12 يوما في زنازين “الجماعة” (2-3)
يمنات
محمد الصهباني
ظللنا نتقاطع الأحاديث فيما بيننا، فوجدت فيه إنسانية خلال أيام السجن، أنا على ثقة بأنها لم تكن مصطنعة، يشعرك وكأنك تعيش المروءة واقفة أمامك بأقدامها. ولا يهمني في هذا السياق، إن لدى الرجل سجلاً واسعاً في دخوله سجوناً كثيرة، على ذمة قضايا مختلفة، يعترف بها بكل برود، ولكنه يؤكد بأنها لم تكن بسبب قضايا مخلة، البتة.
أما ما يثير فيه الغرابة، فإنه كان يصر على أن يتم نقله إلى “سجن الصالح” ويضحك، فيضحِك زملاؤه السجناء من هكذا أمنية، وعلى ما يبدو أن لديه علاقات متينة هناك، يمكنها أن تعجل بأمر إطلاق سراحه، وهو ما حدث له فعلاً.
ينطبق الأمر على محمد عبد الفتاح، كان لا يهدأ دون أن يسجل موقفاً مناهضاً لمسؤولي السجن، يغضب، ثم يتهكم على سوء إدارتهم للأوضاع الأمنية، وإلا لما كان معتقلاً بسبب شعار سبتمبري. وكثيراً ما كان هو المكان الآخر يتحدث إليَّ بإنسانية وحزن، لما أصابني من لوثة الاعتقال، التي طالتني، كإنسان يعول تسعة أطفال، لا حول لهم ولا قوة إلا بوجود أبيهم. قلت له: لا أحد يعلم بأنني أشتري دقيقاً بالكيلو، وبشكل شبه يومي، وهذا ليس عيباً. قال: أنت أشرف منهم، وهناك الكثير من أمثالك يعيشون على الكيلو، فلا تخجل من العيش الحلال، حتى وإن كان متعباً.
كنت أشعر بطمأنينة لا بأس بها، بوجود سجناء، في قمة النبل والشجاعة والآدمية، ثلاثة منهم باسم “محمد”، محمد بن غانم، محمد الزيلعي، ومحمد المطري، إلى جانب بطل الزنزانة، مصطفى القبيلي، وهو بالفعل بطل، وإنسان شجاع، لم أجد في المعتقل رجلاً بمثل صلابته أبداً، إلى درجة أن مدير الأمن، أمر بكلبشة يديه وأرجله مرتين، على هيئة نجمة رباعية، آخرها استمرت ثلاث ساعات، تلاقت يده اليمنى مع رجله اليسرى، ورجله اليسرى مع يده اليمنى، عقاباً على اعتلائه نافذة، كان يقصدها، لمحاولة إيصال صوته إلى عساكر “سلطات الأمر الواقع”.
أحزننا أمر كلبشته، ما جعل مدير الأمن، يقوم بزيارتنا أكثر من ثلاث مرات متفاوتة، كان آخرها ليل الرابعة والعشرين من سبتمبر، ومحاولة تهدئة السجناء، من التوتر، والتخفيف من إزعاج “أمن السجن”، كما يقول.
كان مصطفى يخاطب المدير بعبارات احتجاجية حادة، ويتألم في الأثناء، وكان ضابطاً يقف في مدخل الزنزانة، ادعى أنه ألقى القبض على شخص، وهو يقوم بإحراق إطارات المركبات، احتفاءً بسبتمبر، وزعم أنه وجد في حوزته مئة ريال سعودي، قال إنها ضمن الدعم الذي وزعه رشاد العليمي، على مشائخ وأعيان في مديريات الصلو، وسامع، المحاذيتان لمديرية خدير. قاطعه مصطفى: “ذلحين أنت تعتقد أنك حققت إنجازاً أمنياً؟”.
بدت السخرية على تقاسيم وجه مدير الأمن من كهذا مزاعم، فيما الضابط ابتلع لسانه، وكأنه أصيب بالخرس!
وكنت سمعت سجيناً يخاطب مدير الأمن: “لم أرَ مدير أمن سابقاً، جلس وجهاً لوجه في زنزانة، مع سجناء سياسيين، إلا أنت يا فندم”. ورد عليه الأخير: “لا تقلقوا، وبعدين منتو قتلة يا خُبرة”.
هذه اللهجة كانت كفيلة بإشادة السجناء بالمدير، فيما تقبل البعض تطميناته على مضض، وتساءل سجين آخر عن أسباب الاعتقال، وإلى متى سيظلون؟ فقال لهم إنه لا يعلم، وأن البلاغات جاءته مما سماها “العمليات في الحوبان”.
عاد السجناء إلى مخادعهم، وظلوا يهتفون: “سبتمبريون .. سبتمبريون”، وزاد حماسهم عندما شاهدوا مسؤولي الجماعة في التلفاز، وهم يحتفلون بسبتمبر في ميدان التحرير، بصنعاء.
قال مصطفى: “مدير الأمن لا يعلم عن أسباب حبسنا، ونحن لا نعلم، والمسؤولون لا يعلمون. أين نحن إذن؟”. وضحك كعادته، وأضحك زملاءه، ثم قرر أن يحتفل بإضاءة النافذة، بأي من وسائل الاحتفال، ولم يفعل.
ليلة السادس والعشرين، تم استجوابي إلى الدور الثاني، ووجدت ضابطاً، قال إنه يقرأ منشوراتي، سرعان ما سألني: “كم تستلم من توكل كرمان؟”. قلت له: “هذا تحقيق رسمي أم ماذا؟”، فقال: “لا”.
التزمت الصمت، وقلت له: “عندما أعرف أسباب اعتقالي، باستطاعتك أن تسألني كما تشاء”. عاد وكرر نفس السؤال: “كم تستلم من توكل كرمان؟”. قلت له: “هذا سؤال عبثي يا فندم، وإذا ثبت عني ذلك، سوف أتحمل أي عقوبة تراها مستحقة”.
وقبل أن يأذن بعودتي إلى الزنزانة، قال إنه يجس النبض، وأكد لي بأن لا داعي للقلق، ومن الممكن إطلاق سراحي، وزملائي صباح غد الجمعة.
عدت فرحاً، وقلنا: “كما كنا نتوقع، سيتم الإفراج عنا بعد مرور احتفالات سبتمبر”، وتذكرنا عبارة قالها مدير الأمن: “لا تقلقوا، وبعدين منتو قتلة يا خُبرة”.
عشت ساعات غمرتني بالطمأنينة، ولم أنم إلا في وقت متأخر من الليل، ويا فرحة ما تمت!
في السابعة من صباح اليوم التالي، فتح السجان الزنزانة، وأوهم سبعة سجناء بأمر الإفراج، ما إن دلفت قدماي دورة المياه، حتى سمعت سجيناً يتحسر على نفسه، قائلاً: “سيذهبون بنا إلى سجن الصالح.. يا الله!”.
تم نقلنا بعد ربع ساعة، مع قرابة أربعين سجيناً إلى صندوق ضخم في عربة شرطة، حشروا كنعاج، وجلهم اعتقلوا على خلفية إحراق إطارات المركبات. كنت لحظتها، أتمنى أن أحضن نجلي الأكبر، وضَّاح، بحرارة، فحسب، وتقبلت الأمر بألم وحسرة، وغصة في الحلق.
شقت عربة الشرطة سيرها باتجاه منطقة “سجن الصالح”، بمنطقة “الجندية”، كنت أقف منتصباً طوال سيرها، ورغم أنني كنت في محاذاة نافذة مشبكة، إلا أنني لم أنجُ من تبلل ملابسي بالعرق الغزير، نتيجة تزاحم السجناء، الذين فضَّل بعضهم الجلوس أرضاً.
لكن ما هو أكثر رعباً، وقتذاك؟ انفجار أحد إطارات العربة، في منطقة “نقيل الإبل” الجبلية. ما زاد من ارتفاع شدة الحرارة في الصندوق، دامت لنصف ساعة تقريباً، وهي المدة التي تم فيها تغيير إطار احتياطي، تمكنوا من تركيبه برتابة شديدة.
عشت لحظات موت، نجوت منها بأعجوبة، أمسكت على قلبي، بهلع، وأنا ألفظ عبارة: “يا الله يا الله! سأموت”، وتذكرت وضَّاح، وإخوته، ومن سيعولهم، ولم أستطع تحمل الأمر، ففكرت بالجلوس، متذكراً أن كل ما حصل لي لم يكن ليحدث، لو كنت التزمت الجلوس، للحصول على كمية أوكسجين.
كانت نوافذ المركبة لا تكفي لتدفق الأوكسجين بشكل طبيعي، شدة الحرارة كانت أهون من ضآلة انعدام الأوكسجين، فعلاً!
جلست القرفصاء، بين أقدام السجناء، ووجدت أن الأمر أفضل من الوقوف، حصلت على كميات أوكسجين، خففت من حالتي النفسية والجسمانية.
كان مصطفى، وحيداً يصرخ بأعلى صوت: “الرجل سيموت، توقفوا.. الصهباني مات يا ناس”، ولكن ما من مجيب.
يالها من لحظات، غابت فيها الإنسانية في ضباط العربة. رفعت رأسي، وطلبت من أحدهم أن ينتشلني، مد يده وفعل.
قال أحدهم: “ألم تمت؟”، فقلت له: “كنت أشعر بالموت في منطقة القلب، لكن نجوت .. نجوت!”.
في الثامنة، وصلنا عمارة من خمسة طوابق أو يزيد، رفقة طقم كان خلفنا، فأنزلونا، واحداً واحداً، ودونوا أسماءنا، ووزعونا على غرف شبه ضيقة.
تناولنا الإفطار، فول مع كدمتين، وكأس شاي أحمر، فشعرت بعد ذلك أن السكينة نزلت عليَّ. هكذا أزعم أنني شعرت بتلك اللحظات أفضل من السجن في “الدمنة”.
أقسم بأنني لست مبالغاً في الأمر.
دقيقة فدقيقة، حتى ارتفع صوت أذان صلاة وخطبة الجمعة، ما حدا بأحد السجناء إلى المغامرة بقراءة خطبة الجمعة، عبر كتاب وجده في الغرفة عن الخطب المنبرية. قلت له: “الخطبة لا تجوز إلا في وجود أربعين مصلياً”، قال: “لنصل حتى في وجود النصف منهم”.
كان رجلاً فارعاً يقرأ الخطبة من ذلك الكتيب، في مدخل الشقة الضيقة، وكان شاباً يجلس في زاوية ما، وظل ينفث سيجارته بأريحية، ودخانها يمر من على رؤوس المصلين، مروراً بالخطيب.
-كان مشهداً استثنائياً، تمنيت امتلاك كاميرا لتسجيل المشهد المثير للدهشة، وأكتفيت بابتسامات لم يشعر بها أحد.
تناولنا وجبتي غداء، إحداها تم توفيرها من منزل سجين، ثم بدأنا نمضغ القات حتى السادسة مساءً مع سجناء، حصلوا على حصتهم من القات، من قبل أهاليهم. وفي الثامنة مساءً، تناولنا وجبة العشاء، ليبدأ الهرج والمرج، بأن التحقيقات ستتم مع كل فرد على حدة، بتغطية عيونهم خلال التحقيق وقوفاً.
بدأ المحققون يستدعون كل خمسة أفراد على حدة، للتحقيق معهم، حتى جاء دوري مع خمسة أشخاص، وجهت لنا أوامر بالجلوس في درجات الطوابق السفلية.
شعرت بالقلق، بعد انتظار دام لأكثر من ساعة، مازاد من حاجتي للتبول. طلبت من أحد حراس بوابة تؤدي إلى دهاليز الدول الثاني، السماح لي بالذهاب إلى دورة مياة، فقال: لاأحد يتبول هنا، إلا وهو متورط بجريمة.. ولمز بسخرية لمشرف كان يحشر القات بكلتا بجمتيه، واثقاً من أنه اكتشف في حاجتنا للتبول، جريمة!؟.
في العاشرة ليلاً، جاء دوري، ربط جندي شالاً على عيوني، وقادني إلى غرفة التحقيق. تفاجئت من صوت المحقق، وهو يطلب مني فك الشال، والجلوس أمامه، فتذكرت دعوات أمي الراحلة_رحمة الله عليها_ بـ”أن يسهل لك يامحمد، ويسخر لك، ويوفقك”. وأعتقد أنه إذا لم يكن الحظ أيضاً، قد انتصر لي بتخلي المحقق عن ربط عيوني، فإنها دعوات أمي، قد أنقذتني من تحقيق مخيف إلى حد ما.
كان المحقق يمضغ قاتاً على متكأ أنيق. سألني عن إسمي، وعنواني، وعمري، وصفتي، وعن وظيفتي، فأجبت عليه أنني لست موظفاً رسمياً، وكانت كل إجاباتي طبيعية، ولكن كان فيها شيئاً من التوتر، تمكنت من التغلب على هذا التوتر، في البداية.
سألني: ماهي تهمتك؟. قلت له: كيف تسألني سؤالاً كهذا؟.. يفترض منكم أن توجهوا تهمة واضحة؟ ثم سألني عن مكان الاعتقال، قلت له : من أمام مكان محاذٍ لمنزلي الريفي، في منطقة (….).
أدركت حينها، أن ليس لديه أي تهم، فطرح عليّ سؤالاً بصيغة أخرى: ماهو سبب اعتقالك؟.
_تهمة الإعداد لاحتفالات 26 سبتمبر؟ نفيتها نفياً قاطعاً، ولم أنف نشري لـ”شعار 26″ في “الفيسبوك”.
ما اسم صفحتك؟.
_محمد الصهباني؟.
وما غلاف الصفحة؟.
_إياك أن تخاطر بكرامتك باستجداء أحدٍ حتى وإن كان قادراً على العلو بك إلى السماء.
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا