أخبار وتقاريرالبيئة و المناخالعرض في الرئيسة

نحو تنمية ريفية مستدامة في ظل هجرة عكسية فرضتها ظروف الحرب

يمنات

أنس القباطي

كثيرون هم من اجبرتهم الحرب على مغادرة المدن صوب الارياف، خاصة بعد انقطاع المرتبات، وانهيار سعر صرف العملة المحلية امام العملات الاجنبية، وتفشي البطالة. 

لكن القرى هي الاخرى لم تعد آمنة، فقد وصلت إلى كثير منها المواجهات، لوقوعها على خطوط التماس بين السلطات المتناحرة التي تتقاسم الجغرافيا اليمنية.

رائحة الطين بعد المطر

اشعر بحنين جارف إلى قريتي الواقعة وسط جبال القبيطة ذات الطبوغرافية المعقدة، والمسالك الوعرة، والتي صارت مقسمة بين سلطتي واقع. 

انا ابن القرية المعجون بطين الارض، والتوافق لرائحة الطين بعد المطر. انا ذلك القروي الذي لا يزال يشده صوت الديك وهو يناجي الفجر الذي بدأت تباشيره تطل من ذلك المنحدر الذي يقع في اسفله وادي صخري عميق على جانبيه تتزاحم شقوق الصخور النارية، وعبر قاعه الضيق تتضايق السيول وهي تعبره متجهة نحو وادي حدابة، حيث الحدود الشطرية السابقة التي باتت اليوم حدودا بين سلطتي واقع متحاربة، ومنه إلى وادي عقان احد روافد وادي تبن. 

سلة الغذاء التي اهملت

افكر بالعودة إلى القرية، فلم يعد في صنعاء التي صرت نازحا فيها، ما يغري للبقاء، فحتى صفة نازح كهوية جديدة، لم احصل عليها، وصرت مثل اولئك الذين يطلق عليها “البدون”، لكنها الموانع والعوائق التي تقف في وجهي، ومثلي الكثيرين، لتمنعني من العودة إلى أحضان قرية تتربع على مصطبة صخرية تستقبل شعاع الشمس الاول صباحا، واخر خيوطها قبل الغرب. 

يعرف الريف بانه سلة غداء المدن، وعين مائها، لكن هذه القاعدة ليست عامة في كل الريف اليمني، فطبوغرافية البلد الجبلية فرضت على بعض القرى الجبلية طبيعة قاسية، فالتربة فيها قليلة، والانحدار الحاد يساعد الامطار وان كانت ليست بالغزيرة في جرف ما تكون من تربة، وتزيد الظروف المناخية من قساوة الطبيعية، فالامطار موسمية وفي كثير من المواسم تكون قليلة، فتصبح الحاجة للماء كبيرة، وهي اكبر هموم سكان تلك القرى المتدلية من اعالي الجبال.

ظل المطر

لكن كيف يمكن البقاء في قرية تصنف بانها قرية واقعة في ظل المطر، فحتى الامطار التضاريسية التي تاتي بها الرياح الجنوبية الغربية المشبعة ببخار الماء من جنوب البحر الاحمر وشمال خليج عدن تسقط خيرها في الجبال المقابلة، ولا تصل إلينا إلا جافة تحمل ما تبقى من طمي الارض الملتاع لقطرة الماء الصغيرة، مثل قلبي المتيم بشعاب هجرتها عصافير الدوري، ووهاد باتت الأشجار تخوض فيها معركة للبقاء بالنزر اليسير من الوريقات التي تحكي قصة صمود اسطوري. 

قرانا وفية للمطر، فهي التي تتحول تلالها وجبالها إلى بستان اخضر، وتنبت على منحدراتها الشجيرات بكثافة، ووديانها تتحول إلى غيول رقاقة، متى ما جادت السماء بغيثها، لكن رهان كثير منها لا يكون إلا على امطار الجبهات في الشتاء، وسرعة الرياح ودرجة تشبعها ببخار الماء، فتربتها العزيرة الناتجة عن عمليات تجوية الصخور المتحولة قابلة للانبات، لكنها لا تستقر ان سالت الشعاب بغزارة.

جحود 

الريف الذي هجرناه وصرنا بحاجته اليوم بحثا عن الهدوء والآمان من ظروف بائسة فرضتها علينا سلطات القهر، هو اليوم بحاجة لجهودنا، وكانه يقول لنا مثلما تركتم تربتي تنضب، ومياهي تهرول نحو اسفل المنحدرات، انتم اليوم من سيدفع الثمن بؤسا وشقاء في المدن الاسمنتية والكتل الخرسانية الصماء، وعوادم المركبات والمصانع التي فضلتموها على نسيم الوادي والجبل الذي يتناوب على قراكم في الليل والنهار، فضلتم ضجيج المدن على هدوء القرى، قبلتم صخب المدينة واعرضتم عن معزوفات العصافير للصباح وموسقة البلابل وقت الاصيل. 

الريف اليمني بحاجة لابنائه حتى وان ابتعدوا عنه بحثا عن العيش الكريم، لان الاهتمام به هو تطبيق للمثل الشعبي “احتفظ بالقرش الابيض” جمعه قروش، وهو نوع من العملات المعدنية” لليوم الاسود، وما اجوجنا للقرش الابيض “الريف”  في ايامنا السود التي نعيشها للعام العاشر على التوالي.

التنمية والريف 

الريف بحاجة لتنمية مستدامة، وان كانت التنمية لا تقوم بها إلا دولة، وهي التي نفتقدها اليوم، لكن ذلك لا يعفينا من واجباتنا تجاه قرانا، فعلى الاقل نقوم بالتوعية لحث السكان على الاصلاح البيلوجي للمدرجات الجبلية، ووقف الاحتطاب الجائر، وترشيد استخدام المياه، وحث المنظمات والجهات الرسمية للاهتمام بالريف خدميا وتقديم مقترحات بتنفيذ برامج بيئية وزراعية تساهم في تحسين دخل سكان الارياف، وتحافظ على البيئة كمورد مستدام.

ريفنا جميل، لكنه بحاجة للتاهيل والحفاظ على طبيعته ايكلوجيا، ليظل نقيا وقابلا للعيش والعطاء، اجدادنا حولوا الجبال إلى مدرجات انتاج، وكانت اعرافهم تحرم التوسع العمراني على حساب الارض المنتجة، فمنحتهم تلك الجغرافيا رغم قساوتها الامن الغذائي والمائي، وما احوجنا إليه اليوم. بنوا مستوطناتهم على الحواف الصخرية، وزرعوا كل ما يمكن زراعته من الارض، بل انهم وضعوا حجرا على اخرى في المنحدرات ليجمعوا التربة الناتجة من تجوية الصخور، لتصبح مدرجات خضراء تجود بسنابل الحياة، لكننا اليوم تركناها تتهدم؛ فذهب جهد عقود لجمع التربة الغنية بالمعادن والاشجار والشجيرات التي سادت لسنوات طويلة.

تغيرات بيئية

نحن امام تغيرات بيئية في منطقة مدارية، طقسها القادم ستكون سمته التطرف المناخي في عناصر الهطول والحرارة والرياح، فإما امطار غزيرة تجرف ما تبقى من تربة وتعري جذوع الاشجار، او جفاف ياتي على ما تبقى من موارد مائية، وذر ما تبقى من تربة في الهواء.

خلال سنوات الحرب التي تقترب من اكمال عقد من الزمن، شهد اليمن هجرة داخلية عكسية، من المدن إلى الريف، لكن هذه الهجرة لم تعمر الريف، كما عمرت المدن، عاد الكثيرون من المدن إلى قراهم هربا من جحيم الحرب، لكنهم عادوا الى بيئة مهملة، فاصبحوا عالة عليها، فالمدرجات الجبلية الصغيرة صارت مهدمة ان لم تكن قد تحولت إلى منحدرات سحيقة، والتربة الطينية صارت مخربة بسبب الاهمال، وبسبب عدم صيانة الجدران ومجاري السيول، وبعضها صارت غير صالحة للزراعة بسبب المشاريع الخدمية كالطرقات، التي هدمت كثير منها وحولت بعضها الى مكبات للرواسب الناجمة عن الشق، او بسبب تغير مجاري تصريف السيول نحو الحقول.

تأهيل البيئة الريفية

نحن بحاجة إلى مشاريع بيئية في الريف اليمني تصلح ما خربه اهمال عقود للبيئة الريفية، وبما يحقق تحسين الدخل لسكان الريف، بدلا من انتظار الاغاثة والمساعدات من الخارج. هناك مساحات مهملة بحاجة لتأهيل حتى تصبح مساحات منتجة يستفيد منها سكان القرى، ومن ابرزها المدرجات والاراضي المنتجة التي تحولت الى مكبات لرواسب شق الطرقات. 

وهي دعوة للمنظمات التي تعمل في مجال البيئة وتحسين دخل سكان الريف، وذلك من خلال برامج تنموية بمساهمات مجتمعية لاعادة بناء المدرجات المهدمة، وازالة رواسب شق الطرقات التي دفنت الكثير من المدرجات، وتصحيح مجاري السيول التي حولت نحو الاراضي الزراعية، واعادة تاهيل ما خربته من الاراضي الزراعية، ومثل هذه البرامج ستكون ناجحة، وسيلمس اثرها في المجتمعات الريفية، من خلال رفع انتاج الحبوب واعلاف الماشية، وذلك سيساهم في خزن كميات من المياه وسيقلل من الجريان، ما سينعكس ايجابيا على الموارد المائية، التي يعاني من نضوبها سكان الريف. 

وهناك الكثير من البرامج التي يمكن تطبيقها في الارياف، بما يساهم في تنمية الريف وتحسين موارده، ساتحدث عنها في تناولات لاحقة.

* الصورة التقطت في يوليو 2011

زر الذهاب إلى الأعلى