “البروليتاريا” أحببت فتاة من عدن.. جميلة ورقيقة وجاذبة.. كانت حبي الأول الذي لم تكتب له الأقدار نصيبا أو حتى لقاء عابر سبيل.. حب مشبوب باشتياقي المنفرد الذي استمر متأججاً دون انقطاع ثلاث سنوات طوال.. أنا أبن الريف المملوء بالحياء والمسكون بالخجل الوخيم.. اشتياقي يشتعل تحت طبقات صمتي بين الضلوع وأجنحتي المتكسّرة.. أنا المصلوب بخجلي الذي لا يبارى، ولا يوجد ما يضاهيه.
كنت أقطع المسافات الطوال من المدرسة إلى “قطيع عدن” لأراها فقط عندما تطل من بلكونة بيتها.. خمسة عشر كيلو متر أقطعها في الذهاب، ومثلها في الإياب، وبعض من هذه وتلك أقطعها راجلا بحذاء مهتري، وأعود من رحلتي ـ التي تشبه غزوة أو سفر ـ أما متوجا بالنصر والفرح إن رأيتها، أو مكسوراً ومهزوماً وحاملاً كُرب ألف منكوب إن لم تكتحل عيني بها.
بفارغ الصبر انتظر يوم الخميس، بقلب ولوع ووجدان مشتعل.. استعجل الأيام إلى يوم الخميس.. انتظره كمن ينتظر ليلة القدر أو “كريسميس” رأس السنة.. أخرج من سكني الداخلي في المدرسة وأقطع تلك المسافة لأراها فقط.
إن رأيتها يصيبني في الوهلة الأولى إرباك كوني يسري بفوضوية في جميع أوصالي وأرجائي.. ترتجف أطرافي وكأنها مسكونة بالعفاريت.. يُربك كياني بزلزال اضطراب واحتدام مشاعري.. استعيد بعضي بعد وهلة، فتداهمني دهشة بحجم السماء.. يتخلق فيني وجود آخر حافل بالعجب، وكأن انفجار كوني قد حدث وتولّد هذا الوجود الذي يزدحم ويكتظ داخلي.. ثم يتبدى أمامي كرنفال من الفرح بعد جزع ودهشة.. قلبي يرقص كمهرجان في الفضاء، ثم يهمي كالمطر.. لحظات كثيفة تحتدم في الوعي حتى شعرتُ أن لا أحد غيري يعيش مثلها، أو يمر بها في الدنيا سواي.
“بلكون” بيتها في الطابق الثاني، فيما بيت قريبنا مقابلها في الطابق الثالث.. انتظرها كثيرا حتى يحبِّر الانتظار شرفة قلبي المتيم.. أحاول أطل من النافذة كلما وجدت ثغرة للمرور في حقل ألغام العيون، أو فسحة أو فرصة في غفلة من الحضور.. أناور وانتظر.. قلبي يخفق وعيوني تلتاع وتضطرب في انتظار يطول معظم الأحيان.
تخرج لنشر أو جلب الثياب التي جفت على حبل الغسيل.. وأحياناً منتزهة متفتحة كأزهار الربيع.. تقف على السياج ملكة بكنز جمالها وتاجها وسحرها الذي يخطف الألباب والأفئدة، فيما عيوني تتوسل وتستجدي عيونها، وترتجى منها المدد.
إن لمحتها ومنعني محيطي من الطلول؛ أو أفسدت صدفتنا النحوس الباذخة.. أضطرب وألفت نظر من في الجوار، فأبدو وكأن الطير على رأسي وقف.. أحاول أن أداري اضطرابي وأجمع أشتات صوابي فيدركني الفشل؛ فأدّعي أنني معتري ومحموم المفاصل والجسد.. معركة صامته أخوضها في الآن نفسه على جبهتين.. الأولى مع نفسي المتحفزة بالشوق والمُربكة بالاضطراب، والثانية مع الحصار الذي يضربه عليّ من في الجوار.
عندما أراها أهفو إليها بجماح خيل في محبسه، مربوط إلى وتد من حديد.. ملجوما وممنوعا من الحراك والصهيل.. روحي تريد أن تغادرني وتتحرر من قيد الجسد.. أنا المكبل بقيودي واختناقي من ثقل الركام.. أنا الرازح تحت ركام العيب أكثر من ألف عام.. خجلي ووجلي أثقلا كاهلي.. انتظرها على صفيح ساخن لأختلس نظرة محب أظناه الهوى.. استجدي منها لفتة أو رشقة حور.. آه يا قلبي المحب كم حملت من الحب الذي تيم صاحبه، وكم عانيت من العذاب والصبر الثقيل!!
أراقبها حتى تغبش عيوني المتعبة.. انتظرها ساعات طوال، فإن ظفرت بنظرة منها، أقع أنا وقلبي من سابع سماء.. تبرق سحبي وتمطر سماء قلبي بمزن البهجة والفرح.. وترقص روحي كطفل تحت المطر.
ثلاث سنوات أتلوع بها.. غارقاً إلى شعر رأسي في حبها.. وهي لم تدرِ ولم تعلم بحبي لها إلا قبل رحيلها ببرهة زمن.. ثلاث سنوات ذهبت سدى؛ فما عساي وما عسانا أن نفعل عند ساعات الرحيل؟!! فات القطار .. فات القطار.. قال الشاعر: “وأوجع ما في القطار الفوات”.. يبست الأحلام الندية في مدرات الفراغ.. يا لخيبة رجائي التي ابتلعت أرجائي وأبعادي الأربعة، وقبلها أنا وحبي المُنتحب.
يا لحظّي الذي أدركته تعاسة وخيبة كل الحظوظ.. قلبت لي الأرض المجن، وأدارت لي السماء قفاها المبتئس، وعواثري بحوافر وحشية رفست أزهاري الجميلة بألف رفسه.. بلعت الخيبة آمالي العراض.. صرتُ مُشبع بالوهم حتى صار الوهم على الوهم مصاب جلل.. يا لخسراني المبين!! لا عزاء للمُصاب.. رحلت هي إلى الأبد وأقام في روحي الكمد.
أقداري راكمتني بخيباتها، واستكثرت أن ألتقي يوما بها.. صادر النحس الصُدف، وتخلّت عنّي كل الحظوظ السعيدة.. ثلاث سنوات طوال وحبي الجم ملجوما ومحبوسا ومكبوسا في أعماقي السحيقة، مسيجا بكتمانه الشديد، وبالعوازل والحديد.. يا لقهقه تشبه انفجار الحزن في أعماقي السحيقة.
غادرت مع أهلها حي “القطيع”.. كل الطرق تؤدي إلى “روما”، غير أن “روميتي” لا أثر لها.. لا دليل ولا طريق.. تقطعت كل السبل في متاه المستحيل.. فألهمتني بوحاً في التمرد، وثورتني في وجه الغياب.
حد العصيان أحببتها.. اجتاحني تسونامي حبها، واجتاحني معه الفشل الذريع.. احتشدت في وجهي قرارات الاتهام وسبابات الأصابع حين قالت: من هنا مر الفشل.. ثارت ثورتي وتمردي.. أجتاح الكفر البواح كفر النعمة والمجاز.. تمردت حياتي على مسلماتي الكاسحة، وثارت الأسئلة في وجه الرتابة والثوابت والغياب؛ فكتبت على لوح نافذة غرفة سكني الداخلي ما بلغ إليه تمردي، ووجعي الذي باح بكاتمي.. ورغم فداحة خيبتي والمصاب، إلا إنها منحتني الأهم.. فقد أصابت ثورتي رأس الحقيقة أو بعضها.
خانتني شجاعتي، ولم أجروا على السؤال!! ما اسمها؟! أثقل العيب كواهلي، وصيرني ركاما من حطام.. جمعتُ أشتات شجاعتي من الدنا والأقاص، في وجه خجلي العرمرم؛ ثم سألت ابن قريبنا عن اسمها؛ فأجابني.. خانني السمع وتوسدنِ الخجل.. لم أجروا على السؤال ثانية.. يا لخذلان وعطب الذاكرة.. هل اسمها ليندا؟!! أم اسمها رنده..؟!! هل ينتهي اسمها بألف أم بياء مقصورة أم بهاء ؟!! لطالما ألتبس عليّ اسمها دون أن أرسي إلى مرسى أو استقر على اسم ضاعت مني أحرفه!!
انقضى عهد وسنوات طوال.. وبقي الحنين ممانعا عني الرحيل.. أسميت أحدى بناتي رنده، والأخرى ليندا تحوطا ومداركة.. هكذا هو جنون الحب الذي لا ندركه.. يا للحنين المقاوم لنسياننا.. والصامد في وجه السنين الطوال مهما تقادمت.. يا للحنين الذي يأبى أن يموت أو ينطفئ.
كم أنا “خائن” في الحب يا زوجتي وحبيبتي، وكم هو عمري مكللا بـ “الخيانة”.. لا تغضبين، فأنت البقية الباقية.. أنت العشرة الطويلة وما بقى لي في حياتي الباقية.. حبّنا الأكيد باقٍ وعشرتنا الطويلة لطالما أمتحنها الزمان ألف مرّة.. صمدنا في وجه أحداث كبار وخضات كثيرة.. عبرنا حروب وصمدنا في وجه الأخيرة التي صارت أهوالها أكبر من أهوال يوم القيامة.. كم أنا بشر يا زوجتي وبناتي العزيزات.. اجعلن من الصفح والغفران والعفو الكريم مسك ختام حتى تسكن وترتاح روحي المتعبة.
***
(2)
الأمل المتصحّر بالحرب
أمل فتاة لازالت دون الـ 18 عام بقليل.. هي ورد وربيع.. حلم جميل مرّ من هنا ولم يغادر.. خيول وفرسان تنتصر دون حرب ولا ضحايا.. مملكة حب وعرش وملكة.. تاج وشمس.. مناسك عبادة وتبتل.. عشق متوهج ولوعة وحنين.
ممشوقة كرمح فارس، وألين من خيزرانة.. لطالما تمنيت أن أكون نبتة لبلاب أتسلقها ببطيء وهدوء في رحلة خلود تدوم.. تبدأ من قاع القدم لتبلغ وهج الشمس.. تستدير على القوام من القدمين إلى الخصر حتى تبلغ عنقها الذي يناديك لتشتعل، وتبدد ألف عتمة وتضيء ألف طريق.
لطالما تمنيت أقبّلها حد التماهي والكمال في غمرة الحب العميق.. أصلّي في مناسكها تهجد وتراويح ويوجا.. أطوف على عنقها ناسكاً متعبداً في عوالمها حتى أدوخ دهشة وذهول.. أقبل شفتيها وأسافر في روحها إلى الأقاصِ والآماد البعيدة.. لا ألذ من أن تسكر في الحب حتى تثمل، وتعرج بالروح إلى السموات العُلا!!
أمل فتاة يافعيه حميرية من اليمن.. حسنها لا يتلاشى ولا يزول.. الجمال مهما غمر واكتمل يظل ناقصاً دونها.. الحسن لا يكتمل ولا يتم مهما بذخ إلا بفيض سحرها.. رشاقتها تأسرك بلحظ حور.. خاصرتها مداراً لا شرود منه ولا تيه، باقيا يدور حتى آخر العمر.. عمرك مهما أمتد وأوغل في السنين يظل فوّارا بعنفوان الشباب الذي لا يبلى ولا يشيخ.
سمرتها خفيفة بصفاء وبهاء وجاذبية.. تدلف باب القلب كغيمة مطر.. شعرها من اسوداده وبرق زيته تتمنى أن تكون أسيراً في شباكه.. تتنفس عبقه عطرا عند السدول.. وفي نهارك تعبق جدائله مطراً وطين.. لو كان الليل مثل شعرها لكنت أول ساكنيه، ولو كان السواد مثل شعرها لكان يُعبد من زمن بعيد.
***
كل يوم تكتشف في روحها سر يذهلك، وجمال ينمو كل يوم تكتشف فيه ما غبت عنه، أو غاب عنك، وما كنت تجهله؛ فيبدو غيابك بلا حدود، وجهلك بلا قرار؛ فتعترف كم أنت في الحب قاصر وجاهل، حتى وأن صرت كهلاً، وبلغت في العلم حكمة.. شفافة روحها جاذبة كالمغناطيس.. مسكونة بثورة أنثى تنصهر فيها كسبيكة ذهب.
كنت ولوعا برؤيتها كلما أمكن.. أمعن النظر فيها وأغرف ما أستطيع خزنُه في الوجدان والذاكرة.. استزيد منها مددا لخيالي الذي لا يخبو ولا يخفت ولا ينطفئ.. يمنح الروح نشوة وتجددا وحياة.. أستلذ من شهدها المخزون في دوح خيالي حتى أدوخ وأغرق في العميق، وألقي عن كاهلي أحمالي الثقال.. أعوّض ما فات أو استحال أو كان عصياً على التحقيق أو صعب المنال.
كنت أهيم فيها، متيماً آتي إليها من بعيد لأراها، ولواعجي بين الضلوع تشتاق وتحترب، ولهفتي تسابق أنفاسي المربكة.. خطواتي تمردت على إيقاعها، وما اعتدتُ عليه في مشيتي.. وأقدامي تسابق وجهتي وتغلب موانعها الكديدة.. كتبتُ لها ما بنفسي من شوق ولوعة.. أحبك .. وبحتُ بما في شفاف روحي يصطلي.
وبعد امتناع وألف محاولة استقدمتها إلى منزلي، ولكني كبرتُ بقمع ذاتي وقهرتُ شهوتي، وتعاليتُ في شأنها بعفة نبي.. لم أسقط في محذور المنحدر.. لقد كانت لنا قصة لم تكتمل، ورغم ارتخاء الأرض تحت أقدامنا، وأقدامي التي كانت تمشي على ممشى زلق، إلا أنني لم أنزلق، ولم أقع في مهاوي السقوط.
***
قبل أحداث يناير بعام أو أقل، زرت عزبة أصدقائي في “كريتر”.. سمعتُ في الجوار ركض وضوضاء!! شاهدتها مسرعة تركض خلف أطفال صغار.. مرقت كحلم ندي.. رفّت كنسمة بحر أنعشت روحي الباحثة عن أمل وسط وجوم اليأس المشبّع بالفشل.. أحسست وكأن القدر بات عنّي راضياً، وفي وجهي أشرق وأبتسم.. بدت لي لحظة تدق باب من أمل.. ولادة تبدد خيبتي.. حب جديد يعوضني عمّا مضى.
كلما انتزعتُ من القدر فرصتي أو تأتت لي الظروف.. أزور عزبة أصدقائي لأجلها.. لأجلها أصلّي دونهم، ولا أطلب مغفرة.. أبحث عن فتاة أحبها.. أسكن شغاف قلبها.. أداري أشواقي داخلي، وأكتم لهفتي، حتّى لا يقطع البوح وما لا أعرفه أقدامي المثقلة بالحياء الندي، وحتى لا يفسدوا قصة حب ما زلتُ في أوله.
أريد أن أراها ثانية.. غزواتي تنتهي بخيبة تكبر وتتسع.. عيناي تحجرت هنا وتسمرت هناك على جدار وردهات المكان.. أخجل من نفسي ومن انتظار طال.. أشعر أن المكان يريد أن يحتلّني، وإن السماء بما رحبت تضيق بي وتستثقل بقائي في المكان.. ألعن خيباتي وأقداري.. وبعد يأس أكيد، وفي طريقي للمغادرة أنقذتني من يأسي صدفة بطلتها البهية.. “صدفة ويا محلى الصدف”.
خرجتُ من “العزبة” والشمس تجر ذيولها نحو الغروب، فيما هي أشرقت من على الحائط القريب من ممشاي.. كاد قلبي يقفز من مكانه في بغتة عين وهول مفاجأة.. وجهها متناسق يميل إلى استطالة، ينضح بوسامة أخَّاذة وغلو في الجاذبية.. آية من الحسن والجمال الآسر، وبرهان أكيد أن للكون خالق جميل ومحترف.
اعترتني حالة إرباك.. تملكتني الدهشة من أول وهلة.. توقفتُ برهة.. شل الذهول حركتي، تسمرت عيوني نحوها.. أمعنت فيما أنا فيه.. أردت أن يكون وقوفي ملفت لها، ومروري على غير كل من مر أمامها.. تمكنتُ من شد انتباهها وعلى النحو الذي أردت.
رمقتني عيونها بنظرات يحيّرها العجب.. كنت وكان أمري كما بدا عجب على عجب!! ربما كانت سابقة لا تعرف مثلها.. ضحكة مكتومة غالبت أغلالها.. اكتظ صدرها الناهد بها.. تكورت حتى طفحت للعلن.. تبدت على مبسميها ضحكة مقموعة بحيائها.
استحثثت أقدامي على أن تستأنف مشيها، فيما الثبات كان يشدُّها.. تعثرت قدماي.. كدت أقع من قامتي، وحبال من يديها إليها تشدّني.. بديت مأسورا وخطواتي طوع اليدين.. أمشي ببطء وكأن سيقاني غرقت في بلل وطين.. أستدير نحوها، وكأن رأسي في غوايتها رهين.. استودعتها قلبي المحب، والمتيم في حبها.
***
خامرني إحساس أن ثمة تشجيعاً منها يدعوني إلى الأعمق.. أحسست إن الصدفة أحيتني من يأس أمتد وتمدد في أرجائي.. كاد اليأس يحتل مداي.. مسحتُ من وجهي المتعب كدري، وما علق في وجهي من سأم وملل.. “أمل” أنستني ما بي من ضيق وضنك وكآبة.
في اليوم التالي وفي نفس الوقت مررت وبي شوقاً وحنيناً ورجاء.. وعلى نفس الحائط طلّت دهشه.. طلعتها تنبض سحراً.. نطقت روحي: يا إلهي.. أصبتُ مناي.. أمل يكبر.. قدرا أجمل.. حب يوعدني بأكثر.. وعد أشرق قبل غروب الشمس.
أسئلة العودة تداهمني: هل الحدس هو المرشد، أم مكتوب لحب يتحقق..؟! من قال لها أني سأعود؟! هل كانت تنتظر مجيئي في موعد دون وعد مسبق؟! أم رسالة كون ابتعثت لكلينا، أو إحساس أدرك شوقاً يتأجج فينا وحدد موعدنا؟! أم موعد شفاف تنادت له روحينا المشتاقة لبعض، ولقاء بات يقترب منّا ويدنوا؟!
إحساسي ينبيني بقصة حب تتخلّق.. تبدأ وتمضي إلى حب أكبر.. لحظات تغمرني بفيض سعادة.. القادم أجمل.. عامر بالحب وبفرح حافل.. هرعت إليها بعجل لافت وبخُطى تسابق بعض.. بدأت أهرول وهي ترمقني بدهشة وأنا أغلب خجلي، وأحدث نفسي: يجب أن لا أخجل هذه المرّة.. لن أهدر فرصة أخرى أبحث عنها.
أهدرتُ فرصاً ذهبت، وبقي ندمي يرفسني.. ذهبت عنّي فرصاً لا تتكرر.. أصلتني نارا وحمم ندم.. لن آبه بخجلي هذه المرة.. يجب أن لا تضيع سُداً.. عوضني قدري عمّا فات.. عمري مضي وفرصي أهدرها خجلي.. أعياني البحث عن حب يأويني إلى كنفه.. نزعت خجلي عني وهرولت كمجنون لا يأبه نحو القدر القادم.
بديت لها وكأني صقراً منقضاً نحو فريسته، أو ثوراً أسبانياً خرج من محبسه يبارز فارس.. تملّكها فزع وهلع.. أنخلع القلب المرعوب بأحمق.. توارت ذعراً.. عدتُ أحمل رأسي المثقوب بخيبة، وظهري المكسور بهزيمة.. لعنت نفسي وغبائي الفاحش.. لعنتُ عَجلي الأحمق.
***
عدتُ اليوم الثالث في موعدنا القدري.. كانت على السور تنتظر مجيئي لتفهم.. دق نياط قلبي شجاً، وعصافير قلبي تزغرد فرحاً.. حاولتُ أهدئ روعي وأتوازن ما أمكن، وفي قبضة يدي قصاصة كتبت فيها “احبك”.. صيرتها كالبرشام، وعندما صرت قريبا منها، ملت إليها قليلا ورميت به خلف السور..
توارت تبحث عن برشام الحب اللاعج.. ثم غابت ولم ترجع.. فيما سؤالي ظل يبحث عن رد!! ألم أعجبها؟! بدأ سؤالي يلح، وينقر رأسي كنقار خشب.. رأيت السور حزيناً بالفقدان تثقله الوحشة.. عيوني المصلوبة تبكيه دماً، وأنا أنعي نفسي، وأسأل: أصار السور حائط مبكى.. الحيرة تتلبسني من رأسي حتى أخمس قدميي.
أحترتُ بتصرفها.. غياب وغموض يبعث أسئلة دون جواب.. حاولت أصبّر نفسي وأقنعها لعل في الأمر خجل وحياء.. دهشة وذهول يحتاج لاستيعاب.. لا بأس من بعض الوقت لقبول أبحث عنه.. لا بأس من مُهلة تفكر فيها.. العجلة نوبة أحمق، والحب الناقص من طرف واحد تيم وهيام وعذاب.
لا بأس من يوم أخر ونرى الأمر بروية.. فسحة أمل لاعج باللهفة والشوق.. لنرى موعدنا القدري الرابع وما أعتدنا عليه.. طلت قبل مجيئي.. قبول لا يحتمل تفسيري غيره.. وسيبقى لديها فضول أن تعرف عنّي أكثر، وتظل أسئلة تبحث عن رد وتفاصيل شتى تبحث عنها.
بدأت أومي لها بيدي وألح.. أطلب منها أن تخرج.. خرجت بحارسها أخوها الأصغر.. حال الحارس من بوح ولقاء.. وما بقي لنا نظرات تتراشق بالود، وابتسامات خجلا مشتعلة بالألفة والشوق.
***
بعد طمأنينة وخوف زال.. خرجت بمفردها ترف جناحيها كحورية.. تتهادى وتموج بأنفاس البحر.. ألق نابض بالشوق العاشق.. الفضاء يتنفس عطراُ يتضوع منها، وفي نهديها شوق يتكور ويتحفّز لحبيب تبحث عنه، ونحر خيل يبحث عن فارس.
أوازيها في الممشى بخجل جم.. لا ألتفت إليها حتّى لا تدركنا الأعين.. أحدثها بصوت يتهدج خجلا.. أحدثها بأنفاس قلقة ومضطربة.. اعرّفها بنفسي، وأعترف لها ما فيني من شوق وهيام.. أنا إنسان لا يتعربد بالحب.. حبك بلغ في كياني حد الطغيان.
وكلام آخر فيه نُبل وشهامة.. حسن نوايا.. تطمين أكثر.. وضمير لا يفسده فساد الدنيا.. ينضح صدقاً ونقاء.. أخاف عليها وأحرص.. أحاول أراكم رصيد ثقة أكبر.. ولأن الوقت عزيزا.. الوقت يسابق بعضه.. وهي تستعجلني كصارم، طلبت منها بخجل أن تخرج ثانية إلى مكان آمن، نتحدث عن الحب بحرية وروية.
حددنا الساعة ومن أين تمر.. هناك “بوفية” بنصف مفتوح على شارع عام.. وجبات خفيفة وعصائر وشاي لعاشق يبحث عن حلمه.. مرت في الغد بعد تأخير طال.. خروج كان بصعوبة.. مرت ببهاء عروس.. قلبي ولهفي يسبقني.. منقاداً كمسحور إلى شارع فرعي، ثم إلى زقاق أضيق.. تحدثنا بقليل من بوح، وكثيراً من خوف وقلق.
والدها شديد القسوة، والتضييق يلازمها، والحراس معها كالظل، والأعذار قليلة جداً، وكلانا قليلي الحيلة.. مواعدنا أكثرها تتبدد دون لقاء.. نال الإخفاق أكثر منّا، والشوق يتبركن فينا، والخيبة تلاحقنا بضراوة، والإفلات منها معجزة لا ننساها.
مواعيد تبلى، وأخرى تحتاج أضعاف الوقت ليكون لنا فيها لقاء.. الخيبات تتكاثر.. يخيب الموعد بالمنع أو التضييق أو بسبب طارئ.. حب يزداد، وشوق يشتد، ومحاذير عدة تحاصرنا.. نتفرق ونتيه حتى يجمعنا الحائط، ثم نبدأ من أول وجديد.
الحب يتحدّى.. نغامر في الحب بعفاف ولقاءات تعبر كالريح، فيما عواصفنا تعصف فينا، والشوق يتأجج براكيناً، والعيب يمنعنا، ويحول دون تماهينا.. ولقاء عابر لا يكفينا.. أريد البوح حتى أثمل، أو أنزف بوحاً ويقينا.
أسميتها “بوفيه المحبة”، أستريح لها وأتذكرها.. حتى تلك الخيبات باتت اليوم معتّقة ومسكرة بذكرياتها في هذا العهد القاحل والمتصحِّر، والمشبع بالموت.. وإن قصدنا مواطنا أخرى نبحث عمن نحب، وجدناها مستنقعات مزدحمة بمستوطنات البعوض والطحالب والأوبئة.
في بوفية “المحبة” تعرّفت على كثير من الوجوه هناك.. اكتشفت أنني لست المحب الوحيد الذي ينتظر محبوبته فيها، بل وجدت كثيرين غيري ينتظرون فيها، ويلتقون بمن يحبون، ثم يغادرون لا أدري إلى أين!! كان أشهرهم شاعر مرموق ومذيعه مشهورة.
***
عندما انفجرت أحداث 13 يناير 1986 وجدت نفسي على مقربة بمن أحب.. جميل أن تجد نفسك في الحرب جوار الحبيب.. رائع أن تدير ظهرك للمتراس، وتوجه وجهك إلى وجه حبيبتك التي تلهمك السلام، وتنتظر منها طلة تكتحل عيناك بها، وتحول الحرب إلى حب تتمنى أن يطول.. لم أكترث بالحرب قدر اكتراثي بمن أحب.
الحب في الحرب سلام ودعة حد اليقين.. حياة جديرة أن نعيشها بسلام، غير أن أوامر المسؤول على المنطقة التي كنت متمركز فيها جاءت صارمة بالانتقال إلى مكان آخر.. انتقلت وأنا أمضغ خيبتي واستودعت قلبي عند الحبيب، ولم أنزلق إلى سفك قطرة دم واحدة.
بعد أحداث يناير زرت “بوفية المحبين”.. وجدت أبوابها مغلقة.. وجهها مجدور بالرصاص.. بدت كخرابة ينعق بها البوم.. تصحر الحب فيها وأجدب.. لا وعد فيها ولا لقاء ولا انتظار حبيب.
لم تعد الأيام كما كانت.. تزوجت حبيبتي أمل لشاب يمني مغترب في الإمارات.. ذبل الورد ويبست الأزهار، وسُفك الدم العزيز، وأنهزم الوطن، ولازال مهزوماً إلى اليوم..
تمزقت الروح وآلت الأحلام والآمال إلى بدد.. انتحر الشعر على بوابة الحلم الكبير، وغاب الشاعر عن حبيبته، ثم رحل وحيداً بداء عضال دون أن يجد من يساعده، وأصاب المصاب الجلل حبيبته التي أُعدم أخيها، وتم زج الآخر في المعتقل.
انتهت القصة هنا، ولم أعلم كيف انتهت قصة أمل مع حبيبها الجديد في الإمارات!!!
***
(3)
“نور” اللحجية
في سنة أولى من كلية الحقوق كانت نور الأكثر جمالا ودهشة بين الجميع.. نور تنتمي لمحافظة لحج.. لم أكن أعلم أن في لحج كل هذا الجمال الغامر، وهذا السحر المبين الذي يملا المحيط ويفيض.. جمالها يسلب الألباب والأفئدة، ويجردنا من كل سلاح ومقاومة؛ لنأتي إليها طائعين خانعين مستسلمين.
ما كل هذا الضعف الذي بات يعتريني، ويستولى على كل شيء فيني يا الله.. جمال لا أقوى على تحدّيه، بل لطالما كشف مدى ضعفي وهشاشتي التي باتت لا تحتمل نسمة هواء حتى تخور وتنهار ركاماً من حطام.
أختلس النظرة من نور كلص، وبقلب مرتجف.. أنا أكره أفعال اللصوص يا الله؛ فلماذا تحولني إلى لص رعديد؟! هذا الجمال الفارط صيرني خائفاً ومتيماً، وأنا الذي أثور على نفسي على أن أكون جباناً أو ذليلاً.. أنا المتيم بنور، وقد صرت مملوكاً لها، وعلى وجهي أهيم.. لقد صارت سيدتي ولها فصل الكلام؛ فهل تقبل عبوديتي إلى الأبد؟؟
أعشق الحرية حد الموت، ولكن هذا الجمال المفرط بات يستعبدني.. جمال يمارس طغيانه، حتى حولنّي إلى عبد خائف مرتعد؟! أنا المدموغ بالإنكار، ولكن في حضرة مثل هذا الجمال أذعن، وأعترف أن جمالها حجة الله الدامغة على وجوده في الأرض الذي يهتز قلبي من شدته.
أستفتح بها كل صباح.. أتفاءل بقدومها وأعيش بأمل منتعش.. انتظرها ساعات طوال لاغتنم لحظة في غفلة زمن مدجج بالعيون؛ لأختلس نظرة تلتاع بشوق كالحريق.. كل العيون ترمقها بجرأة إلا خجلي ينتظرها ساعات طوال ليغتنم لحظة بلمح البصر، وخلسة من رقابة كل العيون.. أشعر أن العيون كلها راصدة، تراقب كل شيء، وتعدم أمامي خلستي الفاشلة في معظم الأحيان.
عيوني المتعبة تتحيّن غفلة لتقترب من ملكوت أبتغيه.. أنا محب ولست شيطاناً رجيماً.. أريد أن أدنو وأقترب لاسترق نظرة أو أسمع كلمة في غفلة الشهب حارسة السماء.. أستلهم الوحي والعلم والسر العظيم.. أحاول أعبر ببصري من ثغرة الرعب اللعين في غفلة الحراس، لاسترق سراً من السموات العلى؛ لأمارس كهانة الحب الجميل.
***
في سنة أولى كنت أجلس في أول الصف بقاعة المحاضرات الرئيسية، فيما كانت هي أغلب الأحيان تجلس في المؤخرة.. مكان بدأ لي ملتبساً بالشبهات.. أحرج أن أجلس آخر الصف، وأشعر بخجل أن أزاحم الهائمين عليها وهم كُثر يتزاحمون.. كان خجلي يحول أن لا أبدو أمام الآخرين طائشاً أو مراهقاً يشبه الصبية الغر في التصرفات المتهورة.
كان الأستاذ إذا سأل وأجاب الطالب على السؤال من الخلف أو بزاوية مقاربة أو مائلة، أقتنص الفرصة بشغف عجول.. أوهم العيون أنني أهتم بجواب السؤال القادم من الخلف، فيما أنا في الحقيقة أختلس نظرة عجولة من وجه نور.. كنتُ أعصر عنقي حتى اسمع الطقطقة، أدور برأسي نحوها كالحلزون؛ لأرمق نور، وأسرق نظرة على حين غفلة من العيون.. كم أنا يا رب في العشق متيم ولصّ وخائف!!
كنت شديد الحذر من عيون تضبطني متلبساً، وأنا أرسل سهامي نحوها، فيما هي مشغولة مع جليس أو أكثر في الجوار.. لم تكن معنية بالأستاذ المحاضر أو فيما يشرح أو يقول.. كانت بعيدة عن الدرس وشروحه، وعمّا نتعلمه!! كانت في القاعة أشبه بسائح جاء يبحث عن الدهشة والعجب، وخارج قاعة الدرس كان الهائمون بجمالها يطوفون حولها ككعبة أو إله يعبد.. أسلم الجميع وآمن، فيما أنا كنتُ أمارس دعوتي بسر وكتمان.
كان حذري الجم من العيون المتربصة تجعلني أشبه بجندي سلاح الهندسة، وهو يسير بحذر في حقل ملغوم.. كانت بغيتي كلها نظرة من جمال أحبه الله وأبدعه، ثم أودعه في وجه نور.. إنها نظرة عاشق ولع كتوم، يندى جبينه من الخجل.
نور اختفت فجاءة.. لا أدري أين!! أو إلى أين؟!! لقد كان اختفائها أشبه بمن عُرج.. اختفت دون علم أو خبر أو وداع.. لم تعد تأتي على العادة صباح كل يوم.. نور غادرت الكلية للأبد دون أن أعرف لغيابها خبراً أو سبب.. نور كانت الدهشة كلها.. “نور” على نور ونار.. قبس من سر ووحي عظيم.. معجزة لا يأتي بمثلها إلا رحمن رحيم.
***
(4)
عدل مفقود
هيفاء” نسمة بحر تحيي من تهواه.. نظرتها تزيح عن الكاهل تعب محتدم يصطك ببعضه.. تمسح عنه براحة كفيها ركام حزن طال وتقادم عهده.. تطفئ لواعج وحرائق من تشتاق.. غيث يهمي على الأرض الحرّى؛ فتخضر، وتلبس رونق.. هي هبة الله في أرضه البكر.. قبس من روح الله وسره.. “هيفاء” تسبيحات صوفي مسكون بالواحد، وشلال غفران دافق لا ينضب.. هيفاء في ملكوت الله وتسبيحات الكون باسمه، وصلاة عوالمه لجلالته.. هيفاء فتاة لا يشبهها أحد.
أنا فقير مُعدم مكروب الحال، خلقني الله في قاع البئر، أحاول إنقاذ ما بقي منّي، فيأبى قدري.. لا أحد يسمع صوتي المخنوق في أعماق الغور، مثقول بالحزن وبالوحشة.. البئر المهجورة جفّت حتى صارت صلدة.. ونزفتُ فيها حتى آخر قطرة.. حاولت أن أخرج منها فعجزت، وتخلّى عنّي الكل.. أعيتني الحيلة، فتحجّرت فيها، حتى صرت بعض منها.
كيف أقارن! والفارق كالفرق بين ذرّة رمل أصغر من عين النملة، ومجرَّة تتمدد في أقاصي الكون ولا تتوقف.. إن الفارق أكبر، كالفرق بين مخلوق وخالقه الأول..؟!! هي بنت النور من بيت عالٍ، وأنا إنسان بسيط جداً.. مسحوقا بين رحاها والحب الناقص.. أنا إنسان خلقت منكوبا من أول يوم.. ولا زلت أعيش خواي، وبؤس أسمع صريره في صلب عظامي، وأعيش فراغاً في عاطفتي، بحجم هذا الكون وأكبر.
قبل سنين من معرفتي بهيفاء، وأنا عمري دون الرشد.. كنت أبحث عن مأوى بمساحة قبر، فوجدت الخيبة أكبر من مقبرة تتسع وتكبر.. فسكنت على سطح “مصباغة”.. كل يوم تضحي الشمس على ظهري وتشويني في رابعة نهار يشتد.. يلهطني الحر.. من يرحمني من حر الكاوي، وغضب الشمس؟! وحُبيبات الحر تسلخ جلدي، وتشوِّه جسدي المنهك، ولا تترك مكانا فيه إلا وأصابته بمقتل.
عدن كنت أذرع شوارعها وأجوس.. أتمنى أن أجد فيها بيت تأويني أو تتبنى ما فيني عام أو شهر.. فراغي وحنيني يهرس عظمي.. أبحث عن أسرة حانية تهتم بأمري.. كنت أرى من يملك في عدن بيتا من طوب أو بردين أو كوخا من قش، أشبه بمن أكمل دينه ودنياه وظفر بفردوس الرب.
أنا يا الله لا فرش لي ولا مأوى.. وعندما ابتسمت في وجهي الدنيا، وجدتُ بيتا لم يكتمل بنائه، كانت تشبه بيت الفئران، فيما بيت من أحببت تتعالى في منزلة تسمو جواره.. تحت ظلاله.. وإن فحش الوصف، أنزل درجة لأنال غفران الرب.. هكذا بدا لي الفرق بين الاثنين.
يا لفارق يقسم ظهري أعشاراً، و يا عشرة اعسار تفتتني كحجرة جير رملي.. ماذا بقي منّي؟! طلبي يجعل فمي مكتظ بلساني المعقود بخرس الصخر، لمجرد تفكير غامر ومغامر في أن أطلب يدها، ولو حتى في الحلم المشفوع بالنوم الغارق في العمق.. كيف لأصابع مجذومه بأمر الله، أن تحفر نفقا في الجبل وصم الصخر؟!! ما زلت أبحث عن عدل مفقود، في بلاد القسوة والظلم.
يا إلهي.. أنا ابن الدباغ المدبوغ بالفقر والحظ البائس.. كيف يمكن أن أجمع أشتاتي وشجاعة باتت تخذلني؟! كيف أفكر بطلب اليد، ويداي مقطوعة بالحاجة من الكِتف.. أني أشبه بثائر يفكر بالثورة على مقدَس متجذر في عمق الوعي، ومتأصل في عمق الوجدان في وسط جامع غارق بالتهويم والتحريم الأشد غلاظة.
أي جنون هذا؟! كيف لفقير مهروس بالفقر، ومفتوتا بالعوز البالغ، أن يتجرأ بطلب يد فتاة تعلوه بمسافة ضوء بعمر ألف سنة مما نعُد؟!! ماذا سأقول لها ولأهل العد إن سألوني هل لديك فلة، أو قصر يليق بملكة؟! سؤال يصعق جبلا ويقذف في وجهي خيبات الأرض، جحيم جهنم.. يا لحسرة بيت الفئران.
هل أنا باغ يا رب لمجرد تفكير في طلب الحب أو عقد قران.. حب صيرته منّي أبعد من عين الشمس.. كيف أسافر؟!! أنا عالق في غب الحسرة.. منكوب بوجودي، ملبوق حد الهذيان.. يبدو أن الله قد كتب في لوحه المحفوظ حظّي العاثر بالفقدان، والمصلوب بشقاء البؤس، وغياب يصل حد المعدوم.
قررت أن لا أتلاشى في وجه الفقر.. أن لا أتصالح مع الظلم الهابط كقدر لا يتزحزح.. أقاوم عدمي بتفاني يتخلق منه إنسان لا يستسلم للجور.. وأن أستحضر وجودي بالطول وبالعرض في وجه غياب موحش وفراغ الفقدان.. حضور أكثف وللفقراء أنحاز ضد طغيان الجوع والظلم الصارخ.. شرف يبقى إن كنت حيا، أو مطمورا تحت الأرض في محراب الخلد ألف سنة.
***
(5)
كتمان وارباك
كنتُ كتوماً جداً يا هيفاء.. أخبيتُ الشوق اللاعج في فج شجيته عميقا في قعر البئر.. أودعتُ السر في عمق الفج بعيدا عن عين الشمس.. كتمتُ أنفاسي حتى لا تذروها الريح.. قمعتُ آهات الوجع الصارخ في عمق الروح.. كتمتُ الحب في أعماقي وعشت مهدود الحيل.. مهما كان حيلي مشدوداً كخرسانة برج عالٍ، أو راسياً كالجبل الضارب عمقه، فالحب المكتوم يا “هيفاء” يهد الحيل.. حبك سري الأول، مدفون في العمق الداجي، لا يعلمه مخلوق غيري أو شاشة رصد.
كنت كتوماً وعصياً على البوح.. لن أوصي وأبوح بسري حتى لظلّي.. لن ينتف منه الموت قلامة ظفر.. سري لن يعرفه غير القبر المغلق إن وافاني الموت.. كتمانه في أعماقي سحقني يا “هيفاء” كدكاكه.. بتُ كمعجون الأسنان تحت سنابك خيل.. مفروم بأحدث آلة فرم.. ظل السر المغلق يأكلني كمنشار، ويتفتت حيلي كنشارة خشب تأكلها النيران.. الحب الناقص يا هفاء يتلظّى ويتأجج في أعماقي كبركان.
سنتان من الحب يا “هيفاء”، بلغت بي عمر الستين.. بالصمت أمضغ خيباتي بالطول وبالعرض.. أحاول أداري عنك إرباك الأعين، وعيونك تدري ولا تفهم.. الشوق المجنون يشعل حرائقه في شراييني، وصقر يتحفز محبوساً في قفصي الصدري بين ضلوع تأكلها النيران.
تيَّمني الحب الناقص رغماً عنّي يا هيفاء.. تخفّيتُ وتواريتُ بـ “التقية”.. ضربت على نفسي أسوار العزلة.. البوح في الحب الآتي من طرف واحد خزي ودوس كرامة.. الكتمان عزّ من ذلٍ ومهانة.. ما أقسى هذا الحب يا “هيفاء” وما أشدّه على من حب.
في جحيم الحب الناقص صليت منفرداً دون جماعة، ومن أبحث عنها لا تسأل عنّي، ولا تدري أني مصلوبا بالحب الناقص بين ذراعيها.. الحب بدون تكافؤ فُرصه، عدالة تشبه أسنان التمساح.
جازم إنسان رائع.. أستاذي ورفيقي ومسؤولي الحزبي.. طرق يوماً باب القلب المثقل بأحمال الحب البالغ فيه حد الإعياء.. سبر أغواري كخبير وطبيب مختص، وأشار بلمح سؤال خاطف، ونحن نتمشّى على أرصفة الشارع: لماذا لا تقطف زهرة من هذا البستان؟! البستان أمامك والأزهار على مد اليد.. اقطف زهرة !! لا تترك زهرات العمر تأكلها الأغنام!! فشعرت بأن مجس طبيب أصاب وجعي والداء.. أحسست أن رفيقي عرف مصابي البالغ.. عرّاف عرف ما بي من حب وصبابة.. فتسألت مع نفسي في لحظة إرباكي: كيف نفذت إلى أعماقي يا رفيق المبدأ والنقد الذاتي؟! كيف سمعت صوت نبضاتي وخفقات القلب؟!!
ما أصعب حالي وأنا أداري ما في نفسي من حب بات أكبر مني.. لم أعترف لرفيقي بمصابي.. حاولت أكابر على جرحي الغائر في أعماق الروح.. أنكرتُ دوائي والداء، فيما النار كانت تشب في كياني شبّا، وأنا أحاول أن أخمدها في لحظة ارباك، فيما كان الخجل يطويني كقرطاس.. أسأل نفسي: كيف أطلب يدها ويدي مخلوعة من الكتف!! كيف أطلب يدها، وحالي أضيق من خرم الإبرة!!
كيف يمكنها أن ترضى بي للعمر وللمستقبل، وأنا أذوي مكسوراً مهزوماً أمام الشمس كشمعه.. محسوراً منحسراً لا جاه لا مال لا بيت يليق بملكة.. كيف يمكنني أن أتجاوز هذا الحب اللاعج والمخزون بكثافة، وهي تطل بوجهي كل صباح، وتمر عليّ في الحلم كنسمة بحر.
أجمع أشتاتي وألملم أشلائي، وأعزم أن أكشف لها حبي الجم.. لا بأس هنا أن أبحر بحديثي من أطراف الدنيا وأجتاز اليم.. لا بأس هنا أن أفعل ما يفعله زميلي قائد مع الأستاذ حامد في الدرس.. سأنتظر مهما تمادى الوقت لأطيل حديثي معها.. سأحشد ما أملك من ذخر الكلمات، لأحدثها عنّي، وعمّا يعتلج في القلب من أوار الحب.
وحين تحين اللحظة لأبدأ.. تفوت اللحظة وأنا أحاول بمشقة من يحمل صخره أكبر منه.. أبدو كسيارة أدركها العطب في أول وهلة.. تتلاشى الكلمات ولا تبقي كلمة.. أتبدد وأتلاشى معها.. وكأن هيفاء تملك تعويذة، أو مفعول سحري يبدد كل الكلمات.. لا يبقى منّي شيئا غير إرباك يشبه زلزال.
شجاعتي التي أجمعها من شهر طال للبوح لها عمّا في النفس، في لحظة تصير حطاماً ونثار، بمجرد أن ترمق عيناها عيناي.. يمتقع وجهي ويشحب.. يصفر ويحمر ويسود.. ولساني تلت كلاماً بلغة لا أفهمها.. مرتجف ومرتعش كالمغزل.. وسهام من سحر عينيها تفتح في القلب نفقا ومغارة، فأعود أجر قدري المنحوس، وأنا مهزوماً مكسورا خائب.
جسدي ملكي وزمامه بيدي، وفي حضرتها يتخلى جسدي عنّي، بل ونصير الاثنين مملوكين لها.. أصير أنا لا أملك نفسي ونفسي لا تملك جسدي.. الكل هنا رهن بنان أشارتها، وطوع اليد.. ننتظر منها أن تفرج عنّا ونحن نتصبب عرقا.. نرجوها أن تطلقنا في لحظة تشتد علينا، ويشتد فينا الإرباك؛ فتطلقنا شفقة لوجه الله.
***
(6)
للريح نكتب
عيون هيفاء جميلة وناعسة.. موغلة في العمق ومُستغرقة في المدى.. سحر عينيها يخطفك وإن كنت في مكان قصي.. عمقها يجذبك ثم يشدك إلى الأسفل حتى يصل بك إلى بُعد لا تعود ولا تنفك منه.. من ركب بحرها أو غزاها ما نجأ، ولن يعود إلا رقم في قوام الضحايا.. هكذا وجدت الأمر، أو هذا ما انتهيت إليه.
دعاني سحرها من بعيد لاقترب.. اقتربت فوجدت نفسي أرقص رقصة الموت.. جئتها كفراشة بأجنحتي أطير.. دعاني ضوئها في الدجى الشاتي لآتي؛ فأتيت لأحترق في الضوء الذي جلبني من بعيد.. كنت الضحية، وكانت للضحايا ولائم، ولم أكن غير رقم في العدد.
سحر عيناها يغلبك، وتحديه يهلكك.. إن أردت اختبار صلابتك، ستهوى في وهن!! سهمك لا يصيب.. حديدك مهما تفولذ، وعودك مهما قوى، يُفل بسهم من رمش عين.. لا تكابر حتى لا تصير مغلولاً بأصفاد الحديد.. أنقلب الحديد على صاحبة وصار طوع عيونها.. لا تعاند حتى لا تطويك كحبل الرشاء، أو تكسرك كثقاب صغير.
في لحظها حوريات السماء، وأسرار الذي خلقنا من علق.. يا خيبة المقتول بسبعين حورية، وفي عيون هيفاء سماء من ألق.. ويل لنا من أقدارنا، ومن خيبات الرجاء.. يا ترى هيفاء من هو المحظوظ بها؟!
***
في نشرة حائطية أشرفتُ على تحريرها، كتبت بروحي لا بحبر أو مداد.. كتبتُ بدم قلبي النازف بحبها.. حروف الحب أشعلتها بالحرائق والأرق.. وفي بحر عينيها العميق كتبت ما أجيد من اللآلئ وبما أجيش من الحنين.. كتبتُ خيبة بحَّار مضطرب أكثر من اضطراب البحر الذي يحاول أن يعبره.. يا خيبتي .. لا حيلة لي ولا وسيلة لأعبره.. لا زورق لي ولا لوح من خشب.
شاهدتها تقرأ ما كتبتُ، وبدهشة قلتها: يا إلهي!! فلتطلق المآذن أصواتها، وتقرع أجراس الكنائس، وتحتفل معنا السماء.. هيفاء تقرأ ما كتبتُ. وصرختُ بفرح مجلجل “وجدتها”.. يا جنة الحب النبيل.. وما لبثتُ أن صُعقت وقد أدارت ظهرها، وبحجم ما ظننت كانت خيبتي.
كتبتُ لمن أحب لواعجي؛ فمرّت كالهَبَل.. باردة كالشتاء.. متسكعة وشارده.. غير مبالية.. لا ترى ولا تحس ولا تجس.. لا تكترث بجواهري.. وربما أنا الغبي ومن فشلتُ في العبور والوصول، وفي إيصال رسائلي، بما أعيش من اعتلاج واحتدام.. عليّ أن أعترف: أنا فاشل في الحب مع مرتبة الشرف.
عنونتها في مناجاة العيون، وظننتها ستقرأ ما كتبتُ، وتعيد القراءة مرتين.. لكنها خيبت ظني بها.. غادرت بدموع تشتط بالغضب.. شتمتها في نفسي التي خرجت عن طورها، وشتمت نفسي حتى ضاقت بي السماء، وشتمت خجلي مرتين.
***
(7)
لو تبلعني الأرض..!
تناقض جم ينهش وعيي.. مشاعر محتدمة كأمواج بحر يتلاطم لجه، وفي الوجه الأخر يعترك مع جبال شواطئه الصلبة، والطقس مضطرب منفلت مجنون.. أوهامي دوامة بحر تركض بعدي، تلاحقني وتدور ولا تتعب.. حالي حال رجل تلبّسه شيطان في نوبة غليان. وأحايين أخرى أشعر بالضيق، كمعتقل في زنزانة أضيق من قبضة يد، ليس فيها فسحة، أو منفس أجمع فيه أشتاتي وشوارد أفكاري من أرجاء التيه.
مضطرب متناقض بين الفعل وضده.. بين أن آتيها لطلب اليد، وتردد اكبر منه.. زحام من حزن، وفرج يشق طريق الضيق.. حصار يسد الطرقات، وأمل في وجه جدار من يأس يحاول أن يحفر منفذ نور.. أحيانا تضيق الجدران وتطبق فكيها على صدري ككماشة.. جدران ونتوءات تنشب أنياب وأظفار في جسدي المنهك، فأبدو مصعوقا ومصاباً بنوبة ضيق.
ألمحها فأحس بقلبي يقفز من بين ضلوعي كعصفور يخرج من قفص حديد، أو إنسان حر يتحرر من زنزانة التصق فيها الجسد العاري بنتوءات الجدران الحجرية، وعيون عاشقة للضوء تسملها العتمة.. تتحرر من أبواب صدئة، وأقدام وآذان تتحرر من رسف قيود وصليل حديد.
أبتهج بمقدمها كل صباح، وأرقص على إيقاع خطوات الحلم الراقص، وتشتد لحظات إرباكي، وتظهر جلية في السطح العاري، وأنا أحاول بكل قواي أداريها عن الأعين، وقد صارت أكبر منّي.. تتضاعف أضعافاً وأنا أحاول بمشقة أن أخنقها وأقمعها كدكتاتور.
عندما تعرض عنّي، ولا ترنو بطرف، أشعر ببعثرتي وتشظي روحي، وتناثر أشلائي ورجائي، وبحزن يضرب في بالغ أعماقي والوعي، وأرى قلبي مذبوحاً كعصفور، أو إبريق صار شظايا، أو كأسة أنيقة كانت تطربني، وقعت من سطح عالي، وارتطمت بقاع صلد.
كنت أريد أصارحها بحبي الجم، ورغبة تعصف بي، وطلبي لعقد قران، وزواج يدوم العمر، ولكن كنتُ أتأنِّي لألتقط منها إشارة قبول أو أيجاب، تساعدني على لملمة شجاعة خائف.. ألملمها من أطرف الأرض؛ وأحدث نفسي أن أكون جريئا بعد الآن، وعندما لا أجد رداً أو بُداً أتردد خجلاً، والخوف يقمعني من أن ترفضني، وهذا الرفض كنتُ أراه سحقا للعمر الباقي.. داء لن أتعافى منه بدواء أو بإكسير السم، ولن تخرجني منه حتى قيامة.
في إحدى المرات كانت تؤشر نحوي باليد اليمنى، وأنا شغف شارد في عالمها، متسمر في وجهتها، أنظرها بولع الحب الجارف.. بدت إشارتها صارخة الاستدعاء.. إيماء لي بوضوح أن آتي إليها!! كانت حركة يدها كبرق في ليل مسود يمنحني أمل بقدوم الغيث.. كاد قلبي يقع أو يسقط دهشة.. يا هول مفاجأة أكبر من قدر قادم ببشارة.. نبوءة في حلكة جهل أسود.. ولادة أمل مثل الشمس في وجه اليأس المعتم.. تسألتُ: هل يمكن يا الله أن يكون عبوري للضفة الأخرى بهذا اليسر!! ما أسعدني يا هذا الحظ !!
حبّيت أن أستوثق أكثر من باب دفع الاستسهال، فيما كان قلبي يطير فرحاً ويصعد سموات لا يبلغها الحالم.. قلت لنفسي لا بأس أن أتأكد، مما صار في ذهني مؤكد، وظناً منّي إن الأمر يلزمه بعض رزانة، حتى لا أبدو أخف من الريشة في الريح..
رديت بإشارة من يدي المرتجفة بالشوق اللاعج، أستفسر إن كنت أنا المقصود بإشارتها.. فتبين إن إشارتها ليست لي، بل لزميلاتها الواقفة خلفي كجذع النخلة.. في تلك اللحظة تمنيت أن تنشق الأرض وتبلعني مرات عشر.. تمنيت أن يخسف بي الرب وبالأرض التي تحت أقدامي إلى سابع أرض.
أوغلتُ في منطقة الحيرة، وترددتُ أكثر.. داهمني الظن العارم إني أحرث في بحر.. ظننت أن الرفض سيكون سيد موقفها، أما لغياب الود أو لفوارق طبقية.. فضلا عن مانع آخر؛ فأنا أكبرها في العمر بعدد أصابع يد تخنقني بعد أن عاجلني الزمن ليضع الفرق خمساً أراها أكبر من عمر الشمس.. أنا لا أستحمل رفضاً يسحقني ويهزمني لآخر يوما في العمر.. لا أريد أن أتهور فتطويني كالرمة وترميني بكبر، أو تكسرني كزجاج لا يعود لسابق عهده.. تحاشيت كسراً لا يجبر ضرره حوريات الله في الجنة.
***
(8)
صدمة استقبلتها بقهقهة
خُطبت “هيفاء” من قبل زميل لها في ذروة حبي لها في الجامعة.. لم أكن أعلم بواقعة الخطوبة، ولكني فقط لمحت دبلة الخطوبة في أصبعها.. كان وقع الصدمة أشبه بوقع الصاعقة.. شقتني نصفين.. سحقت روحي بمجنزرة.. تطاير رأسي كزجاج وقعت عليه صخرة من شاهق.
أحسست أن “الدبلة” التي في أصبعها تطوق عنقي كحبل مشنقة.. الأرض على اتساعها باتت أضيق من خرم إبرة.. خيبة كبيرة تخنق أحلامي بقبضة من حديد.. صدمة تداهم عيوني بزغللة تنتهي بسواد يشبه الموت.. أطبق ملك الجبال على أنفاسي الأخشبين.. أحسست أن وجودي بات معدوماً، وأن مستقبل حبّي آل إلى بدد.. إحباط اجتاحني كطوفان نوح.. أحسست بعظيم الندم، وحسرة تتعدّى أطراف الكون.. فقدان وضياع لا حدود له.
تذكرت مَثَل شعبي كرره أكثر من مرة الدكتور أحمد زين عيدروس بمناسبات مختلفة في قاعة المحاضرات، وهو مثل يُضرب فيمن يستحي من ابنة عمه.. مثل شعبي لاذع ومقذع يدين الحياء ويصعق صاحبة. وهناك مثل أفريقي يقول: إن الرجل الذي يتسكع حول فتاة جميلة دون أن يتحدث عن نواياه، ينتهي به الأمر إلى جلب الماء للضيوف في حفل زفافها.
أدركني اليأس وصدمتني الحقيقة.. صدمني الواقع بما لا أتوقعه، فيما كان في ظل سلبيتي وترددي يجب أن أفترضه وأتوقعه.. ما حدث كان طبيعياً، وهو الراجح حدوثة، طالما ظللت متردداً ومراوحاً في نفس المكان، ثابت فيه دون مغادرة أو زحزحة، أنتظر دون أن أتخذ قراراً، ودون تحديد زمن لاتخاذ مثل هذا القرار.. كانت خيبتي في النتيجة كبيرة، وكان فشلي في هذا الحب بالغ وذريع.
أحسست أن حبي لهيفاء بات عبئاً يسحق كاهلي.. لم أعد أقوى على الخلاص منه.. سكنته وسكنني حتى بلغ مني، وصار كلِّي وجل تفاصيلي.. تحول الحب الكبير بنقصانه إلى نكبة مضاعفة تلاحقني أينما ذهبت وحللت.
صرتُ منكوباً بهذا الحب الذي أحتلني، ولم استطع الخلاص منه.. صرت أعيش ورطته التي لا فكاك ولا حيلة للنجاة منه.. أسأل نفسي: من ينقذني من قيعان هذه الورطة السحيقة؟! لا حبال ولا سلالم ولا حانية تمد يدها لتنتشلني من جحيمي ومما أنا فيه.
الحب الذي بدأ عظيماً أنتهى إلى جلاد يعذب الروح والجسد.. داء عضال لا أعرف كم أحتاج من السنين لأتعافى منه، وقد بات كبيرا بحجم المستحيل.. غربة مطبقة لا أعرف كيف الخلاص منها، وكيف يمكنني أن أغادرها وهي تحيط بي من كل صوب واتجاه.
أسأل نفسي: كيف يمكنني أن أتجاوز غربتي وهذا الحصار الذي بات شاهقاً سوراً على سور، وحزني الذي أعتله صار أكبر من صاحبه، وما بقي منّي لم يعد يقوى على حمل بقاياي، فمن هذا الذي يحملني ويحمل حزني الذي أحمله؟!! لم أعد أقوى على حمل حطامي، ولا قدرة على استجماع بقايا قواي، وأشتاتي المبعثرة في القيعان السحيقة.
***
ورغم حطامي وبعثرتي وحزني الوخيم، استجمعت إرادتي وأشتاتي، وما بي من احتقان بدا لي أكبر من مُهين مهول.. أردت التحدِّي والمكابرة حتى وأن بلغتُ بمكابرتي الموت الغليظ.. أردت البحث عن فتاة لا تشبهها فتاة في الوجود.
أردتُ أن أستعيد كبريائي الذي تخليتُ عنه ذات يوم مع من احب.. أردتُ بذل المحاولة لاستعادة وجودي المسلوب دون رغبتي وإرادتي.. أبحث عن استعادة أمل كان قد تحول فقدانه إلى خيبة تبتلعني كل يوم.. قررت أن أبحث عن حب أكبر بكثير مما فقدت.
وفيما كنت أستعرض أمام زميلي عبيد صالح الشعيبي، أوصاف الفتاة التي أبحث عنها وأريدها زوجة لي، وهي كما بدت أوصاف غير موجودة، بل ومستحيلة إلا بقدر.. فاجئني بقوله: “وجدت فتاة تناسبك وبالمواصفات التي تبحث عنها”.
بدا الأمر بالنسبة لي أشبه بتحقيق معجزة.. كان كلام عبيد عن الفتاة التي قال إنها تناسبني مملوء بالجدية والثقة الغامرة والأكيدة، حتى قلتُ في نفسي: ما أعظم حظ سيأتي لأفوز بحب يتعالى ويزدري كل حب مر بي.. سيكون انتصاراً ساحقاً لا سابق له في الحب والحرب.
كدتُ أطير من الفرح.. شعرتُ أن الدنيا تبتهج في عيوني مرة أخرى، بعد أن أحلكت سواداً وقتامة، وأطبقت عليّ خيبة كبيرة وعريضة.. توقعت أن القدر يريد أن يعوضني عمّا فات من معاناة، وعن خيباتي التي تكاثرت، وبأحسن مما طاله الفقدان.
صديقي عبيد بذلك الكلام أحياني وبعثني من حطامي، وهو يصفها كرسام ماهر ومحترف، وهو لا يعلم حقيقة ما أعانيه في كتماني من الحب الذي تركني نهبا لأسواط العذاب.. ظننتها وهو يصفها حورية من السماء، وبقي السؤال الذي يرفسني من الداخل دون أن أبوح به: كيف لفتاة بوصفه أن تفلت من عيون البشر، وقبلها من قلب عبيد وعيونه؟!
لقد كانت لكلمات صديقي عبيد وهو يقول: “وجدتُ من تناسبك”.. وقعها على نفسي، أشبه بوقع كلمات أرخميدس وهو يقول “وجدتها.. وجدتها..” كنت أستعجله وألح عليه أن يعجل بلقائنا وهو يرجئ المواعيد.. كنت أصبّر نفسي وأقول: وهي بتلك الأوصاف، فإنها تستحق مني الصبر والانتظار والجعجعة، فيما لهفتي لها كل يوم، كانت تكبر وتتضاعف وتشتد.
وعندما جاء الموعد الأكيد، حط بنا الرحال في “زعفران كريتر”.. كانت لهفتي تسبق خطواتي وتستحثها على أن لا تتأخر.. لهفتي تزداد لمن أظنها عوض الرب، والمنتهى لما سيستقر عليه خياري.. أوقفني عبيد فجاءة، وأنحاز جانباً كمن ينصب كميناً، أمام معرض تجاري فخيم، لبيع ملابس نسائية جاهزة، ثم همس بإذني: “إنها تلك التي خلف الزجاج”.
لم أشاهد خلف الزجاج أي فتاة .. ولمّا لم أستوعب الأمر أشار إليها بالبنان، وقال: “هذه هي من تبحث عنها وتناسبك”.. الحقيقة لم تكن فتاة وإنما كانت دمية على هيئة فتاة جميلة بملابس أنيقة.. وبقدر شعوري بالغضب وبالمطب الذي صنعه لي صديقي، انفجرنا بالضحك معاً.. كانت ضحكتي أكثر دوياً وجالبة للانتباه والفضول.. شاهدنا المارة وهم يتطلعون إلينا بفضول وتسأل!! مشدوهة عيونهم نحونا، دهشة وغرابة تعلو وجوههم جعلتنا ندرك أننا في شارع عام.
***
(9)
من بوحي لهيفاء
لطالما تمنيت يا هيفاء أن أكون دمعة حزن في محاجر عينيك.. مسحة حزن خفيفة على ملامحك الحالمة.. الحزن أيضا يزيد عينيك لمعاناً وسحراً، ويضفي على تفاصيل وجهك جمالاً وجاذبية.. ضحاياك ولوعين في الهيام بك، وهيامهم فيك يزيدك في عيونهم رونق ونظارة.. ما أجمل أن أقاسمك حزنك واتبارك فيه، وأتبرك به.. من هذا الذي لا حزن له؟!
تمنيت أن أكون خصلة أو جديلة في مفرقك.. تطير عاليا خارج المدار.. تسافر إلى الأقاص البعيدة.. تعرج بي إلى السماء.. نستكشف مجاهيل مكتوبنا، وما خطه الرحمن في اللوح والقلم، ونجيب على كل الأسئلة.
ما زلت أذكر وأنت تفرقين جدائل شعرك صرتين، واحدة على اليمين والثانية على اليسار، وكنتُ بين المفارق والضفائر، مصلوباً بالسؤال: لماذا لا تطلقين سراح شعرك للريح والبحر والنسائم؟!!
أبحث عنك في كل فسحة، وبعد كل درس وحصة، كالحروف الشاردة عن كلماتها، والكلمات الباحثة عن نقاطها التائهة.. دونك الكلمات لا ملح ولا عسل ولا طعم، ولا في الشعر شعراً، ولا في الحب لواعج وقصائد.
عندما أراك تتدفق ينابيعي شلالات وأنهار وجداول تبحث عن أطيانك وأوطانك وشجونك.. دون معركة تأسرين حواسي الخمس كلها من ألفها إلى ياءها.. بك أَطعم الأشياء، وبنكهة تفتح لها السماء خياشيمها لتتنفس عطرك وأريجك.. طلعتك البهية تعيد لأفولي وغروبي شروق وضوء وبهجة.. ذوقك لذيذ يفتح شهية عالمي الحالم داخلي.
خيالي لهمساتك يفتح أنسامي وأسماع حبي على مصرعيها.. أدخلي يا ألف مرحب كليلة القدر، أو كحلم جميل أرجوه أن لا يغادر.. بك أرى الحروف محاراً، وأرى الجواهر في القصيدة.. دونك أجد الحياة رحيل وموت.. دونك أشعر بالفراغ يحيطني، ويتفجر داخلي احباطاً وخيبة.
أنا الحروف الشاردة في الفضاءات القصيّة، أبحث عن نقاطي الهاربة!! كيف لي أن أكتب القصيدة، وأنا الذي أستغرقه الفشل؟!! لازال نصفي يبحث عن نصفه الهارب في الآماد البعيدة؟!! كيف لانكسارات الحروف أن تستعيد العافية؟!! وكيف للحروف الشاردة أن تصنع القصيدة في دوحة الشعر الجزيل؟!
كتبتُ عن عينيك يا هيفاء، بجراح غائرة في روحي المتعبة، وفاه فاغر يبلعني كل يوم مرتين.. حاولت أستعيد نصفي وأسترد بعضك في لواحظي، ولكن عينيك كانت عنِّي شاردة.. فإن رمتك سهامي عادت إليّ خائبة، لتصيب قلبي الذي أنفطر بحب التي لا تحبني.. من يصنع الكيمياء بين أرواح البشر؟! لماذا يا قلم تسلب نصفي، ولا تكتب لنا في ذاك الأزل الحب المكتمل في لوح السماء؟!!
حاولت أن أشحذ سهامي في جحيمي الذي يصطليني.. أسنها بلواعجي وأواري التي أخبيتها.. أردت أن أقصف بصواعقي قلب الحبيب، و يا ليتني ما فعلت، فكل صواعقي عادت تفجرني بألف خيبة وصاعقة.. أنا المحب الذي أثقل الحب كاهله، وأثخنه ألف مصاب وجرح.
كنتِ تنامين يا هيفاء تحت جفوني كل مساء وتصبحين.. تمرين جواري خفيفة كنسمة بحر منعشة، أو إشراقة صبح جميل، ممشوقة كآية في امتشاق القوام، آسرة المشاعر كالمعجزة.. تسيرين سير الحمام، فيزجل داخلي الحب الجميل.. وإذا ألقيتي عليّ السلام، كان سلامك قنطرة تسقي روحي العاطشة، وتمدها بالأكسجين.. وعنّدما عنّي تعرضين، أشعر بهول وكارثة.
لطالما تمنيتُ أن أسافر إليك فيما تكتبين دون عودة، وقد صرتي لي ملاذ وعوض ووطن ينتشلني من غربتي التي عشتها، ونسيت فيها وجهي وحروف اسمي.. تمنيت أن أكون لك قلماً ودفتراً وممحاة وغفران.. لوحة رسم معلَّقة على حائط غرفة نومك، تسافرين في تفاصيلها قبل كل نوم وغفوة.. وسادة تضعينها تحت أسيل خدك عندما تخلدين إلى النوم العميق، وتحلِّقين عالياً مع الأحلام السعيدة.
كم تمنيتُ أن أكون قنينة عطرك التي تعشقك وتشتاق لك في كل حين.. قلبي الذي يضخ دمي، أهديه إليك هدية ملفوفة بالضوء، يبحث عنك في الدروب والأمكنة.. شرفة يملأها وردك الفواح بالأريج المنتشر.. سترتك ومناديلك وكل التفاصيل في خزانتك.. رحلتك كل يوم إلى المرآة، وساعة الحائط، وحتى الأساور وأحمر الشفاه وطلاء الأظافر.. إنه حبي المتيم بك يا هيفاء، فلا تستغرقين ولا تستغربين!
لكن كان الختام بلا زهر ولا مسك ولا نور، وكان الفراق الذي طال وأطلق حبالة في السنين والزمن الطويل.. استهلكتُ روحي في عناء السفر والزمن المسافر، وعندما أدرك اليأس اللحاق، وبات طول الانتظار دون لقاء أو مجيء أو أمل، ومسافات البين تزداد بيننا، وختامها غير الطريق، كان السؤال: كيف لي أن أدركك!! ومسافات البين تترامى في المدى، ومسافاتي التي قطعتها خائبة تحبو في القاع السحيق.
استجمع روحي المهشَّمة والمتطايرة كالزجاج، أحاول بيأس أشد إليّ شواردك، ولكن صوتي مهما علا كان لا يصل إلى أطراف مسامعك، ويتلاشى صداه في المسافات الطويلة، وبقي حولك زحام المعجبين والمتحلّقين وضجيجهم، فيما نحسي المثابر بات يعترض طرقي إليك وكل معابري، وأنا الذي قالوا في يوم ميلادي أنني محظوظ وصاحب البخت السعيد.
***
(10)
بوح ثاني لهيفاء
كنت أخبي ثوران حبي اللاعج، وأوجاعي المنبعجة بالألم المكتظ في عمقي الداجي وأنفاقي السرِّية.. أقمعها بقسوة، وأسدُّ منافذها بإحكام الخائف من همسة حب تفلتُ منه في غب النوم.. أخرجُ من عمقي ودهاليزي؛ وأحاول ألبس قناعاً يظهرني عادي الحال، فيما واقع حالي مصلوب بين شقاء وعذاب.
أكتم سري حتى يبلغ ذروته ودورته القصوى.. أبلع غصصي بمرارة.. أغتلي في مرجل ناري، وأداري النار عن الأعين في شراييني.. اكتم صوت غلياني الثائر، وأحاصر أبخرتي بإتقان، وأترك أنبوباً إلى قناني نبيذي، لأسكر سراً وحدي منفرداً، بحبي الناقص والمقموع بكتماني.
حرصتُ أن لا يعرف أحد ما بي من شوق وشجون، وما يجيش فيني، وفي صدري يثور.. في صدري ثورة أخمدها بطغيان.. داريت ما يحدث في أعماقي عن الأعماق.. منعتُ نفسي عن نفسي، ومنعتُ الصمت أن يسمع صمتي، وقمعتُ الغيرة والبوح وما فيني يجوس في مجاهل أغواري.
إذا غبتِ يوماً يا هيفاء عن الكلية، أسقط في ندم يوم مهدور.. أهوي إلى قاع جحيمي.. يكويني ويشويني غيابك.. شبابي في غيابك ينحسر ويذبل.. أشعر بأفولي وأذوي كشمعة.. أهيم على وجهي في فلوات ضياعي، وأموت بحسرة، حتى أراك ثانية فأحياء من أول وهلة.
كنتُ أضطربُ وأرتبك وأجزع إن حاولتُ أسأل عن حالك، أو أحدثك بأمر تافه في لقاء عابر، وحالي مرتجف مثل اللص المقبوض للتو عليه.. كنتُ وأنا أحدثك أشعر إن جهازي العصبي فيه ألف خلل، وأنا أقف أمامك في لحظة إرباك، وكأن على رأسي عفريتاً لا طير.
لماذا شجنك لا يسألك؛ لماذا هذا الشاب جزع مضطرب خائف بين يديك..؟! يا ترى ما في جعبته يداري..؟! أهو الحب؟! ما سر هذه الربكة؟! حبك جارف يا هيفاء.. هدهدي جزعي.. خففي روعي.. ابتسمي حتى أروق.. هل كنتِ ضريرة؟! أم كان غبائك فاحش لا يرى إنسان مثل الشجرة يهتز أمامك، وكأن عاصفة تريد أن تقتلعه من القدمين!!
حاولت مراراً في طي الليل الداجي، أن أستحضر روحك بين اليقظة والنوم، لأبلغك ما فيني من شوق وهيام.. بكل حواسي حاولت أن أبلغك بعض شجوني، وما يجيش فيني من حب لاعج، غير أني وجدتُ نفسي حسير فراشي. وحواسي معطوبة وأنا أدوم فراشي.. لا إسراء لدي ولا معراج، ولا مصباح علاء الدين.
كنتُ أغار عليك يا هيفاء، وكتمتُ عن الناس نارا تأكلني بجنون الغيرة.. كبلتُ الغيرة بناري، وبأصفاد حديد السجّان، وألجمت جنوني في أعماقي، غير أن جنون الغيرة مهما بلغت فيني، لن تبلغ أن تخمد نورك، أو تفرض حجاباً أو تضرب برقع على شروق شموسك، أو تسدل سواد الموت في الليل الداجي على وجه القمر البدر.
قتلتني من زعمت أني متزوج ولدي أبناء وبنات.. كذب وهراء.. هل كان تلبيس أم تظليل أم كيد نساء.. هل كان الباعث حرصاً أم كان الباعث أمر آخر؟!.. لا أدري حقيقته.. ما عهدتُ حرصاً يدفنني حياً، ويفسد أيامي ومستقبل كنت أراه جميلا، وبألوان الزهر.
أنا المهدود بأحمالي.. أحمالي صارت أثقل من جبل أحمله بصبر بعير.. أنا من بلاد فيه العشق جريمة، والبوح جريمة تستدعي الإعدام، وفيها الحزم وفيها الشدة، ولزم صاحبها أن يكون لغيره عبره..
أنا من بلاد ترى الحب عدواً أول.. ومفتيها يسمِّي الحب نعومة حرب.. يفتي دون سؤال.. يفتي أن العلم مسيح دجال، والتفكير كفر بواح.
أنا من بلاد مدمنة رياءً ونفاقاً.. تتنادى قطعاناً وحشوداً في وجه النور.. صارت أقنعة الزيف تتقزز مما تخفيه.. تستنفر قواها وتحتج حين تشاهد قبح الواقع يتبعج.. تتفسخ من قُبح باذخ في وجوه بلغت دمامتها الذروة.. وجوه تتوحش في وجه الحق، ومدونة زادتها فساداً وقتامة.
***
(11)
بعد 25 عاماً .. ما باحت به هيفاء
بعد خمسة وعشرين عاما مضت كان لي بوح مع هيفاء.. بحتُ لها وكاشفتها بما كان في طي كتماني.. أبلغتها أنها المقصودة بما كتبت، فباحت هي أيضا بما كنتُ أجهله، وقد جاء في ردها:
لم أكن أعرف بإحساسك ناحيتي.. لم أكن اعرف بمشاعرك نحوي.. أنا انسانه بسيطة جداً، وكنت انظر اليك باعتبارك قدوة في الجانب العلمي.. حاجه كبيرة جدا.. لم يخطر ببالي انك معجباً بي.. كنت اسمع عنك الكثير واهابك واقدِّرك.. اشعر أنك تحترمني ولي منزله عندك بسبب مكانة والدي وعائلتي لديك.. اكثر ما لفت نظري تفوقك وخجلك.. اشتغلنا مع بعض بأسبوع الطالب الجامعي.. كنت احس بشخص مرتبك ومتردد وخجول.. اعتقدت أن هذا طبعك في التعامل، وبالذات مع النساء.
اخبرتني اختي إن كنت أحتاج شيئاً أو إجابة عن سؤال متعلقاً بدراستي أطلبه منك، وكنت أتردد وأحجم عن الطلب تجنباً لذلك الخجل، والارتباك الذي أراه يعتريك.. اعتقدتُ أنني أثقل عليك.. أرجعتُ خجلك وارتباكك لطبيعتك فحسب.
اتذكر يوم وقوفي أقرا المجلة الحائطية في الكلية.. لفتت نظري قصيدتك وقرأتها لكن لم يخطر ببالي اني كنت ملهمتك في القصيدة.
سألت عنك؛ وقيل لي بأنك متزوج، ولديك اسرة واطفال.. لم أكن أعرف أنك ما زلت عازبا.. هذا أيضاً جعلني لا أفهم سر ارتباكك غير إرجاعه إلى طبعك في التعامل مع النساء، ولطالما ظننت أنك لا تكن لي أكثر من مشاعر الاحترام.
لو بحت لي حينها بما كنت تشعر به، كانت حياتي تغيّرت، أو ستتغير كثيراً.. لقد ظللت ابحث عن حب يروي عطش روحي ولم اجده.. ربما لو قرأت قصيدتك وعرفت أنني موضوعها أو اهديتني إياها كانت تغيرت الاحداث كلها.. لم أكن ادرك انك تحبني.. كثير ممن كانوا حولي كانوا يتقربوا منّي، وبعد خطوبتي ابتعد الجميع.
انت من كنت تملك اللسان يا صديقي؛ فالقدر اصم وابكم ويمكن هو اختار لك ما هو أفضل.
كانت زميلتي “هدى” تقول لي عنك: هذا الشاب يهيم بك.. وكنتُ اقول لها مستحيل، هو رجل متزوج وخجول، ولا يحمل لي سوى الاحترام والمودة التي جاءت نتيجة لمعرفته بأهلي وتاريخ والدي.
لم اكن منتبهة لجمال عيني، لذا لم اشعر بالغزل لهما، ولم ألاحظ لنظراتي ذلك السحر الذي كتبت عنه.. لم اكن اعلم ان لخطواتي الإيقاع الذي تحدثت عنه.. أحلى حاجة فيك انك صرت تتكلم بصيغة الماضي عن حبك لي، وهذا دليل انك تغلبت عليه.
ما زلت أتذكر وأنا أمرُّ من امامك أنت وزملائك.. كنت أزداد تحفظاً، وأتحاشاهم لظني أن لديهم رأي ووجهة نظر عن المرأة لا تروق ولا ترتقي.
ظللت اقرأ واتابع ما تنشر عن قصتك حياتك.. عانيت كثيراً يا صديقي.. تألمت كثيراً على خالتك وموتها وقبرها.. اسلوبك رائع لدرجة اني ابكي وانا اقرا.. تشبيهاتك حلوة وجميلة.. ومع ذلك حاولت أن افتش عن ذاتي بين سطور ما كتبته، ولم أجدها على نحو ما ذكرت، لعل أمر يتكرر بشكل آخر، فأنا لم ألحظ عليك ذلك الحب الذي تحدثت عنه، وتدّعيه هنا، في زمن غادر ولن يعود.
لم اكن أنا تلك الفتاة الأرستقراطية التي تحدثت عنها يا عزيزي .. كنتُ فتاة اكثر من عاديه أكان بالنسبة لجمالي أو لوضعي الاجتماعي.. لا أمتلك تلك الصفات التي وردت فيما نشرت.
لا أحب ان يكون لهذا الحنين انين لروحك يا صديقي.. انت شخص حساس وبسيط وصادق جداً.. لذا فالتسامح والنسيان طبعك.. بجد هذا الالم سيؤثر عليك، وما نعيشه اليوم من الآلام والمرارات فيها ما يكفي ويزيد.
على غير طبيعتك حلمت في أحدى المرات بك بعد انتخابك عضواً في مجلس النواب.. حلمت انك أتيت إلى بيتي ومعك حرس وشديتني من يدي بعنف وقوة وعيونك تقدح شرراً وغضباً وتقول لي: الآن اقدر أن آخذك لي.. كنتُ مستغربة من كمية الغضب في عيونك وقسوتك الشديدة.. ظللت فترة مستغربة من هذا الحلم ومن هذا الغموض الذي فيه.
***
كنت قد ألتقيت بـ “هيفاء” بعد أسابيع قليلة في ساحة التغيير للمرة الأولى بعد أكثر من واحد وعشرين عام من الغياب والانقطاع.. جمعنا الظلم الواقع علينا، وكان لكل منّا قصته.. ازدريت فن السياسية وقبحها، ولم أتنازل عن حلمي الكبير الباحث عن المدينة الفاضلة التي ربما ليس لها مكانا في الوجود، فيما كانت هيفاء في السياسة واقعية جدا وإلى حد بعيد.
تزوجت هيفاء مرّات، فيما أنا تزوجت من فتاة، في غمار البحث عمِّن تشاركني السعادة والنكد وعبور الجحيم.. أحببت من صارت لاحقا زوجتي.. أحببتها من نظرة واحدة، ودفعة واحدة، بعقد نافذ إلى آخر العمر.. عمَّدنا حبَّنا بالتحدّي والعِشرة الطويلة والصمود الأكيد، وجذرته مصالح سبعة من البنات والبنين.. لم أفكر يوما بالزواج عليها من أي حورية.. اعتبرت الزواج من ثانية، قتلاً لضمير أحمله، وتشويه لروح لطالما نشدتها، وإيذاء للحياة في عالم غير عادل.
قبل أن تنشب هذه الحرب اللعينة، ألتقيت بهيفاء ذات مرة في البعيد.. حكيت لها عن حبي وعذابي وقصتي معها، وقهقهتُ، وقهقهت هي معي، غير أن قهقهتي كانت بصوت طاحون، وفي اللحظة تذكرت أنني يوما قرأت من يقهقه عالياً يخفي تحت قهقهته مخزون من الحزن الكثيف.
بعد ربع قرن من العمر باحت هيفاء بما لا تبوح، ورأيت في مرآتها بعض تفاصيلي وما كنتُ أجهله.. فرقتنا الحرب وكل منّا صيرته ربما على النقيض من صاحبه، ولكن ربما الغد يجلي ما خبى، ولربما يوما توحدنا الحقيقة ومُرّها، أو تظهر لنا تلك الحقيقة التي كانت عنّا مطمورة أو مغيّبة.
***
بعد ربع قرن مضى وانقضى تغيَّر كل شيء تقريباً.. تغيُّرات ما كانت تخطر على بال، ولا ترد بحسبان، إن كان على المستوى الشخصي أو على المستوى العام؛ تحولات فارقة على الصعيدين لم يكن مخيالنا قادراً في تلك الأيام على التنبؤ بها أو توقع حدوثها..
كما لم أكن أتخيّل أنني سأعيش إلى اليوم، وأعبر كل تلك المراحل والتعقيدات والتناقضات التي تخللتها، وأتجاوز تلك المنعطفات الحادة، وما شهدناه ونشهده من هزات ارتدادية في فنتازيا لم نكن نتخيلها.
لم أكن أتوقع أن يوما سيأتي ويتم إرغامنا التوقيع على صكوك عبوديتنا جهارا نهار دون خجل أو حياء..
لم أكن أتخيل أن يعود الكهنوت ليحكمنا بهذا القدر من الجهل والتوحش.. ومتى؟!! في الألفية الثالثة..؟!
لم يكن يخطر على بالي أن المحتل وعلى مشهد من العالم أن يحكمنا بهذا القدر من البداوة الصارخة..
لم أتصور أن طغيان الفساد سيبلغ هذا الحد من الاستهتار بنا، وتبلغ وقاحته الى منح أبناء الفاسدين المنح، بل ويتعلموا العربية في دولة الهند..
بفعل الفساد وتغوله ضاع الوطن.. تسرب من أيدينا حتى تم انتزاعه منا واحتلاله على ذلك النحو الذي تم.
وما خفي أعظم ومهول.
***
(12)
صديق يشبهني
كان لصديقي وزميلي محمد قاسم من ردفان قصة حب مشابهة في أكثر من وجه مع قصتي أنا وهيفاء.. كثيراً ما أحسست به وهو يتلظى بكتمان صبور، ويكابد معاناة الحب الناقص وحيداً ومنفرداً.. محمد أعطى للصمت مهابة وجلال، وهو يصلى في وادي الجحيم ويحترق.. يتعذّب في لوعة الحب المشتعل.
لطالما حدثت نفسي عنه، وقلت: ما لدى محمّد من الحب حيال من يحب، يكفي أن يوزع على نساء الأرض جميعهن، ومن دون نقصان؛ فكيف يدعون هذا الحب بالناقص، وهو الحب كله؟!
يا بخت من أحببت يا صديقي!! لقد كان حبك كبيراً، وعظيماً بحق.. كنتُ أشعر بما يتأجج فيك، وبجحيم تصطلي في أواره.. صبرك ليس أقل من صبر نبي.. عطاءك في دروب الصبر لم يكن متحفظاً، ولا كان يوماً معلقاً بشرط.. تبتلك وصلواتك كانت لوجه حبيب دون أن ترجو أجراً أو ثواباً لتنعم به في الحياة الثانية.
الحب الصامت والخجول والمقموع في ذواتنا يا صديقي هو حب بالغ العفة والصدق والإيثار.. تضحية بالغة من طرف واحد دون الآخر.. مشقة كاملة غير مقسومة على اثنين.. حب ناقص نصفه، ولكنه بالغ لمن يعرف معاناته وصبر صاحبه.
حبّنا يا صديقي عظيم ومدفوع بجسيم التضحية، وقد بلغنا فيه من العذاب حد الجحيم.. هذا الحب يا صديقي عشناه وغرقنا فيه حتى العمق، وأبحرنا فيه إلى أقاصي حدود التيه والتلاشي، ولكننا أيضاً استعدنا أنفسنا من جديد على نحو أكثر حضوراً ووجوداً وتجدداً.
كنت يا صديقي أسمع أصدقاءنا المقربين جداً، وهم يحتسون “الحش” والتندر، ويتبادلون الغمز واللمز حيالك، وحيال من تحب، كنت أخفي عنك كل ذلك لأنني أعلم بطبعك، وفداحة ما يمكن أن تفعله بهم وبنفسك.. وفي المقابل قررتُ التأكيد على كتمان قصتي عن الجميع.. ظللت أعيش قصتي والنزيف بصمت وكتمان أشد، وربما أحسست أن افتضاحي كان كمن يستدعي الحكم بإعدام مستقبلي، واضطراري إلى قطع دراستي في الكلية، ومغادرتها إلى لأبد.
كتمتُ آهاتي وأوجاع العذاب عن الجميع، ولم ابح بسري إلا في لحظات وحدتي المتشردة، وانفلات عقالي في الحلم عند النوم العميق بعد حرص وتشدد وكتمان.. الحب الصامت يا صديقي أجل وأعف وأقدس.. يعيش داخلنا مشتعلاً ومتأججاً، ونحن نداريه ونخفيه عن الأعين، ونحاصره في الوعي، وفي اللاوعي ما استطعنا.
إن حُبَّنا يا صديقي يشبه البراكين المتأججة تحت قشرة الأرض.. يذيب صخور الأرض في جوفها، وإن تراكمت على سطحها طبقات الثلج وجبال الجليد.. نخنق بوحنا ومشاعرنا في أعماقنا، ونتظاهر أننا على ما يرام.. هذا يا صديقي لا يفعله إلا الكبار أمثالنا.
هذا الحب يا صديقي حتى وإن كان معاقاً ومصلوباً ومعذّباً إلا أنه تجذَّر فينا إلى حد التماهي وعياً ووجداناً وذاكرة.. حب كابدناه وواريناه تحت الضلوع ناراً تصطلينا من الداخل كالجحيم، إنه الفشل الذي تفوقنا فيه، وأدركنا ما لا يُدرك منه، ولكننا عوَّضناه بنجاح آخر في ميادين أخرى، وبإرادة وإصرار لا يملكها كثير ممن أكتمل حبهم.
هذا الحب بقدر ما سبب لنا يا صديقي كثير من العذاب، إلا إنه ألهمنا إلى مغالبة التحدِّي، وإيجاد ذواتنا واقتحام دروب نجاحات أخرى.. لقد أصبحت أنت دكتورا وأستاذا في أكاديمية، فيما أنا شقِّيت طريقا آخر، ولم نستسلم للموت، ولم نقضِ بقية العمر نندم ونبكي اللبن المسكوب، والحب الذي لم يكتمل نصفه، بل استطعنا بإرادة مضاعفة مغادرة دائرة الفشل، والعبور إلى المستقبل، رغم المعوقات والكوابح والظلام الكثيف.
إننا يا صديقي نشبه ذلك المعوق الذي بُترت ساقيه في الحرب، إلا أنه غالب وغلب إعاقته، وحقق من النجاح بعد الإعاقة أكثر مما حققه وهو سليم معافى، بل وحقق ما لم يحققه كثير من أقرانه المتعافون عقلاً وحواساً وبدنا.. النجاح يا صديقي أن نحوّل نقاط ضعفنا إلى قوة، ونقصنا نتجه به نحو كمال ننشده.
***
كبر حبّنا يا صديقي حين أحببنا اليمن، وإذا تكررت مأساة الحب من طرف واحد، فيكفي يا صديقي أننا نعطي هذا القدر العظيم من الحب الذي لا يبلغه إلا من ينكر ذاته، ويجيد الفداء والتضحية، ولا يكترث بمن يُعيّرنا بالنقصان.
إننا كبار يا صديقي؛ لأننا نحب بعفة، ودون أنانية تنال منه، أو لوم لطرفه المقابل.. نحاول أن نغدق الحبيب بوفرة الحب دون مقابل، حتى وإن كان لا يعلم به، ولا يلتفت إليه، ولا يهتم فيه.. إنه العطاء دون حدود، ودون شرط عطاء مقابل، كثيراً كان أو قليل.
نتعذب في أتونه.. نصطلي ونشتوي في جحيمه، دون أن نفصح لمن نحب عن هذا العذاب الذي نعيشه مليّا، ونكابده وحيدون بصبر وجلد، ونكتمه بعذاب أشد، ولا نخبر به مخلوقاً، ولا ننبس ببنت شفة عن غلول هذا العذاب.
نلتمس للحبيب ألف عذر حتى لا يدركه ألم، وإن كان بريشة فنان أو رسام.. نستجمع حرصنا حتى لا يدرك الحبيب لوم أو عتب، بل ونحمّل أنفسنا السبب في نتيجة ما حدث، ونحول دون أن نلحق بمن نحب ندم أو سؤال.
إنه حب كبير لا تبلغه حماقة أو مراهقة أو أنانية أو مصلحة.. إنه حب الكبار الذي يتعالى على الصغائر.. حب عظيم ومضاعف حتى وإن سميناه ناقصاً، أو رماه غيرنا بتهمة النقصان.. إنه الحب الذي في سبيله يستشهد صاحبه.
الحب الناقص دليل ومرشد إلى الكمال.. الشهيد هو الذي يرى الناس به الحب المكتمل.. الناس لن تعرف النور إن لم يكن هناك ظلام وعتمة، ولذلك أستحق صاحبه لقب “الشهيد”، ويزيد الأمر شهادة أننا ننفذ مشيئة الله على حساب هذا الحب المعطاء والكبير.
أحببنا اليمن حتى غرقنا في حبها، والغريق شهيد، والغرق في الحب أولى بالشهادة والشرف.. ربما كانت منهكة.. ربما أنطلت عليها المؤمرة.. ربما خُدعت أو استدرجت إلى ما لا تريد.. ربما الجهل هو المذنب لا هي.. ولها نلتمس ألف عذر.
ومثل هذا يقال.. أحببنا شعبنا، ولم نخذله أو نفسده، ولم نفرِّط يوماً في حقوقه، ولم نبيع فيه ونشتري، ولم نسقط في وحل الارتهان، وازدرينا كل التفاهات التي تصنع النجوم الزائفة، وإذا كان شعبنا قد خذلنا يوماً أو ألف يوم، فلن نلعنه، ولن نسوّد صفحته، بل نقول عدونا هو الجهل لا سواه.
***
(13)
تعاكس أقدار المحبين
جل قصص حبي خائبة، غير أن قصة حب مغايرة خيبت فيني أمل المحب.. هي نقيض تلك القصص التي أعتدتها وألفتها.. في هذه القصة ربما كنت أنا الجاني.. ربما جنيت عليها حتى أحسست أني أحدثت في رأسها مقبرة.. حفرت فيه مغارة مظلمة تركض فيها أشباحي المزعجة.. سببت لها كثيرا من الألم والوجع، وإن كان دون قصد أو عمد.
كانت ذكية ومتفوقة.. عفيفة وطاهرة.. صبورة وكتومة.. حصيفة ومخلصة.. هادئة كبوذا، وعاقلة كحكيم الصين العظيم.. من أسرة شفيفة.. تملك من العقل رجاحته، ومن الروح سماءها المشبعة بالشفافة والجمال.
لستُ وحدي من حب وجلد نفسه في جحيم الحب الناقص نصفه.. لست الوحيد الذي بحث عن توأم روحه في متاهات وجودية خاسرة.. لطالما وجدت نفسي في معادلات حب أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها غير عادلة.. لطالما حالت الأقدار دون أن يكتمل الحب المنقوص بحظه العاثر، وقلّة الحيلة المهدودة بتكرار الخسران، وفداحة الخيبات المتعاقبة.
لست وحدي من فقد حيزه الوجودي لصالح الفراغ الذي ألتهم ذلك الحيز الذي كان يبحث عن نصفه المفقود، فاجتاحه الفراغ، وتمزق تحت دواليبه المجنزرة، وأنتهى حبه إلى خسران موجع، وذكريات اليمة، وبقايا إنسان يندب بقاياه المتلاشية، ويرثيها بحزن عميق.
مثل قصتي مع “هيفاء”، كانت لهذه الفتاة قصتها معي.. كان للحب مسارات متعاكسة لما كنّا نتمنى ونرتجي.. عتبتُ على أقدارنا التي وضعت قلب كل منّا في مكان قصي، أو على مدار مختلف.
كنتُ شارداً عنها في البعيد، موغلا في التيه، غير مبالٍ ولا مكترث إلا بما كنت أعيشه من خسران الحب المستمر الذي ألقى على عيني العمى، وسد مسامعي بالشمع الأحمر، وكتب على جدار القلب مُغلق من قبل المحكمة.. وعند علمي بحبها تمردتُ.. حاولتُ أن أساعدها وأساعد روحي المهشمة من خيبة الحب الكفيف.
كنت ما زلت أعاني من فقدان هيفاء وفراغها الملول، ومن خيبة تلاحقني وتقتفي أثري أينما ولّيت.. لم أفطن لحب الفتاة إلا في الأشهر الأخيرة من سنتي الرابعة في كلية الحقوق.. السنة التي يتجاوز فيه المحب ما أهدره من الزمن الذي فات، محاولا اللحاق بالفرصة الأخيرة.. فرصة تغتنم ما بقي من وقتها الضائع، والرجاء الأخير للمحب الكتوم.
حاولت التأكد من حبها حتى لا أجد نفسي متوهماً على غير الحقيقة.. طرحتُ كل الاحتمالات في مبحثي حتى لا أكرر خيبتي.. اختبرت كل فرضية أتت.. أجبت على كل الأسئلة.. وجدت الخلاصة كلها.. إنه الحب منها لا سواه.
لا أدري متى بدأ إعجابها أو صرتُ محلا له!! لا أعرف متى بدأت تفكر أن نكون معاً!! لا أعلم إلى أي مدى كانت تحبني؟! لم نتحدث عن هذا، واكتفينا بالإيجاب والقبول.. تركنا بحث التفاصيل إلى المستقبل الذي غادرنا هو، أو نحن من تركناه.
كل ما فعلته من جهتي حيالها كان يشبه قفزة الكنغر، ولكن إلى مكان أحسست أني محاطا بما هو مجهول ومستصعب.. لم أستطع المضي فيه إلى مستقبل مجهول، واستصعبت العودة إلى المكان الذي أتيت منه.. خياران بين ذهاب وإياب.. وجدت نفسي على صخرة محشورا في وعر أحاط بي من كل اتجاه.
نقبل على الحب حيث تدبر حظوظنا فيه.. نلوذ بمن ليس لنا فيه ملاذ أو أمان.. نعبر فتعترضنا نتوءات الخيبة التي لا تلبث أن تكبر وتصير أكبر منّا.. عقبات كأداء تعترض طريقنا وتستنزف أرواحنا قبل الوصول.. نحتشر في المأزق الذي يضيق حتى يُطبق علينا من كل الجهات.. تتكوم الموانع في وجوهنا.. تعترض النحوس أقدامنا المنهكة وخطواتنا المتعثرة.. ننزف في الانتظار الطويل ولا يأتي الحبيب.. نصير أنقاضاً تحت أقدامنا المثقلة بالحديد، لا نستطيع المضي نحو الأمام، ولا نقدر على العودة من حيث أتينا، وقد صرنا ركاما من حطام.
تتحول فسحة الكون الفسيح في وجوهنا إلى أضيق من زقاق مملوء بالمخانق.. أحلامنا الكبيرة تتحول إلى كوابيس مرعبة ترفض الرحيل عن بقايانا المبعثرة.. آمالنا العراض تتلاشى في التيه وتنتهي إلى وهم على وهم، وسراب في سراب، وما كان لنا متسع في الأمس يتم خنقنا فيه بقبضات ثقال تجهز على أنفاسنا اللاهثة والباحثة عن نصفنا الآخر، أو نصف الحب المفقود منّا إلى الأبد.
حاولتُ الخروج من مأزقي المحشور فيه، وأصنع ممكنا في وجه استحالتي التي رجوتها متوسلا أن تطاوعني لأجل من تحبني.. تمردت على حكم المحكمة.. حاولت أن أفتح لها في جدار قلبي شرفات للحب والفرح؛ فأدركني الفشل الذريع.. أصبتها بجرح عميق دون أن أدري كم ظل ينزف!! يا لنبلها الآسر وكبرياءها الأبي وكرامتها التي شمخت في وجه جرحها ونزيفها وحزنها الوخيم.
حاولت أن أفتح لها شغاف قلبي.. فرشت لها سجاجيدي.. حاولت أن أفتح لها أبوابي وشرفاتي.. دعوتُ الحمام إلى نوافذي المحبّرة بالهيام.. حاولت أن أجد لفرصتها في قلبي مسار متسع.. لم أتريث ولم أطلب منها فُسح أو مُهل.
عرضت عليها الزواج فوافقت.. شرحت لها ظروفي فلم تعترض، ولم تبدِ حيالها أي مانع.. أرجأنا بحث التفاصيل فأدركنا المحاق ولم نلحق بحثها.. بين بدايتي معها وطلبي الزواج منها ضيق لم يتسع غير أسابيع قليلة.. ثم تبدل الحال بعده.. ظلت الفجوة بيننا تكبر وتتسع بصمت وتجاهل، فيما كنت أعتب على نفسي: يا لعجلي الذي داهمني كطوفان أجتاح تريّثي، وأودى بي إلى ما صرت فيه!!
داهمني السؤال وقد أدركني الندم: ماذا دهاني لأفعل ما فعلت؟!! هل هو تعويضا لما عشته في الحب من فشل وإخفاق؟! أم بسبب إضاعتي للفرص؟! أم هو استجابة لضغط فراغي وفقداني لمن أحب؟! أو هو ظني إن العجل سيلتقطها قبل فوات الأوان حتى لا آتي متأخرا وأندم على ما فات؟! أو هو التوكل وخدعة المثل: “خير البر عاجله”؟! أم هو كل هذا وذاك؟!!
كان حالي أشبه بمن يلاحق كرة الحظ الصغيرة في يوم مطير على أرض زلقة، فانزلق بعدها إلى المنحدر.. كنت أحمق عجول يطلق وعد الوصول دون أن يفكر بعثرات الطريق ووسيلة النقل والمسافة بين البداية والنهاية.. كنت أحمق أضع العربة قبل الحصان، وألسع الحصان بسوط العجل.. فقدنا التوازن وانقلب الجميع، ووجدت عجلي مجرورا بعجلات الندم.. حاولت إصلاح مدار أقدارنا المتعاكسة، فجاءت الأقدار على غير ما نريد.
حاولت أن أمنح لها في قلبي الفرص لعلِّي أحبها، فأدركني الفشل المؤكد، وأدركت هي فتوري وترددي الذي ظل يكبر.. تخاتلت كقطة.. مشت بأطراف الأصابع.. أدارت المفتاح في مغلق باب الخروج باحتراف لا تسمع منه تدويراً أو طقطقة.. فتحت الباب بخفة دونما أسمع للباب صرير أو رجوع.. انسلت بهدوء كنسمة هواء.. غابت بعيدا في غروب لا يعود.
بلعت جرحها النازف بصمت صبور، ومضت دون رجعة.. وبدلا من أن أساعدها هي من ساعدتني على تجاوز ما كنت فيه.. أخرجتني من حيرتي التي كنت أغرق في قاعها.. أنقذتني من ورطتي التي تشبه حفرة عميقة كلما حاولت الخروج منها انهال على رأسي التراب.. رأسي المثقل بالحياء.
وفّرت عليّ كثير من الحرج الذي يشبه الموت.. غادرت دون حقيبة أو وداع.. لم تحاول طرق بابي ثانية، ولم تلقِ في وجهي كلمة من عتب، أو حتى سؤال عابر سبيل.. غادرت إلى الأبد، وبقيت ألتمس عفوها والمغفرة.
حبي لم يكن بيدي ولم يكن رهن ما أرغب.. الحب في قبضة الأقدار ليس لنا فيها ولاية.. لا نملك إصلاح مسارات أقدارنا المتناقضة..
كم أنا أسف وكل الأسف إن كنت يوما قد كسرت قلبها.. لقد تعلمت واكتشفت كثيرا أن ثمة خلل موجود في مسارات الحب وكيمياء النفوس، وفي أقدار البشر، وربما ما هو أكثر وأكبر.. لك كل اعتذاري يا أطيب البشر.
***
(14)
خطوبة وخيبة
أصابتني خيبات متلاحقة بعضها يفوق الاحتمال.. داهمني الفشل الذريع مرات عديدة.. رافقني الخذلان كثيراً.. مررت بانكسارات غير قليلة.. نزلت على رأسي ضربات موجعة.. جيوش من المخاوف ظلت تلاحقني.. مررتُ بلحظات ضعف، وأسئتُ التقدير في أحايين كثيرة.. لازمت حياتي نقاط ضعف اعتدتها، بل وجدتها بعض منّي وجزء من تكويني.. عشتُ هزائمي في الواقع، وتجرعتُ معها مرارات الحقيقة.
وفي المقابل أظن أني احتفظتُ داخلي بما هو أهم.. لا أيأس، فإن حل اليأس في وجداني، ودب دبيبا في شراييني لحظة انكسار أو هزيمة، فإنه لا يطول، وإن طال أتأمل في التأريخ والفلسفة؛ فأستوعب ما حدث وأتعظ؛ فيتجدد الأمل، وتعود الحياة نابضة، وتتوطد ثقتي أن يأسي لن يدوم، حتى وإن طال به المقام، وأعلم بيقين أن دوم الحال من المحال.
ومهما كان الحدث صادماً وجسيماً؛ فأنني أعلم أن الحياة ولادة دون انقطاع، ولن تتوقف عند زيد أو عمر من الناس، وأن القوانين الفلسفية ستظل تفعل فعلها في الوعي والمجتمع، وأن ما حدث ليس نهاية التاريخ ولا هي ختامه، بل سيسمر التاريخ في صيرورته وجريانه، رغماً عن الجميع، وعلينا الفهم والاتعاظ.
وعلى المستوى الشخصي أجد نفسي أرفض أن أموت وأنا ما زلت حياً.. لا أكف عن المحاولة.. أثابر من أجل الوصول.. أنهض واستمر بالسير عقب كل كبوة أو وقوع.. استعيد توازني عقب كل صدمة.. أغالب مخاوفي وأنانيتي.. أتجاوز نقاط ضعفي بتعويضها بنقاط قوة موازية، وفي وجه الهزيمة أمارس وجودي رفضاً وصموداً ومقاومة، أو على حد تعبير أحد المفكرين: “لستَ مهزومًا ما دُمْتَ تقاوِم”.
أستريح عندما أتعب.. أرمم روحي عقب كل تهالك أو تهشم أو انكسار.. استعيد نفسي دفعة واحدة، أو على مراحل إن أقتضى الحال.. أتعافى.. أعود وافر الروح، وبمعنوية دافقة.. أراجع بشجاعة.. أعيد النظر والتقييم بجُرأة.. أنتقل للبدائل والخيارات الأخرى كلما وجدت ذلك مناسباً، أو ضرورياً وممكناً.
كنت أحدث نفسي: يجب أن أتعافي مما أنا فيه، وأن لا يدركني اليأس.. ألم يقل أحدهم: “لا يأس مع الحياة”.. الأمل وحده هو من يبقينا أحياء ولا يجعلنا نستسلم لموت مغلّظ وساحق.. فقدان فتاة أو أكثر ليست آخر العالم.. الفتيات كثار والأرض واسعة.. يجب أن لا أكف عن المحاولة.. يجب أن لا تنطفئ فيني جذوة الأمل وانتاج الحلم.. لزم عليّ السعي والمثابرة.. سأجد أبواب مشرعة، وشرفات مفتوحة، وربما قلوب تنتظر مجيئي على أحر من الجمر.
الحياة خلاقة مهما أجهمت.. الأمل يتجدد.. تحويل الفشل إلى نجاح في متناول الإمكان.. تجربة الفشل تضيف لصاحبها معرفة جديدة، بل قال بعضهم: هي أول خطوة في طريق النجاح، وقال آخرون: تمنح الخبرة الواعية على هذه الطريق.
ربما أيضاً يبتسم الحظ في يوم قائض، وتمطر السماء بمزنها.. ربما هناك صدفة تتحين اللقاء، أو بشارة لطالما تم انتظارها.. لازال في الآتي ما هو أجمل.. ألم يقل أحد الشعراء “أجمل الأيام تلك التي لم تأتِ بعد”.. هكذا كنت أحدث نفسي وأعيينها في مواجهة انكساراتها وما أصابها من نيل وخذلان.
***
أريد أن أتزوج فتاة فقيرة لا تملك قيمة حذاء.. فتاة عنيدة في وجه مصاعب الحياة وتقلباتها.. تكون مستعدّة أن تعبر معي وادي الجحيم الذي ربما أُرغم على عبوره ذات يوم.. لا تتركني وحدي وسط الطريق إن أظلمت أو دلهمت.. لا تتخلى عنّي حتى وإن صبت السماء وجومها ناراً على أم رأسي.
أبحث عن فتاة لا تخذلني في شدّة أو ملمّة أو ضيق.. تبحث عنّي إن أطبق الحزن قدره، وضرب البين جفوته.. تلاحقني بوفائها وغفرانها وطيبة نفسها، ولا تتخلّى عنّي إن بئس حالي، وتوحشت أقداري، وخانتني الآمال، وتخلّت عنّي الحظوظ، وصار بختي في الدنيا ألم وحسرة.
ثم أسأل نفسي: هل أجد زوجة كتلك؟!
أريد فتاة أستطيع أن أساعدها.. أعيد صياغتها وأرتقي بها.. نرتقي معاً إلى سماء نبحث عنها، وفيها ما هو أسمى وأجمل.. أريد فتاة جميلة.. أليست أحياء الفقراء مسكونة بالجمال؟ أليس في الغجر أجمل الفواتن؟ أليس الفقراء حباهم الله بجمال آسر وأخاذ؟ ألم يقل أحد الشعراء لربه: “انت جميل تحب الجمال”.
***
وجدتها في “ريف الجبل”.. أمعنتُ في قولي: “وجدتها بعد إعياء وبحث”.. العجز شل لساني!! “جميلة جدا”.. هذا وصف وضرب من الهذيان الذي لم يعد بمقدوره أن يطول مقامها.. إنها أكبر وأكثر من الجمال كله.
“جميلة جدا” جملة وصفية تقف دونها وصفاً وخيالاً.. جملة لا تليق بما أشاهده أمامي بأبعاده وآماده وكثافته.. كل الكلمات حاسرة، وكل المحاولات خاسرة، مهما تناهت في الجمال.. كلها باتت دونها ولا تليق بمقامها.
يا لفقر الكلمات وفراغها، ويا لوصف ينتحر خجلا على أعتابها.. أي لغة تملك الجرأة أن تدق بابها.. لم أكن أعلم أن العربية بجلها وجليلها.. قضها وقضيضها، عاجزة أمام مهابة هذا الجمال الذي لا تغادره دهشة من يراها.. لغة البلاغة والفصاحة والخطابة تصحرت في حضرة جمالها الباذخ!!
كأنها لؤلؤة جاءتني من قاع المحيط!! “لؤلؤة”؟!! هذا أيضاً تشبيه لا يليق بوصفها.. هي هبة السماء.. درة كونية جاءتني من فضاء بعيد وعالم آخر.. ألف معجزة.. من غير العدل أن ينتعل كل هذا الإبهار والجمال حذاء مهتري!!
إشراقات الكون تجتاحني.. ما أراه فاق تصوّري وخيالي.. السماء تمطر فيني فرحة وبهجة.. تتلألأ في عيوني.. تشتعل في وجداني.. إيقاعات صوتها تجرفني إلى دلتا خصيبة.. نهداها أرجوحة سماوية.. حلمي يتمرجح بين المشارق والمغارب.. تناديني مفاتنها: هنا وطنك الذي لطالما بحثت عنه في المتاهات البعيدة، فيما كانت هي ودارها على مرمى حجر.. غشيت الأبصار وتاهت الأفئدة.
احتشدت فيني ألف دهشة.. غمرتني بشلالات ضوؤها حتى غبت عن وعيي انبهارا ودهشة.. الألوان ترسل ضوئها فتخطفني وتأسرني في فتونها.. قوس قزح يكلل وجودنا بتيجان المحبة والفرح.. فيضها بات أكبر من عالمي.. يتمدد في مدى لا ينتهي.
أحببتها من النظرة الأولى.. من الوهلة الأولى.. أصابتني بكل سهام العذارى.. اصطادتني بكل شباك الفاتنات الحسان.. أوقعتني “المجنونة” في حب مجنون مختلف.. أوقعتني من نظرة أولى.. من وهلة أولى.. من لحظة أولى.. تملكتني من أول مشهد وأول مشاهدة.
هنا حط رحالي، بعد فراغ أتسع، وشعور بتيه وفقدان.. هنا وجدت كل المواسم والفصول.. الأعياد والهدايا.. الصوت والصدى.. الفطرة والنقاء.. الحقول والأغنيات.. هنا ملاذ ومستقر لمن أحب، بعد بحث وترحال وسفر.. هكذا حدثتُ نفسي حالما وجدتها، بعد تعب وعي..
أفرط جمالها وبذخ.. تعدّى الكمال!! جلّت قدرة من خلق.. كيف لألف معجزة أن تتكثف في واحدة؟!! أسرتني.. تملكتني.. خطفت قلبي من منبته.. قلعتني من الجذور.. صادرتني دون محضر أو استلام.. انتزعتني من وجودي.. ضمتني إلى وجودها دون سؤال أو خيار.
كان رضاها بي تاج وعرش ومملكة.. خطبتها في لجة الليل.. كتمت سري حتى لا يفتك به حسد ولا تصيبه عين.. كان هذا عيدنا.. عيد مكلل بالرضى.. مغموراً بالسعادة والفرح.. ولكن كانت عيون الليل متربصة، وكان للجدران آذان، وكان السر قد تسرب من أهلها، حتى فشي وأنتشر.
بعد أيام أنقلب الحال إلى محال.. صدمني خبر بالغ السوء.. قطعوا أملي بصاعقة.. متطرفو حماة العقيدة وحراس معبدها أطاحوا بفرحي.. ضغطوا على الأسرة البسيطة لتغيّر رأيها.. كلحت السماء في وجهي واسودت.. هبط الليل ثقيلا في عز النهار.. وكان العذر أقبح من كل ذنب.. قالوا أنني “شوعي وملحد”.
عدتُ أدراجي كسيراً ومتعباً ومثقلاً بخيبة لا تقوى على جرّها خيولي المنهكة.. عدت وقد كسروا ظهري وهدوا كاهلي.. عدتُ وأنا أغالب الكآبة والكمد.. عدت ألملم حطامي.. أشلائي المبعثرة وروحي الممزقة.. حلمي المبدد بعاصفة.. قتلني المتطرفون من كهنة الدين، وحماة العقيدة.
***
(15)
زواج الخمس دقائق
يمضي الزمان إلى الأمام في وجهته ولا يعود.. لا يكتمل مساره ولا ينتهي.. يغادر ماضيه إلى الآتي على نحو مستمر دون توقف أو عودة أو انتظار.. أما أنا فلم أكن أبالي بما يمر من سنين عمري حتى خلتُ أن بمقدوري الاستيلاء على مقوده، والتحكم بفرامله، وتغيير وجهته؛ فاكتشفت أن أيامي تمضي بعجل دون مهل، وعمري ينفذ بسرعة، وما أنقضى منه لا يبقى ولا يعود.
أعانس أنا؟!! بدأت خيبتي على صفحة مشاعري كحبر يفيش عليها ويتسع.. بدأ خجلي يعرِّيني ويكشف قلة حيلتي.. هلعي بدأ يزداد، ويزيد في إيقاظ محاذيري المنسية، ويثير مخاوفي التي لطالما سخرت منها، ودفنتها في أعماقي البعيدة، فيما مضى من سنين عمري المهدرات.
مرت السنون كما تمر السحاب.. سحاب صيف لا غيث فيها و لا رشة مطر.. أحسست أنني أدنو من “عنوسة” الرجال، وأنا أدخل عمر الثمان والعشرين عام، وما يمر من العمر لا يعود ثانية.. أحسست أن الانتظار الطويل وخجلي المسيطر سيسرقان سنين عمري الباقيات.
كانت تذهب منّي جميلة، فأرفض أن تأتي دونها، وأذهب للبحث عن الأجمل؛ لأتجاوز ما قبلها، وكانت خيبتي في كل جولة حب، تكبر وتشتد، حتى بديت كأنني أقامر القدر، وأريد أن أغلبه.. هكذا كان التحدِّي، وكان السباق والفشل.. لا أدري إن كنت ما أعانيه مرضاً أم سوية؟! تحدٍ أم اختلال؟! طبيعي ومعتاد أم اضطراب نفسي وسلوكي يحتاج إلى دكتور وعلاج.. هل ذهب الجمال إلى البعيد، وهبط الندم كقدر؟! لقد عشتُ أسئلتي وجحيمي لوحدي.
كنتُ قد بالغتُ في شروطي كلها.. بديت وكأنني أريد إعجازاً، أو تعجيز القدر.. أبحث عن عين المستحيل، وبشروط لا أجدها في أرض أو سماء، ولا في مخيال البداوة الندي.. الحظوظ وسط التعاسة بين محال ونادر، والصدف تشبه المستحيل العصي، وإن وجدتها؛ صارت الاستحالة مرتين؛ فمن تلك الفتاة التي أضمن رضاها، وكيف ترضى بأقداري البائسة.
أفقت على واقع مختلف وصادم، وأن ما مضي من عمري مهدور لا يعود.. أحسست أنني في النهاية سأحصد الخسارة كلها، وأن الدبور لن يغادرني، بل الأكيد أنه سيرافقني إلى النهاية، وبكلفة لا أحتملها مهما صنعتُ، طالما أن ما أبحث عنه صار بسقف أكبر من المستحيل.
شعرتُ أن عمري يمضي بإيقاع سريع، وما كنت أبحث عنه بدا لي خليط مركز ومركّب من المحال.. مثقل أنا بخجلي الكبير، وعُقدي المعلنة، وغير المعلنة المحبوسة في دهاليز أعماقي البعيدة، وتناقضاتي التي تحتدم داخلي، وضميري المقاوم لزيفي وعقدي التي أخفي وأداري بعضها في الزوايا البعيدة المظلمة حيث لا تصل إليها شمس ولا ريح، فضلا عن معاناتي من مجتمع مثقل كاهله بتخلفه، ومشروط بواقعه الثقيل.
أحسستُ بحاجتي إلى تحرير وعيي من أنانيتي وعنادي، ومقامرة لا أحصد إلا الخسارة والندم المكرر، كما شعرت أن واقعنا بحاجة إلى تحرير أنفسنا ممّا نعانيه من عُقد وموروثات تمنعنا من أن نتصالح مع أنفسنا، ونحسن اختيار من نحب في ظروف سوية.. ما أحوجنا إلى نقد وتفكيك وتعرية ثقافة العيب التي تثقل كواهلنا، وتجعلنا نخسر، أو ننافق ونخاتل، ونرتدي ثياب الزيف، ونخفي دمامة وبشاعة الوجوه بالأقنعة المزيفة.
***
حدثت نفسي: يجب أن أهزم خجلي أولاً.. هذا هو بداية الطريق.. لم أعد احتمل مرور الوقت عبثاً دون طائل .. يجب أن أجد فتاة أحلامي بوقت قريب وبأسرع ما يكون.. العمر ينفق سداً.. يذهب كالريح.. عليّ أن أسارع الخطى حتى لا يدركني الندم، وقبل أن يفوت قطار العمر الذي لا يعود.. كنت أعيش كثيراً من الضغوط، فضلا عن شعور اللحظة التي كنتُ أعيشها، واحساسي بالتعاسة والضجر، والخوف الذي يكبر من ندم كبير بات يقترب.
وأنا أغادر منزل صديقي نصر عبد الجليل في التواهي، خرجت حسناء من البيت التي في جوارهم، عائدة إلى بيتها القريب.. كانت فتاة جميلة ومشرقة ونابضة بالنور.. أسرعت في خطاي لأدرك السير في محاذاتها، ثم ملتُ إليها قليلاً برأسي الذي أثقل كاهلي، فيما كانت عيوني ونظراتي لازالت مصوبة نحو الطريق.. قلت لها:
- هل تتزوجيني..؟؟
قلتها دون مقدمات وأنا أريد أن أسحق خجلي، وأختصر طريق الألف ميل بخطوة واحدة، وأقطع بها دابر العنوسة التي توقعت إن طالت ستتحول إلى عقد إضافية، وربما إلى رهاب لا يزول.
ألتفتت الفتاة إليّ بدهشة مُربَكة، و لم ترد على طلبي ببنت شفة، بل ركضت مهرولة إلى بيتها الذي كان بمحاذاة الطريق في مكان قريب.
فتحت شرفة بيتها، وأطلّت منها تحدج فيني بدهشة ولهاث وأنفاس متقطعة.. يبدو أنها لم تستوعب بعد ما حدث لغرابته.. صحيح إنها غرابة تثير فضول الحجار، ولكني كنت في الحقيقة، جاداً وصادقاً ومستعجلاً حتى النفس الأخير.
***
وفي “التواهي” أيضاً وفيما كنت ذاهبا إلى “منتزه نشوان” أيام ألقه وشهرته، شاهدت فتاة في وجهها مملكة من الحسن والجمال تستحق أن أسحق من أجلها خجلي الكبير.. راقت لي وعزمتُ على البوح لها بما أريد بسرعة واختصار لا يخلو من كثافة وعجل، أتمه بطلب الزواج منها.
لحقتُ بها، بعد أن عقدتُ العزم على الحديث معها خمس دقائق، ويكون مسك الختام طلب الزواج منها.. وعندما استوقفتها بجملة “لو سمحتي.. لو سمحتي” ركبني الإرباك، وخانتني اللسان، وخانتني شجاعتي أيضاً، وبدلاً من أن أقول لها: “ممكن أتكلم معك خمس دقائق” قلت لها: “ممكن أتزوجك خمس دقائق”.. فيما هي بدلاً من أن تشيح بوجهها عنّي، وتمضي إلى سبيلها؛ استدارت نحوي، تتفرس في وجهي الذي كان مكسو خجلاً ونكسة، ثم قالت: “أني لا أتكلم مع مجانين” ومضت في طريقها، وتركتني خلفها أجر خيبتي كمذَنّبٍ منتحر.
داهمني إحباط شديد، ولعنتُ خيانة لساني وخيانة شجاعتي، وحظي العاثر أيضاً، ومع ذلك أدرجتُ ما حدث في إطار “الفشل بشكل أفضل” الذي تحدث عنه الكاتب والأديب والناقد الايرلندي “صوميل بيكيت”؛ حيث وأن تجاربي السابقة كانت تهدر سنوات من حياتي، ثم يأتي عقبها الفشل والحصاد المر.. أما هذا الفشل فإنه يتفهم قيمة الوقت ولا يهدره.
***
(16)
خيبة كمقصلة
في سباقي مع الزمن أنخفض سقف شروطي حيال الفتاة التي أبحث عنها لتكون شريكة حياتي في المستقبل، بعد أن أحسست إن العمر يمضي سريعاً دون انتظار أو مبالاة، وشعوري أني أرزح تحت ضغوط نفسية واجتماعية شتّى ترى من غير العادة والسوية حيال كل من تقدم بالعمر نحو الثلاثين دون زواج، فيما جل أقراني كانوا قد تزوجوا قبل أن يبلغوا سن العشرين عام، أو أكثر بقليل لمن تأخر.
بدخولي سن الثمان والعشرين عام أحسست أني أخوض مواجهة تشتد كل يوم مع وعي مجتمع مثقل ومحكوم بطغيان موروث من العادات والتقاليد والثقافات التي تستنكر وتنتقص من أي شخص يمضى نحو الثلاثين وهو أعزب.. لا أذكر أحد من اسرتنا أو قبيلتنا قد تأخر في زواجه إلى مثل هذا السن.
إن ولوجي في عمر الثمان والعشرين سنة قد جعل العنوسة بمعيار مجتمعي تزحف نحوي كتمساح.. تطرق بابي بيد من خشب.. تقذف وجهي الخجول والمتسربل بالحياء بشرر نظراتها وسهامها الحداد.. ومع ذلك لم أتنازل عن الجمال الذي أبحث عنه، وإن تنازلت عن المغالاة المفرطة فيه، واستمريت متمسكاً برفضي الشديد أن أفطر بالبصل بعد صيام دام طويلا، وتماسك أستمر دون تراخي، وصبر أشبه بـ”صبر الحجر في مدرب السيل وأكثر”.
كنت أحدث نفسي: إذا توفر الجمال الذي يناسبني، فكل شيء غيره قابل للبحث والتعاطي؛ فطالما هناك فترة خطوبة فالأمر فيه رحب وسعة.. لابأس أن تكون مرحلة الخطوبة مرحلة أفرز فيها ما هو ممكن عمّا هو مستحيل.. تفاوض أحاول أن أجد فيه نفسي أو أحاول إعادة صياغتها في مخاضي مع الحبيب، ثم نمضي معا لنكمل مشوار العمر الطويل، أو ما تبقي لنا منه.
في فترة الخطوبة يمكن بحث كل شيء، وأولها الملائمة، وأعني ملائمة كل منّا للآخر.. وتقدير مدى إمكانية نجاح الزواج مستقبلا من عدمه، ثم اتخاذ القرار أما بالمضي فيه، أو التراجع إلى الخلف إن وجدتُ أسباب تستحق الوقوف عليها، أو تحملني على هذا التراجع وفسخ الخطوبة.. هكذا كنت أحدث نفسي، وأنا أفكر وأفترض كل الاحتمالات.
***
في إحدى الأيام وفيما كنتُ ذاهبا إلى بيت عمي “الحربي” في دار سعد، شاهدت بالصدفة فتاة تطل من باب بيتها جوار منزله القريب.. استبشرتُ بها وملئني الفرح وغمرتني السعادة.. ظننتها صدفة العمر التي لا تعوض.. ليلة القدر التي لا تعود.. أو على الأقل الفرصة التي يجب أن لا أهدرها دون محاولة.
لقد ملئت تلك الفتاة عيوني فرحاً، وفاضت منها حُباً وصبابة وسلسبيلاً.. دموع فرح من عيوني تموج، أعادت ثقتي بدنياي بعد يأس وحيرة؛ وقالت لي: الدنيا لازالت بخير، وما زالت الصدف تبحث عنك، وتطرق بابك من جديد، ولعل واحدة منها تكون بألف وعد وألف خير، ولا زال لك في الحظوظ حظاً وفيراً، وفيه أملا وبشارة وولادة.
ورغم أن وجهها كان مخلوب بالحنّا، إلا أنه لم يستطع الانتقاص من جمالها الفارط.. وجهها كالشمس التي تتحدى الغيوم.. محياها يشرق وهجاً وبهجة.. صوتها وهي تدعو الصغيرة كالناي والحنين.. رأسها معصوب بقماش ملون تبدو فيه متوجة بجمال الطواويس.. ملكة بكل المقاييس.
مررتُ من زقاق صغير على مقربة منها؛ لأن الطريق العام كانت مسدودة بـ”مخدرة” تم تحضيرها لعرس قريب.. وما أن اقتربت من الفتاة حتى بدت في عيوني حب يستغرق جنون الحب كله.. ألق وسحر يحلق بك في الفضاءات البعيدة.. دهشة تحملك إلى أحلامك التي ترف في سماءك.. رقة تحتويك من ألفك إلى ياءك ولا تبقي لك همزة ولا نقطة.. أنوثة تناديك وتفجر فيك عوالم من شوق وعشق وفرح.. جمالها الطاغي يترامى في مداك، ويتسع بعد احتلاك.. غرقتُ في ذهولي حتى قاع المحيط.
آسرة إبهاراً ودهشة.. رشيقة كغزالة كادت تطير.. متحفزة بعنفوان مهرة برّية.. نهودها حقول وضباء وأيائل.. شفتاها نبيذ معتق يصطفيك.. عيونها تبرق حنينا وتغدق بالمطر الهتون. سحرها غالب لا يُقاوم.. اصطادت قلبي كعصفور صغير.. صادتني بيسر وسهولة.. بديت في لحظة دهشة كسمكة على سناره صياد محترف.. تراجعت إلى الوراء، فتبعتها روحي الهائمة.
دخلتُ إلى بيت عمِّي، وقد تملكت الفتاة روحي وقلبي ومشاعري.. رحبَّ عمِّي بمقدمي والذي كنت أزوره على فترات متباعدة.. جلستُ وأنا مسلوب اللباب، شارداً في ذهول عميق، فيما كانت خيولي داخلي تركض وتصهل في اشتياق ولوع.. بديت موزعا بين شرودي واضطرابي المحتدم.
- سألني عمِّي: مالك.. أيش في؟!
أجبت: عادي .. ولا شيء.. تمام
أحسست وأنا أقولها أن لساني تجرُّ قطارا دون عجل.. لم يقتنع عمي بإجابتي وبدأ كأنه يريد أن يساعدني باختراع عذر ما؛ فقال:
- بائن عليك تعبان.. مريض.. محموم..
أجبته: ولا شيء.. أنا تمام.
أحسست أن الكلمات تفر مني، وعقلي لم يعد قادراً على جمع حروف مفردة واحدة.
حاول عمّي أن يوفر بعض من إحراجي الذي يجتاحني.. أراد أن يخفف عنّي.. دخل إلى غرفة في الجوار ربما لإعطائي فسحة استجمع فيها أشتاتي وكلماتي.. أستعيد اتزاني وبعض من وعيي الشارد والمضطرب.
حدثت نفسي وقلت: إنها فرصة يجب أن لا تفوتني.. لطالما الخجل ألحقني بالخسران.. يجب أن أسأل عمّي عن تلك الفتاة.. ومدى امكانية طلب يدها؟؟ يكفي ما أهدرته من فرص وسنين طوال.. أهدراي للفرص يعني أنني لا أستحقها.. فرصة مثل هذه يجب أن لا تذهب سدى.. لطالما أهدرتُ الفرص وخذلتها، وخذلتُ معها روحي المتعبة.
وأكمل الحديث مع نفسي: بإمكان فرصة واحدة أن تغيّر كل شيء.. بإمكانها تغيّر مجرى النهر.. كان بمقدور فرصة واحدة أن تغيّر ممشى الطريق، وتختصر مشوار الألف ميل.. فرصة واحدة من سنين طوال كان بإمكانها أن تغيير الحال إلى أفضله.. عاشق وزوج وأب لأطفال يكبرون.
احتدم التناقض في لحظة تستدعي حسمها.. بديت وكأن القيامة قامت واكتظت داخلي.. تجاذبني التردد والخجل واستصعاب الكلام، وبين فرصة تستدعي جمع شجاعتي وجُرأتي.. وفي مخاضه قررت الانتصار للفرصة التي لربما تنتظرني، والبوح لعمّي عمّا يُعتمل داخلي من ثوران واحتدام.
دخل عمِّي فقلت له وأنا أتصبب عرقاً:
- أريد أتزوج يا عم.. فترة طويلة وأنا أبحث عن فتاة تناسبني.. قبل قليل شاهدت فتاة ملئت عيوني في باب البيت التي في جواركم القريب.. أريد أن أخطبها.. أتمنى أن تساعدني في طرح الأمر على أسرتها وتعرفني عليهم ويتعرفون بي.. لعلي أجد فيها نصيب.
أستفسرني عمّي عن البيت وصفات الفتاة التي شاهدتها بتفصيل أكثر.. فرأيته يحاول استجماع ما أرويه بهدوء وأناءه، وقد عرف من هي، ولكنه كما بدأ لي يريد أن يستوثق ويتأكد؛ فذهبت أصف كل التفاصيل من الصغيرة إلى الكبيرة، حتى لا يحدث أي التباس أو أدنى خطاء يمكنه أن يوقعني ويوقعه في حفرة كبيرة وحرج أشد.
أجابني عمي وقد فلتت عليه ضحكة.. أحسست إنها أصابتني بزلزلة.. ثم أعلمني إن “المخدرة” التي تم تجهيزها في الشارع أمام بيتها هي لعرسها.. أمتقع وجهي.. لحظة إرباك اجتاحت كياني.. زادت نبضاتي حتى انعدمت فواصلها وصارت كتيار كهربائي يصعقني.. عاد قلبي من لديها عصفوراً بلا جناح ولا ريش.. عاد يحشرج بصوت مخنوق وغصة ذابحة.
أحسست بالخجل الأشد يستولى على كياني.. خيبة كأنها ضربت عنقي بمقصلة.. أردتُ مواراة وجهي سريعا عندما لم أجد مكانا أدسه فيه.. تمنيت لحظتها حضن أمي لأدس وجهي المهزوم فيه، وأجهش بالبكاء حتى آخر نشيج، ولكن أمي كانت في البعيد.
نهضت دون سيقان تقوى على حملي، وأنا أقول: “ليس لي فيها نصيب” فيما كان عمّي يطلب استبقائي لأستريح ونتغدّى معاً، فيما أنا أستعجل أمري نحو المغادرة، والحزن يعتري بدني، والصدمة تكاد تفجر عظامي.. حملتُ رجلاي التي خارت قواها، ولم تعد تقوى على المشي، وخرجتُ وأنا مكسوراً ومكسوفاً وخائباً أعتلُ جبلاً هد حيلي وكسر كاهلي.. ثم انقطعت عن عمّي هذا لسنوات بسبب خجلي وحيائي، ولم أعد إليه إلا وقد علم أنني خطبتُ من مكان غير بعيد.
***
(17)
أم شريف
“أم شريف” امرأة بلغت سن التقاعد، ولكنها كانت تبدو متينة وكرّاره.. تشبه الصناعة الجرمانية في قوتها وصلابتها.. وجهها الطولي ذو قسمات وملامح جاذبة تجعلها محل رضى وقبول.. متعافية وتتمتع بصحة وافرة.. لديها من الجُرأة ما تبلغ بها أحيانا حد المغامرة.. تجمعني بها صلة قرابة عن طريق بعض الأقارب من جهة أمّي.
وجدتُ ضالتي في “أم شريف”.. إنها الصدفة التي ربما تعينني في الوصول إلى ما أريد.. ألتقيت بها حال ما كنتُ محبطاً للغاية.. بدأ لي الإحباط من خلال تكراره الحثيث لا يريد أن يغادرني، وإذا غفل عنّي بعض الوقت فسرعان ما يعود ركضاً وهرولة.. تارة يقطع أحلامي كصاعقة، وتارة أخرى يقطعها بمنشار، وفي أحايين صرتُ أخاله قدري الذي لا فكاك منه، وأحياناً يبدو لي أنه صار بعض منِّي مثل جلدي ليس بمقدوري أن أخلعه أو أنزعه.
أحسست أن بمقدور أم شريف أن تساعد نصف وجودي بالعثور على نصفه الآخر الذي لطالما بحثت عنه، ولازال في ظهر غيب يطول، أو أجده ولكنه ينتهي إلى سراب أو خيبة صادمة..
لذتُ بأم شريف لعلها تحاول تسريع خطاي للوصول إلى مرادي، والعثور على زوجة مناسبة، بعد فشلي الذريع، وحصادي المُر للخيبات المتعاقبة.
قلت لها:
- يا أم شريف.. أنا احتاجك.. أعتقد أنك تستطيعين مساعدتي أكثر من أي شخص آخر.. أنتِ “الكمندوز” الذي أراهن عليه.. أنت الإنزال المظلي الذي أعول عليه في الوصول إلى ما لا أستطيع الوصول إليه.. بإمكاني أن أعبر من خلالك الأبواب والغرف المغلقة.. أدخل البيوت التي لم أستطع الدخول إليها.. أنت جسر عبوري أتجاوز بك ما أستصعبه.. أصل من خلالك إلى فتاة أحلامي التي لطالما رمتها، وأخفقتُ في الوصول إليها.
يا أم شريف.. أتوق إلى فتاة جميلة وفقيرة وطيبة لأتزوجها.. لا أهتم كثيراً إن كانت تعمل أو لا تعمل.. لا أكترث إن كانت تقرأ أو لا تقرأ.. أهم شيء لدي أن تكون فتاة جميلة، ولديها الاستعداد أن تعيش ظروفي كيفما كانت، وتعبر معي الجحيم دون حذاء إن أقتضى الحال.. أريد فتاة وفيّة تشاركني وجودي حتى آخر العمر.
استصعبت أم شريف فهم كثير مما قلته.. فهمها تعثر هنا وهناك.. ربما لم تفهم نصفه أو ثلثيه، ولكن الأكيد أنها استوعبت مرادي، وأدركت ما أقصده، وما أبحث عنه.. تعاطفت معي كثيراً، وأدركت أنني مُحبطاً للغاية وموجوع.
أبدت أم شريف استعدادها الجم واستجابتها المتحمسة والمجملة لما طلبتُ منها، وصرتُ أصحبها معي في غزواتي.. سرية استطلاعي ومفرزتي المتقدمة.. عندما أكلفها بمهمة مهما كانت صعبة وشاقة كانت تؤدّيها بجسارة فذة.. انطلاقها عند تنفيذ بعض المهام كانت تشبه الصاروخ وهو ينطلق إلى هدفه.. هكذا كنت أشيد فيها وامتداحها من باب التشبيه وضرب المثل مع الفارق.
وفي مرحلة من مراحل البحث عن شريكة حياتي شعرتُ أني استنفذتُ حيلتي، وبديتُ مثل ذلك “الهندي” الذي من شدّة ما يعيشه من فقر وطفر يعود ويفتش سجلات جده لعلّه يجد على الغير دَينا مهملاً لجده؛ فيذهب يبحث عن المديونيات، ويقوم بتحصيلها لتعينه على الحياة.. إنه مثال مع الفارق أيضاً.. فأنا أبحث عن فتاة أحلامي.. فتشتُ في ذاكرتي القصيّة.. وعصرت ذهني عشر مرات، حتّى تذكرتُ وجود أختين ينضحان بالجمال الباذخ الذي يسلب العقول ويستولي على الوجدان.. عرفتهن صغيرات قاصرات قبل سنوات حالما كنت أسكن عند عمّي فريد في “دار سعد”.
قلت لأم شريف:
- الأن لا شك أن الزهرتين قد بلغتا سن الزواج.. لعل أجد نصيبي في إحداهن.. ربما القدر يعوضني عمّا فاتني من فرص وما طال من انتظار، ويجبر ما لحقني من عذابات وما أصابني من خيبات كثار.. جميلات أتقن الرسام ما رسم، وبث فيهن حياة وروح.. إنهن جميلات جداً يجبرن مصابي مهما بلغ.. جمال ينافس بعضه، ومفاتن تتملك القلوب وتسلب الألباب.
وعندما سألتني أم شريف عمّا إذا كنت أعرف بيتهن، سارعتُ بالإجابة: نعم؛ ثم صحبتها معي حتى وصلنا باب العمارة، وأطلقتها في المهمة، بعد أن أرأتها الباحة القريبة التي سأنتظر فيها رجوعها، وأنتظر بصبر ثقيل جواباً، وأنا أحر من الجمر.
كان قلبي يرجف ويوجف في انتظار بدا لي أنه طال.. قلق يغليني على موقد نار.. احتدام بين توقعي لخبر سار ومفرح، ينازعه بشدة خوف يبلغ حد الهلع من خيبة أخرى إن أصابتني ستكون فوق بلوغها صادمة تزلزل كياني وتهدهُ إلى آخره.. وجدتُ نفسي في انتظاري بين سقف توقعاتي العالي، وقاع صلد يُحتمل سقوطي عليه من برج مشيّد.
لم أعد قادراً على ضبط إيقاعات نبضاتي المتسارعة.. خرج قلبي عن مقودي وتمرد.. بديتُ أمام نفسي قائداً فاشلاً فقد السيطرة حتّى على قلبه.. فاشل أيضاً لا يجيد اصطياد فتاة.. شعرتُ بوجود فجوة داخلي تشبه المغارة.. فراغ يتكور في صدري يكبر ويتسع.. قلق واضطراب يزداد حدِّة ويشتد.. إحساس يخامرني مع كل دقيقة من الوقت تمر أشبه بعربة مجرورة بثمانية وعشرين حصان تمر سنابكها على جسدي المنهك بالبحث والانتظار الذي بدا لي أنه طال.
كلما تمادى الوقت أجد نفسي أدور وأذرع المكان الذي أقف عليه طولاً وعرضاً.. أنتظر الرد بفارغ الصبر.. أتوقع وأفترض وأتكهن.. أزداد اضطراباً كلما طال الانتظار أكثر.
كنت أسأل نفسي وأتوجس:
- ماذا يا ترى يتحدثون كل هذا الوقت؟! هل أم شريف أحسنت العرض كما يجب؟! هل ارتابوا بقواها العقلية؟! لماذا لا ينادوني إن أرادوا التعرف على شخصي؟! هل أخبرتهم أم شريف بالمكان الذي أقف عليه؟! هل عاينوني من ثقب صغير أو من تحت ستارة النافذة؟! هل شاهدوا حركاتي القلقة ودوراني وذرعي للمكان، فاستمرأوا المشاهدة؛ ليخلصوا إلى الشك بسلامة قواي العقلية والذهنية؟! لماذا لا يدعونني لأثبت لهم أن قواي العقلية سليمة ومعافاة، وإن اعتراها بعض الضيق والإرباك والقلق؟!
كانت الأسئلة تتزاحم، ورأسي يكاد ينفجر، فيما الانتظار لازال يطول ويضخ مزيداً من الأسئلة المتدفقة والأكثر قلقاً وتوجساً.
وأخيراً خرجت أم شريف من العمارة وفي صحبتها فتاة أظنّها في سن العاشرة أو أكثر بقليل.. كان المفترض أن تأتيني أم شريف وتخبرني بالنتيجة، غير أنها رأتني في باحتي دون أن تعرني بالاً، بل تجاهلتني على نحو غريب، ومضت منقادة كمسحورة خلف الفتاة الصغيرة.. غرقتُ في استغرابي وحيرتي!! لم أعد أفهم ماذا الذي يحدث؟! تبعتهما وكانت عيناي مصوبة نحوهما وتقتفي أثرهما، فيما قدماي تتخلف عنّي وكأني أسحب شجرة.. إلى أين؟! لم أعد أفهم إلى أين!!
دخلن إلى شارع فرعي فقير وغير متسع، بل هو أقرب إلى الزقاق.. فيه ضوضاء وحركة وأطفال صغار.. تبعتهما بحذر وبمسافة أكبر.. شاهدت الفتاة الصغيرة وأم شريف يدخلان إحدى البيوت المتواضعة.. زدتُ غرقاً في حيرتي وذهولي دون أن أفهم ما الذي يحدث؟! ولماذا تجري الأمور على ذلك النحو؟! بديت غاضباً من أم شريف؛ لأنها لم تكشف لي عند خروجها عمّا حدث!! لم تُفهمني إلى ماذا آل أمري؟! وماذا بخصوص من أتيت لأجلهن؟!
كان عليّ الانتظار لا خياراً غيره ولا سواه.. عليّ الانتظار حتى تخرج أم شريف من البيت الأخير الذي ولجته لأسألها عمّا حدث ويحدث، وقد بدأ الغضب يغل ويحتدم في صدري.. وبعد قرابة النصف ساعة ـ وهي فترة بالنسبة لي كانت طويلة وقلقها أشد ـ خرجت من البيت بمفردها.. حاولت أكظم غيضي وأكتم ما بي، لأسمع أي نثرة قد حدثت دون علمي.. وما أن وصلت إلى عندي أجابتني باقتضاب وعجل:
- ما لك نصيب في البنات التي تشتي واحده منهن.. الكبيرة تزوجت، والصغيرة مخطوبة.
قلت لها:
- وليش تتأخرين مادام ليس لي نصيب.. كانت “كلمة ورد غطاها” تكفي.. أيش جلستي تفعلي كل هذا الوقت بدون فائدة.
أجابت: جلسنا نتكلم عن بنت دلّتني عليها “أم البنات”.. ثم ارسلت معي الصغيرة، ودخلتُ أشوف البنت ما شاء الله عليها.
قلت لها:
- يعني خطبتي لي واحده ما شفتهاش.. ماعرفهاش.. أعجبتك أنتِ.. أنا ماعرفيش حتى بصورة.
- قالت: البنت حلوة وصغيرة ويتيمة بتعجبك.. أني فقط شاورت عليها.. أمها لم تكن موجودة.. قالوا أخوها مات، وراحت بيت الموت، وما بتعود إلا بعد أسبوع.. عندما تجي سوف يردوا لنا جواب.
قلت لها وهواجسي تحتشد وتهاجمني من كل صوب:
- ما أدراني إنها جميلة؟! كيف أركن على عيونك؟! أبي شاف أمي ثم ذهب يطلب يدها من أهلها.. كان هذا قبل ثلاثين سنة، وأنا اليوم أطلب يد بنت ما شفتها!! أنا لا أعرفها وهي لا تعرفني.. لم يحدث هذا حتى في زمن جدي!!!
أحسست أني قد وقعت في ورطة.. أتحرق وأشتاط على نفسي في داخلي.. أحاول أكظم غيظي وما يعتمل فيني من نوبة غضب.. شرر يتطاير من عيوني كأنها فرن حداد.. أريد أدق رأسي في أي جدار أمامي.
قلت لها ووجهي يعصره الغضب والندم:
- “غلطة الشاطر بعشر” .. من قال لي أصطحب معي مجنونة؟! الله كم فيني هبالة وخفة عقل!! أين هذه الكلية التي تعلمتُ فيها، وعاد اسمها كلية الحقوق.. والله ما استأهل حتّى بصلة.
فردت أم شريف وقد بدأ غيضها يفيض وصبرها ينفد:
- إذا ما تريدها عادي.. نحن لا خطبنا ولا تزوجنا.. نحن شاورنا بس.. وهم ماردوا.. قالوا لما تعود الأم لنا خبر.
عادت أم شريف أدراجها، وبقيت أنا أحاول أن أرى الفتاة بأي طريقة، فيما لازالت كلمات أم شريف ترن في مسامعي ” بنت ما شاء الله عليها.. حلوه وصغيرة ويتيمة” أثارت تلك الكلمات جماح فضولي.. جعلتني أكثر شغفاً لأن أراها.. يومها صلت وجلت في الشارع ولكني لم أراها.
حاولت أمر من أمام بابها مرات عديدة، ولكنها لم تخرج ولم تطل برأسها.. عدتُ مرهقا، ولكن مع إرهاقي ليلتها لم أنم.. عشت ليلاً أستعجل صبحه الذي تأخر.. وما أن جاء الصباح حتى غادرت مكان إقامتي في “القلوعة” نحو بيتها في دار سعد.. أصريتُ أن أراها قبل أن أبدأ بأي خطوة أخرى.
انتظرت في مكان يسمح لي أن أرى مشهد الدخول والخروج من باب بيتها.. وبعد ساعات رأيت فتاة تكنس وتكرع الكنيس إلى الخارج.. هرعت نحوها.. استطعت أن أشاهدها وهي أيضاً شاهدتني.. عاودتُ المرور كرة أخرى، فأحسست أنها هي، وأيضاً هي أحست أنني هو.
غمرتني سعادة بطول وعرض السماء.. كدت أصرخ “وجدتها.. وجدتها” كدت أطير من الفرح فوق سحائب رخمة مبشرة بأمل كبير يضيء وينتشر في أرجائي المعتمة، والفرج صار يدق بابي بعد خيبات كثار، وفرحة كبرى تقول لي: أنا في الانتظار.
صار حلمي أمام عيوني يقترب منّي ويقول: أنا هنا في مكان قريب.. مُد يداك وسأهبط عليك كوحي إن شئت، أو كغيث يهمي على ملهوف، أو آتيك نصراً مؤزراً يتوج مفرقك، ويبدد حسرتك التي سكنت ممالكك حبك، ويعوضك عوضاً كبيراً عن كل خسران.
أحسست أن السماء السابعة تدنو منّي وتقترب لأطير في فضاءاتها وأرجائها.. شعرت أن الكون كله قد بات ملكي، وطوع يدي.. شعور كثيف فجر لحظة بدت كالانفجار العظيم، أنبثق منها وجودي السعيد، وفجر معها حياة لا تنتهي، وبهجة تغمر ما هو قادم وآت.
اليأس الذي ظل يلاحقني وكاد في الأمس أن يدركني إلى الأبد، صار اليوم مهزوماً ومدحوراً يتلاشى إلى زوال.. وما عشته من خُسران بات معوضاً، وما أصابني من فادح الخيبات صار مجبور ومملوء بالسعادة الغامرة.
غادرتُ المكان وأنا ممتن شاكراً أم شريف:
شكراً.. شكراً يا أم شريف.
***
(18)
أريد أن أطمئن
رأيتها وجزمتُ للوهلة الأولى أنها هي لا غيرها، بإشراقها وجمالها وإحساسي بها، بيد أن شك جاس فيني وأعترى.. هاجس إلى نفسي تسرّب وأنتشر.. تشربت منه ظنوني، وأيقظ الشك فيني الأسئلة!! ما أحوج حاصد الخيبات لقلب مطمئن.. لطالما صادني البخت النحوس، وقلَب الحظ في وجهي المجن، وكم هويت، وكم نُكبتُ في الهوى، وكم وقعتُ وانتهيت.
رأيتها في المرة الأولى بأم عيني الاثنتين.. أبهرتني وأحيت الروح فيني من جديد.. عاد الأمل بعد إخفاق ويأس.. رغم هذا بقى لديّ هاجس يجوس.. ربما عيوني كانت مُجهدة.. عدتُ وعاودتُ النظر.. فركتُ عيوني ودعكتها بالأصابع واليدين.
سألتُ نفسي: هل ما رأيتُ هي الحقيقة ذاتها؟!
- أجابتني الحقيقة: ذلك ما رأيت.
رغم هذا ظل شيء داخلي يشدّني دون علمي ما هو!! اعتلال أم اختلال واضطراب؟! أخشى التوهم والسراب.. نفسي تريد أن تُصدّق بعد يأس وانتظار!! دهشة لا تُصدّق.. وجب التحقُق والتأكد مرتين.
بعد العيان كرّتين، قالت عيوني هي.. هي.. طرتُ بأجنحة الفرح فوق السحاب.. غير أن وسواس قهري تسلل من شق صغير.. خوف تسلل إلى نفسي وقال:
– ان تهوي من فوق السحاب أنت مقتُولا لا محالة.
قلت لنفسي: لن أترك باب موارب، أو التباس يربك أم الحواس.. لزم التحرّي وسد كل المنافذ والشقوق.. لزم التحرر من كل المخاوف والظنون.. حيرتي أشغلتني.. يا أم شريف بددي حيرة نازعتني بين أكسوم ومأرب.
يا أم شريف أنا مثقل بهم ثقيل.. أريد أن أقطع شكّي باليقين.. استجديتها ورجوتها أن تستفيض بما رأت، وما تنامى للمسامع، وتزيل عن فهمي كل لبس محتمل.
أفهمتني أنها هي لا سواها.. هي .. هي .. هي الحقيقة ما رأيت.. هي.. هي لا أختها.. أختها الكبرى متزوجه، والثانية لازالت صغيرة..
فصلّت أم شريف أوصافها، وأنا مُنهمك أطابق.. أعاير قولها على ما رأيتُ.. ثم صرتُ أنا من يصف، وهي تردد كل فقرة مرتين.. ومُؤكدة أنها هي.. هي من رأيت.. تلألأت في وجهي العبوس وهج الشموس البهيجة.. كل شيء بات فيني يضيء ويحتفل.
من يسعني؟!! سعادتي باتت كبيرة.. أكبر من وجودي ومن كل الوجود.. ورغم هذا لازال فيني إحساس يجوس!! هاجس يحثني لتكبير الحقيقة.. لا بد للقلب الشغوف أن يطمئن ويستريح.. قلبي الذي عاش أكواماً وأكواناً من الخيبة الثقيلة.. كل حيرة تبددها الحقيقة.. هكذا صرتُ أفكُر عندما أجد الوجود لا يتسع لفرحتي الكبيرة!!
في ثالث يوم ذهبت لعمّتي.. عمتي أم عبده فريد، عمتي التي التقطت خروجي من بطن أمي لواجهة هذا الوجودِ.. طلبتُ منها أن تزرها وتقريني تفاصيل الكتاب.. تتأكد مما رأيت.. يومها كانت تقيم في بيت قريب من بيت الفتاة.. أعطيتها أوصافها وما سمعتُ من الكلام وما رأيت؛ عادت بتأكيد المؤكد.. ثم قالت: آية في الحسن ومعجزة قلما جاد الزمان بمثلها.
استمعتُ لها بألف اذن وألف لهفة، ولم أكف عن السؤال!! بديت كأنني طفلاً في سن الحضانة.. فاغر الفاه مبلوداً بدهشة، وأحيانا أعيد السؤال وأكرره كأبله.. يا لقلة حيلتي!! وعندنا تفرغ ما لديها من الكلام، أرجوها بأن تستمر ولا تتم.. أريد أن أوغل في السماع حتى أثمل.. السكر كذاك حلالاً في حلال.
كنتُ أرجوها أن تُسهب وتُكثر في الحديث، أكثر من الكثير إن تأتّى.. تستفيض ولا تمل.. تعرّقتُ وشعرتُ بحرج أشد، وهي ترسل نصف ابتسامة حالما سألتها عن نهود من رأيت.. بديتُ كرضيع أو دون سن الفطام.. ظللت مشدوهاً إلى فمها وهي تُحدّث عمن أحب.. معلقاً أنا على الشفة كأجراس الكنيسة.. وشغفي بمعرفة المزيد لا ينتهي، ولا يحط له رحال.
أسبوع تم وأكتمل .. سبته وجمعته.. غرقتُ في الحلم كثيراً.. أكثر مما أنام، حتى بات الحلم أكبر من مجرّة.. يستغرقني كل يوم ألف مرّة.. بعد أسبوع أرسلتُ الرسول لأكمل ما بديت، غير أن أم الفتاة استمهلت للسؤال عنّي حتى لا تجازف.. وكان عليّ الانتظار.. مرغماً أن أنتظر.. مكرهاً أنا لا بطل.
***
(19)
الخطوبة
طلبت أم الفتاة مهلة من أجل السؤال عنّي، وهو ما كان يعني بالنسبة لي مزيد من الانتظار والأرق الذي لا أعلم كم سيستمر.. صرت لا أحتمل كثيراً من الانتظار دون جواب، أو جواب يستغرق كثيراً من الوقت للوصول إليه.. بات قلق الانتظار يجهدني ويستنزف روحي المتعبة الباحثة عن توأمها في مدارات الصدف، وبقاياي لم تعد قادرة على الصمود تحت رحى ودوران الانتظار الثقيل.
لم أعد أطيق خيبات أخرى وقد امتلأتُ بها فيما مضى من الوقت.. كاهلي مثقل بالهزائم ولم يعد بمقدور الحيل المهدود تحمّل هزيمة أُخرى أو دونها.. لا يوجد في العمر بقية تسعفني لتجارب أخرى من الحصاد المر، والفشل الذريع والمتوالي في حب لا يثمر ولا يزهر إلا صبّار وحنظل.. صرتُ وكأنني أعيش الوقت الضائع، وبقية من فرصة أخيرة تختتم نزيف الروح.
بعد توجس وانتظار حالفني الحظ هذه المرة، ولم يستغرق أهل الفتاة في البحث عمّا يسألون عنه غير أيام قليلة، كون إقامتي السابقة عند عمّي فريد الذي يقيم في شارع مجاور ومكان قريب، وكذا عمّي الحربي الكائن منزله في مكان غير بعيد، ووجود عدد غير قليل من معاريفنا ومعاريفهم المحيطين بنا، قد ساعدهم في الحصول على ما يريدون بيسر وسهولة.
كنتُ أنا أيضاً بالموازاة أبحث لأعرف وأستوثق وأطمئن أكثر عن الفتاة التي صادت فؤادي بعد بحث وإعياء، وأريدها أن تكون شريكة حياتي حتّى آخر العمر.. لحسن الحظ كل الإجابات جاءت بما يسر ولصالح كلينا.
أراد أهل الفتاة معاينة بيت الزوجية ليطمئنوا على مدى صلاحيتها؛ فكان لهم ذلك، البيت كانت عبارة عن بيت شعبي أرضي متواضع للغاية ينطبق عليه مقولة “دبر حالك”.. شكلها أشبه بزقاق أو ممشى طولي تم تقطيعه.. غرفة تليها ثانية، بسقف خشبي رفيع وخفيف يعلوه زنك، وتلي الغرفتان “دارة” غير مسقوفة، ثم يليهما مطبخ وحمام.. كنت يومها أعيش في هذه البيت أنا وخالتي سعيدة أم أخي علي، وأطفال أخي منصور وندى.
وكانت نتيجة ما حصلتُ عليه كما بدت لي في خلاصتها درجة مقبول.. شعرت أن هذه النتيجة تشبه تلك النتيجة التي حصلت عليها في إحدى امتحانات مادة اللغة الإنجليزية في الجامعة، ستة وعشرين درجة من خمسين درجة.. نجاح كما يقولون بالحظ والعافية، غير أن هناك أمر أخر غير البيت بات يؤرقني، أو هو ما صرتُ أخشاه.
الحقيقة لم أكن المتقدم الأول لطلب يد تلك الفتاة، بل سبقني إليها عدد من المتقدمين بعضهم شاور ولم يصل إلى مرحلة الخطوبة، وبعضهم وصل إلى الخطوبة، ولكنها لم تستمر، وإحداهم وصل إلى مرحلة العقد، ولم يصل إلى الزفاف، ولم تستغرق أطول تلك المراحل والفترات إلى أكثر من بضعة أشهر.
كانت الفتاة ترفض، فتستجيب الأم لرفضها، وعندما تكرر الأمر تدخلت سلطة الأم القوية، وباتت الفتاة تُرغم على الموافقة، وكان تمردها ومعاملتها لمن تم فرضهم عليها سببا آل إلى الفشل.. هذا وغيره كنت قد عرفته مسبقا من خلال رفيقتي أم شريف.
كانت أم الفتاة ذو شخصية قوية ومهابة، وفي نفس الوقت لا تخلو من طيبة.. كانت تملك سلطة قوية ونافذة في بيتها على جميع أفراد الأسرة، بما فيهم زوجها الطيب الذي توفى حسب ما عرفت قبل سنين من مجيئي إليها.. كدت أكون أنا أيضاً واحداً منهم لاسيما في فترة الخطوبة والعقد إلى يوم الزفاف.. كانت هي صاحبة الكلمة النافذة في البيت، بما فيها حتى تلك التي تخرج منها تعاطفاً أو تبدو استجابة لرغبة المعني الأول في الشأن وهي الفتاه بعد تصويب ومراجعة.
الأم تفرض كلمتها على ابنتها في قبول الخطوبة أو العقد، فيما الفتاة تتمرد وتلعب دور تأزيم العلاقة وإفسادها وإيصال الأمور إلى طريقها المسدود.. كانت تُضرب وتُرغم على القبول، ثم تعاني وتتمرد وتفسد ما تم، وتُفشل مخرجات هذا الإرغام.. ثم تراجع الأم موقفها وتتخذ قرار التراجع الأخير الذي ظل هو الآخر بيدها.
كنتُ المتقدم الوحيد الذي حصلتُ ابتداء على موافقة ورغبة الفتاة في أن أكون شريكاً لحياتها أو تكون هي شريكة لحياتي بمليء إرادتها واختيارها.. ربما كان هذا هو الفارق مع من سبقوني إليها.. ربما بديت هنا بالنسبة لها فارس أحلامها، وربما أيضاً المُنقذ لها من إخفاق وإرغام تكرر، فيما كانت هي حلمي الكبير وآمادي القصيّة، ونصف وجودي الذي أعياني البحث عنه.
أختها الصغرى هي من قالت لي: “أنت أول شخص توافق عليه من غير ضغط.. كانت مبسوطة بمقدمك ومتحمسة للخطبة والزواج.. كانت طائرة من الفرح.. وكنتُ مستغربة سبب فرحتها فيك، وكأنها كانت على علاقة بك.. مستغربة لأني كنت أراك شخص ريفي، فيما كانت هي قبل أن تأتي إليها تتخيل فارس أحلامها بقصة شعر موضة، ولبس آخر موديل..”
لقد عاش كل منّا تجربته الخاصة بمعزل عن الأخر، وعانى كل منّا الكثير من الفشل وعناء البحث، فيما القدر كان يخطط من وراءنا بصمت أن نكون لبعض، وكانت الصدفة جامعة لنا، وقررت أقدارنا أن نجتمع إلى آخر العمر.
خطبتها رسميا بحفلة متواضعة جداً.. لم يتعد الحضور غير بعض من أسرتها وأم شريف وابن عمي عبده فريد، ولم يتعد الاحتفال شرب البرتقال “السنكويك” ، وجلوسنا جوار بعض، والتصوير، ولبس دبلتا الخطوبة.. كل هذا حدث في وقت ربما لا يتجاوز الساعة.. مرق الوقت كلمح البصر.. كشهقة عاشق في ذروة الحنين.. أسيف على لحظة تلاشت بسرعة وقد انتظرتها وكأنه عمراً بكامله.. مرّت بعجالة دون إمهال، وقبل أن أملئ منها النظر، وفي يوم كان يفترض أن يكون لنا طرب وأعياد.
أعجبتني بساطة الاحتفال إلى حد بعيد.. أحسست بوجودي وأنا جالس جوارها.. رعشة كانت تصاحب أصابعي وأنا أمسك يدها وألبسها دبلة الخطوبة.. رأيت الحياة تبتسم وتبارك لنا بعد انتظار طال.. غير أن اقتضاب الوقت نال من غمرة هذه السعادة، ومن بوح الفرح الذي لطالما انتظرته طويلا بصبر مُجالد.
بعد مغادرتي لبيت الفتاة اجتاحتني الأسئلة القلقة، وظلت تلح على ذهني باحثة عن إجابة:
- هل سأنجح في الإبحار حتى النهاية؟! هل سأصل إلى بر الأمان؟! أم سأكون أحد المهزومين الذين مروا من هنا؟! هل سأنجح حتى الأخير في العبور إلى مناي الذي لطالما أهدرتُ العمر بحثاً عنه؟! أم سأكون مجرد اضافة خيبة لي ولها في سلسلة الخيبات المتعاقبة التي عجزت أن تصنع فارقاً أو اضافة للحياة التي نرمها؟! هل سأكون الفارس الذي أنتصر أم سأكون واحدا من المكسورين والعائدين الذين يجرون أذيال الهزيمة والخيبة؟! هل بإمكاني العبور إلى نهاية الطريق أم ستخور قواي قبل الوصول؟!
إثر تلك الأسئلة فاضت حميّتي وعلت همّتي وحماستي فقلت لنفسي وأجبت:
- سأعض على هذا النصيب بالنواجذ.. لن أترك له مجالا للتملص أو الفكاك.. لن أتركه يتسرب من بين يداي.. لن أترك لغفلة أن تأخذه منّي، حتى لا أندم وأقول فلت منّي في لحظة زمن شاردة.. سأستميت من أجله.. سأنشب فيه أطرافي وبكل قوتي، وسأدافع عنه ببسالة.. ستشبث به بيداي وأسناني وكل جوارحي.. فلتفض روحي وتذهب قبل أن يذهب منّي مناي.. مستعد من أجله إن أقتضى الحال أن أحارب عالماً بكامله، فيما بقي لي من عمر.. لا مجال ولا خيار للتخلّي عنه تحت أي قوة أو مبرر أو عنوان أو مسمّي.
أول أغنية أهديتها لها “مش هتنازل عنك أبدا مهما يكون” للفنانة المغربية سميرة سعيد لتعبّر عن بعض ما يجيش في وجداني من حب، وعن لسان حالي وإصراري، أقتضب من كلماتها:
“ياللي اديت لحياتي في حبك طعم ولون
مش هتنازل عنك ابداً مهما يكون
دا احنا لبعض حنفضل دايماً
طول العمر حنفضل دايماً
مهما يكون … مهما يكون
انا حبيتك لما لاقيتك قدام عيني حلم بعيد
كان في عنيّا صعب عليّا وبعد شويّه بقي في اليد”
أكبر أشقائها كنت أراه عندما أصادفه متجهما وغضوبا.. لا أذكر أنه مر من جانبي خلال تلك الفترة وألقى عليّ السلام.. كان حاد الطباع ويبدو متشددا في الرأي.. اسمه خالد سماه والده تيمماً باسم خالد جمال عبد الناصر.
كنتُ سعيداً أن أعرف أن عمِّي الراحل، أحب جمال عبدالناصر.. عمّي القادم من كحلان عفّار من محافظة حجة إلى عدن المحبة والتنوع والتعايش والاحتضان، فيما الأم كانت من منطقة “الوهط” الواقعة بين لحج وعدن.. أحسست أنني أكرر تجربة عمي في الحب والعابر للمستحيل.. وحدة أحببتها قبل أن تولد، وأحببتها بعد أن ولدت، ولازلت أحبها إلى اليوم، رغماً عن كل الغيوم.
كنت أشعر أن خالد غير راض عنّي، بل ومعارضاً لي بشدة، وهو شعور لطالما اجتاحني مراراً.. لا أدري ما السبب؟! أظنه ضاق من تكرار فشل خطوبة شقيقته أكثر من مرة، أو ربما بسبب عدم توفق صديقه في خطوبتها التي آلت إلى “الفسخ”، وربما لسبب أخر لا أعرفه..
كل ما أنا متأكد منه هو إحساسي أنه لا يطيقني، ولم يكن بيننا أي كيمياء ولا ود من أي نوع كان؛ ولذلك كنت أشعر أن المجهول لازال يتربص بي.. أحسست أن الطريق أمامي لازالت غير سالكة على النحو الذي أروم..
ومع ذلك أحببت اسمه “خالد”، وأحببت والده الذي سمّاه خالد، والذي أحب الزعيم جمال عبدالناصر الذي عشق الوحدة الكبرى، وأراد أن يوحد أمّه متنوعة ومترامية الأطراف، من خليجها إلى محيطها.. ويكفينا أنه حلم بها وحاول أن يشرع بها، أما اليوم فقد بات حلم كهذا يندرج في باب المستحيل.
***
(20)
بعد الخطوبة وقبل القران
في أول زيارتي لها بعد الخطوبة تفاجأت بما رأيت.. وجدتُ شكلها قد تغيّر تماماً عن تلك الصورة التي كانت مخزونة في ذاكرتي يوم الخطوبة وقبلها.. تساءلت مع نفسي: ماذا الذي حدث؟! كيف حدث كل هذا؟! من أين جاء هذا التغيير؟! ومن أين أتى هذا الفارق الذي صار يفوق خيالي؟!
صحيح أنها كانت تفيض سحراً، ولكن كيف صارت ساحرة على ذلك النحو الخرافي الغادق؟! كانت جميلة جداً، فصارت أكثر جمالاً وفتنة، وبأضعاف مما كانت عليه.. بديتُ كحال مسحور تملكه السحر من أوله إلى أخره.
صرتُ كالداخل إلى مملكة من الدهشة والعجب.. أوغل بالسؤال ولا إجابة غير حيرتي البليدة والمتلبدة بأثقالها.. يا إلهي.. هل ما أعيشه حقيقة أم اسطورة طغى عليها خيالها؟! اللامعقول يتحداني ويداهمني من كل صوب واتجاه، فيما أنا مشدوهاً غارقاً في ذهولي فاغر الفاه.. هل هي حواسي تمردت عليّ، أم رباطها قد فلت من يدي، وفقدتُ الزمام والسيطرة؟!
في أول وهلة تملكتني الدهشة! أُصبتُ بربكة في استيعاب تلك الفتاة التي وجدتها أمامي؟! سألت نفسي في غمرة اندهاشي: من هذه الفتاة؟! وبعد لحظة وأنا أحاول أن أستحث ذاكرتي، وأجمع أشتات صورتها المنطبعة في ذهني؛ استدركتُ أسأل نفسي: يا ترى هل هي هذه الفتاه أم غيرها؟! كنتُ مشدوهاً إليها.. مذهولاً من الدهشة، ومبهوراً بجمال لم أر مثله من قبل.. داهمتني الأسئلة وغمرتني الحيرة على نحو لم أكن أتوقعه.
بديتُ أمام نفسي مشوشاً للغاية.. صرتُ أكتشفها بين الحسان وأميّزها عمن حولها كونها الأجمل، وأحياناً إن طالت حيرتي تختطفني هي لوحدها بجمالها الآسر، وفي أحايين أخرى أحاول استحثاث ما أملكه من استشعار بالصور المخزونة في ذاكرتي، فأشعر وكأن القدر يمازح حواسي المربكة، ويمتحن إيماني بقدرته.
***
سألتُ نفسي: ماذا صنعت حبيبتي لتبدو بهذه القدرة في صناعة العجب؟! كيف استطاعت أن تكون أجمل مما كانت عليه، وهي الجميلة دون منازع؟! كيف تغيّر شكل وجهها عن شكله السابق..؟! هل هي عيوني المضطربة الفاقدة للتركيز، أم عيونها التي صرتُ منقاداً ومسحوراً بها إلى أعماقي السحيقة؟!! عيونها عندما خطبتها كانت عسلية؛ أنا متأكد أنها عسلية.. رأيتها عسلية حالما كانت الشمس تشرق يوم خطبتها، وتلقي علينا أشعتها علينا في “دارة” بيتها المكشوفة؛ فكيف صارت الأن دعجا بسواد أكثف من لون المسك؟! تبرق عيناها في عيوني بشارة ميلاد وحياة وسعادة.
أسبوع مضى بعد الخطوبة، وأنا أتخيلها على تلك الصورة التي كانت مكنوزة في ذاكرتي من يوم الخطوبة، ثم أجدها في لقائي التالي على نحو مختلف.. شككتني بحواسي وخيالي وذاكرتي.. تركيزي صار يتشتت، وغير قادر أن يستوعب ما يحدث!! حيرتي تكبر وتسأل: من أين أتى ذلك الكم الفارق والشاسع بين الحالين؟! وكيف ملكت القدرة في تحويل ما هو ثابت إلى متغيِّر عن سابقه؟!! تلك الأيام لم يكن العالم قد أخترع عدسات العيون وتغييرها.. عيون حبيبتي كانت العلم كله والسحر كله.
في المرة الأولى بعد الخطوبة لم أعرفها إلا حالما تطلّعت بعينيها نحوي بخجل آسر، ثم رأيت إشراقة ابتسامة أحسست بحدسي إنها هي.. سحرها تسلل داخلي كقبس نبوة.. كموجة أثيرية جاذبة.. تملكتني بصوفية تجاوزت مداي.. استوطنتني مناجم وكنوز من العجب العجاب.. دوحة حب في أعماقي تنتشر وتضرب جذورها في شراييني وآمادي البعيدة.. تفتتني وتبعثرني، ثم تجمعني من جديد في دهشة لا تنتهي.
في زيارتي التالية تكرر الحال على نحو مضاعف.. والسؤال يتكرر: ما الذي يحدث؟!! وبعد عناء وتكرار افترضت من جهتها أن تسريحة شعرها ولبسها والشمس والظل وكل المؤثرات التي تحيط بها كان لها دخل فيما حدث، وفي المقابل هناك ما يخصّني من اضطراب التركيز، وتشتت الحواس، وضغوط وإرباك اللحظة، وما يحيطني من ظروف مع تلك لتصنع في مجملها مثل تلك المفارقات، والتساؤلات، وتستغرقني فيها اللهفة والعجب.
وفي كل حال عندما تكون دون مساحيق أو مراهم أو رتوش تصير أكثر بهاء وإشراقا وحياة.. هذا ما ظللتُ أوكده وأكرره على مسامعها، مع ملاحظة أنها ظلت على نحو مستمر تزداد إبهاراً وجاذبية، ويزداد حبي لها كل يوم أكثر من سابقة، ومن دون نقصان أو توقف عن الجريان.
***
من أجل العبور إلى الضفة الأخرى، أو الوصول إلى مناي الذي لطالما بحثت عنه ولازال مهدداً بالفقدان، حرصتُ على الاستمرار في استمالة الفتاة التي أحببتها، ونيل رضى أمها التي كنتُ أتحاشاها وأخشى انقلابها.. كنت أعتقد أن وجود الاثنتين في اصطفافي ستمكنانني من العبور بأمان، أو السير في الطريق إلى ما أريده دون مخاطر محدقة، أو مجازفة أو انقلاب يحدث على حُين غرة.
كانت لقاءاتنا في فترة الخطوبة صعبة ومحدودة للغاية.. لقاء عابر وسريع لا أجد فيه فرصة للبوح، أو حتى السؤال الذي يستكشف كل منّا ما في نفس شريكه.. صرنا محروسين بعناية الأهل وما أكثرهم!! كأنهم قرية في بيت، وأكثر من هذا كانت حالتي النفسية تراهم أضعاف مضاعفة.. لم يعد الخجل وحده من يمنعني من البوح، بل وفوقه هذا الحصار المطبق والمؤكد.
قليل من الوقت نقضيه معاً ونحن محاطين بالحرس المدجج بعيون زرقاء اليمامة!! كل إلى جانبه ملكين ومشرف، وحراس كثر تجدهم في منتهى اليقظة!! وأمامنا تلفزيون يخفف عنّا هذا الذي يحيط بنا، والحركة التي تدب دبيباً، لا تهدأ ولا تستكين حولنا.
وأكثر من كل هذا أحسست أن هناك من يعترض أو يستثقل مجيئي.. شعرت أن شقيقها الأكبر خالد ربما كان له دوراً في ذلك، أو كان يضغط في هذا الاتجاه.. أنا أيضاً كنت استثقل نفسي بسبب هذا الاستثقال الذي أراه واحس به كثيراً.. أشعر بحرج شديد حياله.. ربما خفف عنّي هذا العبء انشغالي لفترة بدورة قادة وأركان كتائب التي تم استدعاءنا إليها.. لم أعد أذكر كم هي الفترة التي استغرقتها تلك الدورة، ولكنها كانت ربما شهر أو أكثر.
***
ومن أجل أن أتحرر من هذا الاستثقال كان لابد أن أستعجل العقد.. وهذا معناه أن أكون بجاهزية كاملة لكل المتطلبات اللازمة؛ ولذلك لابد أن أعرف كل تفاصيل ومتطلبات العقد، وأكون جاهزاً لكل الاحتمالات الواردة.. رغم هذا فأنا كل ما أعرفه أن المهر وفق القانون لا يزيد عن ألفين درهم، فيما الذي أملكه أو أذخره بالبريد مبلغ وصل إلى ثلاثة عشر ألف درهم.. مبلغ كهذا بدى لي في خيالي بحجم ثلاثة عشر ألف جمل.. ربما لأن من لا يملك، أو يملك القليل يرى في نظره القليل كثير.
الحقيقة أنني أول مرة فيما مضى من حياتي أستطيع أن أحبس مالاً، أو أوفر شيئا اسمه “نقوداً”! أول مرة أستطيع توفير مثل ذلك المبلغ بعد اعتراك استمر طويلاً مع يدي التي لا تستطيع أن تحبس المال، ولا تصبر على بقائه لديها.. وجدتُ نفسي أجهل كثير من تبعات ومستلزمات الزواج، وشروط الأهل التي يمكنها أن تفاجئني به.
ومع هذا كنت مطمئناً إلى حد بعيد أن كل ما وفرته بات كافيا لأن يتصدى لكل متطلبات العقد والزفاف، بل وما بعد الزفاف أيضاً بشهر.. اعتقدتُ إن الحال ليس مستوراً فحسب، بل أيضاً كافياً ووافياً ويفيض.. اعتقدت إن الأمور ستسير على هذا النحو السلس والسهل، والمريح أيضاً.
حددنا موعد العقد وذهبت أنا وابن عمي عبده فريد إلى بيت الفتاة.. استغربت لأول وهلة أنني لم أجد شقيقها الغضوب.. حيّرني وأقلقني غيابه إلى حد بعيد.. عدم حضوره يعني أن عقد القران لن يتم، حيث وهو المعني الذي يجب أن أضع يدي بيده أثناء العقد.. شقيقها الغائب خالد هو الأهم الذي افتقدته بين الحضور.
داهمتني الأسئلة واحتلتني الحيرة، حيث لم أجد في انتظاري غير أخوها الأكبر من الأم محمد قردش، و أخ أخر من الأم أيضاً اسمه ياسين عبدالغفور، وخالها أخ أمها عبدالله علي عوض، وآخرين.. ظننت أن أخوها الغضوب معترضاً على شيئا ما، أو أنه صار ينفذ انقلابا ضدي، ويريد فركشة كل شيء.. يريد أن يعدم حلمي الجميل ويعدمني معه.. وفي أفضل حال واحتمال يريد أن يؤخر موعد العقد حتى تتم تسوية خلاف ما داخل الأسرة لا أعلمه.. هذا ما ظننته أو فكرت فيه، وأنا أرى اجتماع العقد ناقص من كان يفترض أن يكون في صدر هذا المجلس.. قلتُ في نفسي: إن في الأمر شيئاً مثيراً للحيرة والارتياب..!!
***
(21)
عقد قراني
خالد شقيقها الأكبر كان يبدو لي نزقاً وحاداً.. كلما وجدته رأيت وجهه متجهماً وغضوباً.. لم نتحدث إلى بعض حتى من باب المجاملة.. اسمي الأول ظل فترة طويلة لم يحفظه.. كنت أشعر أنه لا يطيقني.. يستكثر عليّ حتى سلام عابر في ممشى أو طريق.
لا توجد بيننا أي كيمياء أو انسجام.. أشعر بغربة إن وجدته، وهو أيضا يشعر إن وجدني بغربة مضاعفة.. تنافر جم يحول دون أن نجتمع على حال.. لا ابتسامات بيننا تجعل من الحال ألطف.. كنت أشعر أن بيننا حاجز نفسي عميق ومتسع يحول دون انسجامنا.
ربما راني قد أفشلت رغبته في إعادة محاولة تزويج شقيقته على من كان يألفه من أبناء مدينته، ومن جانب أخر عرفت أن شماليتي وريفيتي لا تروقه، رغم أن والده الطيب قدم من شمال الشمال، ومن ريفه أيضاً. والمفارقة أن بيتهم معروف ومشهور باسم “بيت الزيدي”، بل هو نفسه معروف أيضا باسم “خالد الزيدي”، وبعيداً عن هذا وذاك كان خالد هو المعني بوضع يده في يدي لإبرام عقد قران شقيقته.
في الموعد المحدد للعقد جئتهم بوجه بشوش ومشرق.. متدفق بالحياة والأمل.. مغمورا بالسعادة والمحبة، وفي أول اطلاله لم أرَ خالد بينهم.. خالد الذي أبحث عنه ظناً مني أن المناسبة أكبّر منّا، وتحملنا على فتح صفحة جديدة بيننا.. فاتحة خير تجعلنا ارقى مما نحن عليه من حال.. كان يفترض أن يكون خالد في طليعة من يستقبلني بقدر من الحفاوة، حتى وإن كانت متصنّعة من أجل شقيقته، لاسيما وقد صرنا على أعتاب أن نكون عائلة واحدة، أو يستقبلني حتى بالوجه الذي كنت قد تعودت عليه، ولكن تفاجأت أنه غير موجود في البيت من الأساس.
حدثت نفسي: يا ترى ما الذي أستجد..؟! نحن على اتفاق أن اليوم هو موعد العقد، ومن يفترض أن أضع يدي بيده غير موجود.. هذا لن يحدث إلاّ لأمر طارئ ومهم.. يبدو أن وراء الأكمة ما وراءها.. يا ترى ما سبب غيابه..؟! أستبعد أن يكون في هذا الغياب المريب خيرا أو بعض خير.
شعرتُ بارتياب جم يجتاحني.. يدعوني إلى قلق شديد ومخاوف أشد.. أحسست بفراغاً يخنقني، وربما يقوّض ما أتيت لأجله.. ارتباك وربكة تستغرقني، وأسئلة كثيرة تبعثرني، فيما شرودي يذهب إلى البعيد لافتراض ما يدعو للخوف والقلق.
كان مستهل الحديث في المجلس مُستثقلاً لدي، ويتخلله بعض الصمت، الذي لم أكن أعرف كيف أكسره.. احتملتُ وجود خلاف أسري تفاقم، وكنت السبب فيه.. خلاف ربما أدّى إلى تأجيل العقد ريثما يتم حل هذا الخلاف في إطار الأسرة وحدها، وفي غيابي تحديداً.. ثم تداعت أفكاري لتداهمني بافتراضات واحتمالات أشد وطأة.
ساورني خوف شديد يؤدّي ليس فقط إلى تأجيل موعد العقد، وإنما لطلب استمهال مؤقت يكون عبوراً إلى التنصل من الأمر كله.. شعرت بتهديد حقيقي يستهدف ما أريده برمّته ساساً برأس.
غير أن ما حدث بعد ذلك وجدته في جله على غير ما توقعت.. تفاجأتُ به أنه على غير ما ظننت.
وجدت أن أم الفتاة قد حسمت قرارها بحزم لصالحي، ورتبت أمور العقد على نحو لا يؤثر فيه غياب ابنها الذي كان يفترض أن يتولى أمر العقد.. بدت الأم وهي تدير الأمور من خلف جدار كأنها شجرة الدر.
أسندت لأخيها عبدالله إدارة جلسة العقد، وكان خلف الزمام زمام تمسك به سلطة الأم القوية، فيما أسندت لابنها الأكبر الغير شقيق للفتاة بإتمام العقد، بدلاً من خالد الذي ربما خرج باكرا يشتاط غضباً وضجراً ولم يعد.
بدى لي أن الأم قد حققت إجماعاً من الرضى والقبول لدى كل أفراد الأسرة، باستثناء ابنها النافر والغضوب.. هكذا خمنتُ الأمور، أو بدت لي على ذلك النحو.. كنتُ أريد إجماعاً ولكن كان الإجماع مخروماً بخالد.
***
بدأ خال الفتاة يدير جلسة العقد، وحدد ما يتعين دفعه بثلاثة عشر ألف “شلن”.. كان اطلاق هذا الرقم أشبه بمن نصع النصع.. إنه كل المبلغ الذي أملكه بعد أن راكمته في حساب توفير بريدي خلال فترة ليست بالقصيرة..
استغربت على تحديد هذا المبلغ بالذات، وكيف تطابق مع رقم المبلغ الذي أملكه ولم أبح به لأحدا غيري!! هل هي الصدفة، فيما الصدفة نادرة وتصير أحيانا مثل المعجزة؟! لماذا هذا الرقم بالتحديد وليس غيره؟! هل لديهم شياطين أخبروهم بما أذخره على وجه الدقة والتحديد؟! هل قرأوا أفكاري؟! ما قصة هذا الرقم؟! رقم 13 هذا يحيرني فضلا أنه يثير قلقي وتوجسي، وزائد على هذا هو رقم معروف بشؤمه لدى عدد من الشعوب والمجتمعات.
كان اطلاق هذا الرقم أشبه بصخرة هوت على رأسي.. حاولت أن أبدو متماسكا دون فائدة.. بديت لبرهة أشبه بمصعوق، ثم صرتُ شارد الوعي في تيه بعيد.. ظهر على وجهي كل شيء أردت مداراته عن العيون.. حتى الطفل الذي لازال حديث عهد في النطق والتهجّي صار بإمكانه أن يقرأ اللحظة في وجهي بسهولة ويسر.
حاولت بصوت خفيض مثقلا بالحياء أن أطلب إعادة النظر في المبلغ، فبدى لي الأمر غير قابل للنقاش.. لا توجد مساحة أو هامش لمن يدير الجلسة.. “رفعت الأقلام وجفت الصحف”.. قُضي الأمر وأنتهى.. حتى القانون العسكري “نفذ ثم ناقش” لا يتم العمل به هنا.. كلما فعله خال الفتاه الطيب هو شرح التفاصيل التي لا تغير من واقع الأمر غير اضافة ما كان محسوباً أيضاً أن تكون عليّ تكاليف حفلة “الصبحيه” وعليهم تكاليف حفلة الدخلة أو ليلة العرس.
كنت أريد أن أضيف جملة في مجلس العقد وهي: “لستُ بخيلاً ولكن الحيل مهدود” وهو قول بدا لي لاحقاً إنه مجازف وربما تكون كُلفته فادحة.. ربما أنقلب الأمر رأسا على عقب، وربما اتي على رأسي بضربة قاضية لا أفوق بعدها أبدا، وبالتالي تضع نهاية للأمر كله.
ألتقط اللحظة الحرجة ابن عمي عبده فريد وكان محقاً.. وافق سريعاً، ولملم الأمر بحنكة، ولم يترك فسحة للشيطان يهدد كل شيء، وربما يهدمه وينثره نثرة واحدة، والحقيقة لا أريد أن أتهم الشيطان الذي أفتريه، واحمله مسؤولية غبائي وحماقتي.. إن مضيتُ فيما فكرتُ فيه لكان كل شيء أنتهي إلى زوال، وآل إلى حزن وخيم.. لو حدث مثل هذا كنت سأنزل على نفسي عقاب جم، وندم يرافقني إلى آخر العمر، ولن أسمح لنفسي بالحديث حتى صباح يوم العيد.
***
تم الأمر على هذا الإنقاذ المتدخل كقدر، وتم العقد على المعتاد في عصر ذلك اليوم العاشر من إبريل 1990.. سمعتُ زغردة الفرح تنتشر من أمكنة وأروقة البيت، وكانت أول زغردة فرح في حياتي أفسدها هم ثقيل وحيرة خانقة، وغصة سؤال تقول: من أين؟!! ما العمل لإكمال مشوار الزفاف؟!! أحتاج إلى سحر وساحر، أو قدر يقول للشيء كون فيكون؟! أحتاج إلى رحلة مضنية أخرى لأتمكن من جمع مبلغ يقارب المبلغ المدفوع أو حتى دونه بقليل لأتم الزفاف، والانتقال إلى بيت الزوجية.
بديت في لحظة أكثر من مربكة أعتب فيها على نفسي وأقرّعها:
– أنا طالب فاشل جدا في الحساب.. ضعيف جدا في الاقتصاد.. حديث عهد وتجربة في شؤون الحياة.. عديم الخبرة في شؤون المقبلين على الزواج.. استصعب مراكمة النقود على نحو يفوق التصوّر.. لا أدري كيف ستكون النتيجة!! هل سأصل إلى يوم الزفاف أم إن الخيبة القاتلة ستحل محلها، ومحل من أحب؟!!
صرتُ أرزح تحت واقع ثقيل، ومُرغما على التعاطي معه.. أحسست أني والقانون نعيش مأساة واحدة.. يومها كانت الوحدة اليمنية تطرق الأبواب، فيما كثير من الحقوق باتت أكثر من أي وقت مضى مهددة بالانتقاص والنيل منها بجرأة.
طلبتُ عند العقد مهلة ثلاثة أشهر، غير أن هذه المهلة وجدتها في الواقع لا تكفي بأن أكون جاهزا لأصل إلى ليلة الزفاف، وإن ضربتُ على تبذير اليدين قيدا من حديد.
***
تذكرتُ أن لي أم حنونة في القرية تحبِّني إلى درجة لا تصدّق.. لن تبخل من أجلي بروحها إن طلبته منها.. أمي التي فدتني بعمرها في كل مرّة.. أمي التي صبرت لأجلي وتحملت ما لا تطيقه أثقال الجبال.. فكانت وجهتي الأولى إليها.
أمي التي لطالما ألحّت هي عليّ بإتمام نصف ديني، فجاء الوقت لأطلب غرمها في الدين.. نصف ديني الذي ظننته أيسر من اليسر كان ثقيلا يفوق الاحتمال.. ليس آية من القرآن أو خاتم من الحديد، فالواقع كان أكثر ثقلاً وجهماً وشراسة في وجه خيالي الحالم، والشاطح في البعيد.
أمي التي ظلت تهتم لأمري ونصف ديني سنوات طوال آن لها أن تساهم، ناولتني ما كانت تملكه وتحتاط به للزمن العبوس.. ثلاثون جرام من الذهب “شعيرية”.. مهرها ومكسبها الذي خزنته لفرحة كهذه أو لأيام الشدة التي قد تداهمنا دون إنذار.. فرحت أمي لفرحتي حتى كادت تطير.. الحلم الذي ظلت تنشده أكثر من عشر سنوات صار ممكن ويقترب.
أمي أيضاً بثت في أبي روح التعاطف والمساعدة؛ فساندني أيضاً بسخاء.. أقبل إلى بيت أهل الفتاة التي عقدتُ عليها.. بدى كريماً ولطيفاً، بل وقالوا عنه أيضاً أنه أجمل منّي..!!
بعد هذا وذاك بدأ تحقيق حلمي يطرق باب الممكن والقريب، وعلى إثر هذا أهديت حبيبتي أغنية الفنان نهاد طربية (بدنا نتجوز عالعيد) وكنت أقصد الزفاف لا سواه.
***
(23)
تناقضاتي
شهدتُ في المدة الواقعة بين العقد والزفاف صراعاً محتدماً في أعماقي، بين ذلك الشاب المتحرر والمتفهم والمنفتح على الحياة وإشراقاتها وآفاقها الواسعة، وذلك الكائن المتوحش بالتخلف الشديد والرجعية الموغلة، والذي تفاجأت أنه كان يسكنني، ونائم داخلي، ومستكين في زواوي المظلمة وقيعان وعيي السحيقة.
وجدت نفسي حلبة صراع وساحة معركة أيقضني احتدامها بين ثقافة تمارس رعبها وتوحشها وطغيانها مسنودة بعقدي المستبدة، وأنانيتي المفرطة، وغيرتي المجنونة، وثقافة أخرى متحررة اكتسبتها من ثقافة نهلتها وتشربتها من قراءتي ودراستي وإنسانيتي التي ترتقي بالمرأة وحقوقها كإنسان، وعلى قدم المساواة مع الرجل.
عاصفتان تصطرعان داخلي حتى بدتا في مخيالي أشبه بكائن خرافي.. دوامة بحر تدور بشده وتسير بصعوبة.. صرتُ معصوف فيها، وأنا أبحث عن شاطئ.. أعيش شدتها ودورانها العنيف.. كان نصفها يسحبني إلى قاع مظلم ومعتم، ونصف أخر يصعد بي إلى فوق السحاب؛ فأختار الصعود إلى أعنان السماء سمواً ورفعة.
أعيش موروث ثقافة ثقيلة على العصر، ومتصادمة مع تطلعاته، وثقافة أخرى تناهض الجهل المستبد، وتنزع إلى الحرية، وتتطلع إلى العدالة، وتعشق المستقبل بوعي إنساني حساس.. أعيش صراعاً شديداً بين الإخضاع والتحدي، وإرادة تريد تحويل ما هو مستحيل إلى ممكن.
أحسست أنني أعيش تناقضات جمة تكتظ وتحترب داخلي.. ماض مظلم ومستبد، يعترك مع مستقبل يتطلع إلى الآتي بتصالح مع النفس، وتفاؤل مفعم بالأمل.. أعيش غلول وتطرف وعودة إلى توحش لا يأبه بإنسان، وانسان يبحث عن الإنسان، ويرتقي باستحقاقاته، وموالات مستقبل فتي نعشقه، ونسعى إليه مخلصين.
نفسي تحتدم مع نفسي.. أعيش حالين متناقضين.. انفصام مرضي شاخص للعيان، وعطب في التفكير، وعاهات عقلية اكتشفت أنني كنتُ غافلاً عنها دون علاج، وفي الجانب الأخر أجدُ إنساناً حساساً جداً، وراق في الحياة، وحالم بالتغيير، وشغف بالعدل، وشاطح في الخيال.
أعيش صراع بين صبري وتريثي وطول بالي، مع حماقتي التي تهدم في لحظة ما بنته في عام.. صراع بين براءة طفل يسكنني، وإنسان حالم وعفوي، وذلك المجرم الذي تدفعه اسبابه الأنانية أو التافهة إلى ارتكاب جريمة ضد أنسان، بإزهاق روحه واستهداف حقه في الحياة
وجدتُ نفسي قد تحولتُ بين هذا وذاك إلى ساحة صراع عنيفة، وميدان حرب ضروس، ومعها احسست أن راسي قد بات مثقلا بأكثر مما يطيق ويحتمل، حتى يكاد ينفجر، ويتحول وأتحول معه إلى شظايا قنبلة.
***
بدت الغيرة الشديدة غير المبررة تجتاحني كطوفان لأتفه سبب عابر دون قصد.. أريد أن أعرف تفاصيل ماضيها بحذافيره ابتداء من اليوم الذي بدأت تعرف نفسها فيه.. اريد أن اعرف يومياتها بتفصيلها المملة!! أفتش ذاكرتها القريبة، وذاكرتها البعيدة المطوية بنسيان، وأتحول إلى حارس اخلاق وفضيلة مثقلاً بتشدده وتطرفه.
بديتُ رجلاً قادماً من ادغال الجهل، وبؤر التخلف.. أنبش في ذاكرتها الحيّة والمعطوبة.. أبحث عن كل شاردة وواردة، إن كان في ماض أو حاضر.. أريد أن أعرف كل شيء عنها حتى التوافه منه.. بديت أمام نفسي أكثر من رجل معتل ومريض وبالغ السوء.
صرتُ غيوراً على نحو مجنون.. أريد أن أستحوذ عليها باستغراق مستبد.. أريد أن أتملكها من ساسها إلى رأسها، ومن أولها إلى أخرها.. أريدها ملكية كاملة دون نقصان من ألفها إلى ياءها، ومن أخمس قدميها إلى شعر رأسها.. أريد أن أفرمت ذاكرتها ولا يبق فيها غيري أنا.. لا أريد أن يبقى في بالها لا أم ولا أب ولا أخ.. بديتُ أمام نفسي أنانياً ومتوحشاً وشريراً بإفراط.
أذكر يوماً لبست قميصاً يكشف بعض من ظهرها العلوي عارياً لتخصني فيه أنا، ومع ذلك جن جنون الغيرة فيني من احتمال غير وارد.. انتابتني نوبة جنون وصلت أعنّتها.. لم أكن أعلم أنني بهذه الدرجة من الحماقة والتشدد.
تهديد ناري أطلقته يوماً بارتكاب جريمة قاتلة ضد أحدهم.. حبّي بات يلج كل يوم أكبر من سابقه نحو جنون منفلت، لا مربط له ولا عقال.. اكتشفتُ أن في داخلي رجلاً بدائياً متوحشاً يسكنني رغماً عنّي بعنفوان مجنون، حال لم أكن أعرفه ولا أعلم به من قبل.. إنه ضرب طارئ وأعمى من الجنون.
في المرحلة الثانوية لم أكن كذلك.. في مراهقتي الأولى كنت متطرفاً في الانفتاح.. كنت شخصاً يتوق لانفتاح عابر للقارات.. انفتاح إلى حد كان صادماً حين بحتُ به يوماً لصديق عزيز.. ربما الحرمان كان بعض صانعيه.. كانت لدي أفكار تتوق إلى تجاوز ما هو ممكن ومعقول.. انفتاح يذهب إلى آماد تتعدّى حتّى ما هو حاضر وعصري.
وبعد أن تخرجتُ من الجامعة، وبعد أن عقدتُ قراني، اكتشفتُ وجود غول شرير مرعب كان نائماً داخلي.. أنتفض في وجه الجميع على نحو كاسر ومتوحش ومهول!! أحست أم الفتاة في لحظة فارقة أنها زوجت ابنتها لشيطان!! عرضت عليّ أن يمضي كل لحاله، غير أن الذي شبكنا كان قد صعب عليه ما أنعقد، وبات الجنون كبيراً ومنفلت..
وفي المقابل استمر بعض ما بقي من رهان.. كنت مسكوناً أيضاً بطفل برئ، يفرح ويطير لأبسط دواعي الفرح.. إنسان بسيط تسيح دموعه لموقف عابر أو مشهد مؤلم.. إنسان مسكون بعاطفة جياشة تحزن وتتألم وتنتحب وهي تقرأ رواية من وحي ولبنات خيال كاتبها، أو حتى فلم كرتوني تم إعداده لأطفال صغار.. وجدوا روح شفيفة، وإحساس عالي، وصدق غامر، ونقاء كالدموع.
وكنتُ أحيانا حالما أضيق وأكترب وأتألم بصمت وصبر تكبر حاجتي لأن أجهش بالبكاء؛ فأنعزل بمفردي بعيداً عن البشر؛ لأنفجر بالبكاء في وحدتي؛ لأفرغ بعض ما في جوفي من ألم وحزن ثقيل ومكتظ.
ولطالما كنت أتناقض مع نفسي، وكانت نفسي مشحونة بتناقضاتها الكثيرة والمتعددة.. أشعر أنني في ساحة معركة، بل أحس أن في داخلي ألف معركة، غير أنني كنتُ أطمئن وآنس إلى ضميري.. هو الحَكم الذي أسلم له رايتي.. أنقاد بعده بأمان وثقة.. ضميري كان وظل إمامي ودليلي إلى النجاة.
ضميري كان دليلي الذي اعتمدتُ عليه في حل كثير من التناقضات التي عشتها، أو أعترضت طريقي أو هددت عقلي وتفكيري وسلامة حواسي.. كان ولازال ضميري ضامناً وحاضراً في حياتي حتى وإن تأخر أو علق أو وقع لبعض الوقت في شباك صيّاد، أو وقع في غفلة أو لحظة حمق فإنها حتماً لا تدوم.
***
(24)
زفافنا
زفُّونا بفرح وبهجة كأننا جئنا من الفضاء.. بشارة أكبر من نبّوة.. سر أكبر من مجرة.. حب أكبر من الوجود.. شلال من نور إلهي.. قطعة من شمس ملونة.. نار وسلام.. عشق وغفران.. محبة لا تنضب ولا تنحسر.. إحساس عشناه ونحن نُزف بركب فرح كبير.
في حضرة الحضور.. تلاشى الخجل الوخيم.. تبدد العيب المكوّم.. تآكلت القيود.. أطلقت عيون النساء من محابسها العنان.. أطلقت النهود الأشرعة.. والعذارى أطلقنّ الخيال والأجنحة نحو المدى باحثات عن فرسان أحلامهن.
تحررت الخيول من محابسها الكئيبة.. أمتطى الفرسان صهوات الجياد.. أطلقت الخيول صهيلها بجموح وعنفوان.. أحلام العذارى تسابق الريح.. سمعتُ صوت العشق الخفيض.. أنفاس الهيام.. هديل الحمام.. تموجات الحب.. اكتظاظ الحنين.. صخب الحياة التي كانت هامدة.
غنّت لنا الحقول والفصول والأودية.. توسدنا الأفئدة.. ترنمت العصافير الجميلة وأشجت مسامع من حضر.. نظرت إلينا عيون الحاضرين وباركتنا بالفرح.. أحاطت بنا الأسئلة.. شغفت بنا المعرفة.. زاد الفضول وازدحم العجب.
توجونا بالفرح الكبير.. اعتليتا المنصة كالضوء البهيج.. ليلة كانت أكبر من مملكة.. قعدنا على الفخامة كاليقين.. كشلالات الحنين.. لحظة عشناها للمرة الأولى.. بدينا وكأننا جالسين على عرش عظيم.. اكتظ الجمال أمامنا وطاف حولنا حتى بدينا وكأننا مركز الكون أو قلب المجرة.
رأيت أمامي فخامة عروش الروم وسجاجيد فارس.. المباسم أمامنا تضيء سمانا.. تبرق حدقات العيون الكثار.. ينهمر المطر الشجي على القلب والوجدان والذاكرة.. جمال العذارى فارط وباذخ من يلملم أطرافه.. من يحتوي شاسعات المدى؟!! هذا المحيط المديد!!
كل المروج هنا تحتفل.. أعناقنا تشتاق فن العناق.. والشفاه تتوق لأقداح الخمر المعتق بسنوات الحنين الطوال.. الكل رقص مع الدان ودندن.. الكل معنا غنّى واحتفل.. نسائم البحر وأنفاس الوجود.. في زفافنا الكل حاضر.
سعادتي تموج كما يموج المحيط.. تمتد إلى مدارات الفضاء بلا حدود.. هالات جسدي تنشرح وتتسع.. تنتشر في الآماد والفضاءات الفسيحة.. جسدي يضيء من وهج الفرح.. بهجتي تملأ الوجود المتسع.. شموسي تتوّج ذلك الليل ملكا على كل الليالي الداجنات.
غادرنا المكان إلى غرفة تشرف على البحر.. شنّفت مسامعنا صوت أمواجه التي غنّت لنا وباركت هي الأخرى أفراحنا.. النجوم تدور حولنا كسلال الورد، وخلفها تنساب فصول الربيع.. يتضوع الليل بعطر الملوك الذي يفتح في مسام القلب نوافذ العشق الفتي، وبوابات الفرح البهيج.. الأزهار تبارك أفراحنا، والزنابق تبتهل وتدعوا لنا.. تنثر علينا عبقها وعطرها المنتشر.. الكل بنا أحتفي وأحتفل.
تفلسفنا حتى مطلع الفجر المتوج بالربيع الندّي.. وفي الصباح أشرقت فيني بهية.. صباح كوني عظيم.. قطفتُ قلبي وردة حمراء.. في قلبها طاقة كونية.. متجددة لا تذبل ولا تشيخ.. كثافة من أريج الحب الذي لا ينتهي.
أهديتها جواهري.. أصدافي ولألئي.. مشارقي ومغاربي.. عصرتُ نبيذها من دمي.. أشربتها من منابعي.. ومضتها من لوامع أدمعي.. أنّقتها بكأستي التي تلمع بالعيون وتبرق بالحنين.. كل شيء لمحبوبتي عربون لحب يدوم.. توجتها ملكة على حبي العظيم.. جوهرة من دمي القاني نقطُّها وسط الجبين.. منحتها كنوزي وتيجاني وكل ممالكي.. سكبت روحي على راحتيها قبلة تسري خمرة ونشوة في روحها والجسد.
بعد إعياء وبحث.. ألتئمنا وأتحدنا.. أكتمل وجودنا، والتحمنا بالوجود.. عِشرة فيها اصطبرنا وامتحنّا صبرنا حتى غلبنا رهانات الفشل.. عِشرة بطعم الصبر المقاتل والعنيد، عشرة بعقودها جمعت شملنا بالتحدِّي في وجه ملمّات الحياة.. سبعة من البنين والبنات، وحياة وامتداد لا يموت.
بعد الزفاف ثلاثون عاماً وزاد فيضها، حافلة بمعجزة الصمود.. وعطاء لا يكل ولا يمل.. وإرادة أقوى من حديد.. أنتصر وجودنا الغالب لخيبات الزمن.. أعتدنا تقلبات الحال حتّى عبرنا للمحال.. وبصبرنا وثباتنا صرعنا المستحيل ألف مرّة.. صراع البقاء، ومشاهد من العجب العجاب.. شاسعين بحبنا.. بصبرنا.. بجنونها.. وغفراننا لخطايانا العظام.