ارشيف الذاكرة .. في السجن
يمنات
أحمد سيف حاشد
فيما كنت قد صرت في قبضة العسكر، هرع أحد أقرباء المصاب، أظنه ابن عمه، اسمه طلال على الأرجح .. فارع الطول و متناسق البنية، و بشرته تميل خفيفا إلى السُمرة .. أول ما شاهدني صدمته هيئتي .. بديت دون توقعه أو دون ما كان يتخيله .. بديت أمامه قزما ضئيلا لا احمل ما يستحق المقارنة مع ابن عمه المصاب .. صرخ في وجه من كان موجودا بغضب ناقم: ”لا يمكن أن نقبل بعشرة من هذا”؟! ربما كان محقا إن نظرنا للأمر بمقياسه .. بالفعل كان شكلي قزما، منهك، شحوب، شارد، عابس، متعوس، فيما كان قريبه المصاب مربربا، تبدو من ملامحه فرط النعمة، و يبدو كأنه أجنبي .. شعره و وجنتيه ولون عينيه و جسمه الممتلئ باللحم و الشحم..
صرت أرقب بعض ما يحدث .. اعداد أمر الحبس .. حرص العسكر على أن لا أهرب .. تفرس العسكر في قراءة وجهي العبوس الملبد بالصمت .. لمحت وجود تساؤلات غامضة في وجوه بعض الحاضرين .. أحسست بوجود كلام يريد ممعني النظر أن يقولوه، و لكنهم داروه لأسباب ربما تخصهم..
أرقب التوجيه المكتوب بأمر الحبس .. تسليم أمر الحبس لمسؤول الحجز .. اصطحابي إلى غرفة الحجز .. فتح القفل و السلاسل .. فتح باب غرفة الحجز .. توجيه الأمر لي بالدخول .. اغلاق الباب بالسلاسل و القفل ذو الحجم الكبير..
كانت المرة الأولى التي أحتبس فيها .. تجربة مريرة أدخل فيها لأول مرة .. إحساس كثيف بقيد الحرية بحيطان و جدار و إغلاق بالحديد .. كانت غرفة الحجز بطول خمسة أمتار و عرض مترين تقريبا، و نافذة صغيرة مشبكة بالحديد .. أحسست أنني أدخل مرحلة أكثر قتامة في حياتي، و يجب أن أتهيأ و أستعد للأسوأ .. شعرت أن مجهولا سيئا ينتظرني لا أعرف بالضبط نهايته و تفاصيله..
كانت غرفة الحجز فارغة لا يوجد فيها محابيس غيري .. ربما كانت مناسبة الزيارة و الضيوف تقتضي ذلك .. وربما تم نقل بعض السجناء إلى مبنى المركز الواقع على الطور، و ربما كان هناك سجن آخر في مبنى المركز..
تمنيت أن يزور سالمين و عبد الفتاح غرفة الحجز .. لعلي أراهم عن كثب .. لعلهم يتفقدوا أروقة المكان أو حتى زيارة الضباط و الجنود المرابطين فيه، و لكن للأسف لم يحدث هذا .. و بدلا مما كنت أروم مشاهدته من طلعات بهية، و أيادي و أكف تلوح لنا بالتحية و السلام، صرت أتفرس السقف الكئيب و الحيطان الخرساء .. لا ونيس لي غير خرابيش و ذكريات سجناء على تلك الحيطان .. وددت أن يكون لدي قلم سحري، أو قطعة فحم، أو حتى مسمار أخربش فيه، و أكتب ذكرياتي و تاريخ حبسي على حائط الجدار، لأقول للنزلاء الجدد أو القادمين نحن أيضا مررنا من هنا..
للمصادفة و سوء الحظ أن أمي كانت مريضة و ترقد في نفس المستشفى الذي أسعف لها المصاب، بل أن أخو المصاب كان هو مدير المستشفى .. بدأت أشعر بالقلق حيال أمي .. كيف سيتم معاملتها بعد فعلتي التي نالت دما من أخ مدير المستشفى..؟!! ربما يطردونها، ربما يلحقون بها ضرر، أو يناولوها السم باعتباره دواء أو عقار، و يتم فيه الانتقام لمصابهم من أمي النزيلة في المستشفى للعلاج .. زاد قلقي و توجسي و خيالاتي بشأن أمي التي ليس لها غيري هناك..
بعد ساعة أو أكثر من انتهاء الحفل الخطابي، استدعاني ضابط البحث الجنائي .. أحضروني إليه .. شاهدت السكين على الطاولة محرزة باعتبارها أداة جريمة .. أمر ضابط البحث الكاتب أن يفتح المحضر، و تلى عليه مقدمة أشعرتني أن الأمر جسيم، و أنني أسير إلى طريق المحكمة و توقيع العقاب..
و بعد السؤال و الجواب و الاعتراف و مواجهتي بالسكين التي اعتبروها أداة الجريمة، و بعد اثبات الوقائع و التفاصيل التي رويتها، و هي لا تختلف عما حدث في الواقع، أمر الضابط بإعادتي إلى الحجز .. أستغرق التحقيق في حدود الساعة، و إثبات أقوالي في المحضر، فيما كانت في الحقيقة جريمتي ثابتة و مشهودة..
بعد إعادتي للحجز أطل عليّ من الباب أحد رجال القوات الشعبية اسمه عبد الوهاب من منطقة “الغول” و ترجع أصوله إلى “القبيطة” الذي جاء منها هو و أخوه عبد الحميد، أو ربما جاء بهما ولداهما من زمن خلى، و صارا من السكان المقيمين الدائمين في منطقة “الغول” الجنوبية..
كانت طلته كملاك يقدم لي المساعدة دون طلب .. كسحابة مطر و غيث لمستغيث .. رحمة قادمة من قدر يبالي و لا ينسى من يحب .. كيعقوب المحب لابنه يوسف .. كإبراهيم والد إسماعيل، و لكن دون سكين و لا فدية و لا أضحية .. بل أعطاني فراش و بطانية أجتهد بتوفيرها..
كان عبد الوهاب يعمل في نفس المكان الذي يفصله عن الحجز أمتار قليلة .. أطل بابتسامته التي خففت عن كاهلي ثقلا لا يقوى على حمله من هم حديثي سن .. ابتسامته منحتني الطمأنينة و السكينة التي كنت في أشد الحاجة إليها .. حديثه العذب جعلني أشعر أنني أعرفه من زمن طويل يزيد عن عمري القصير..
بعد ساعة شعرت بالإرهاق .. أحسست بالنوم يسبل و يرخي جفوني و يذبل عيوني المرهقة .. استسلمت له و غطيت في سبات عميق .. استيقظت بعد ساعات فجأة..!! نهضت و كأني مجنونا، أو كأن عفريتا فوق رأسي .. استغرقتني الدهشة و الذهول و أنا أسأل: أين أنا..؟! أين أنا..؟! و بعد برهة جمعت أشتات وعيي المتطاير، و استعدت صورة الواقع، و وعيت أنني محبوسا، و أنني ارتكبت جريمة، و أن هناك مجني عليه مصاب، ربما يتهدده الموت..
و بعد صحو و نوم بدأت أتكيف مع ما أعيشه من حال .. عدت إلى النوم ثم نهضت بعد سويعات، و قد صرت مستوعبا وضعي و حالي الجديد، و بديت مستعدا للتكيف، و قد تلاشى القلق الذي كان يعتريني في البداية..
أنطلق سعيد عبد الولي من طور الباحة إلى القرية .. أبلغ أخي عمّا حدث .. حضر أخي من القرية إلى مركز طور الباحة في اليوم التالي، و من حسن حظي أن الطعنة لم تكن غائرة، و كان أخي محط احترام و تقدير المسؤولين في مركز المديرية، و أنني ما فتئت حدثا، و لهذه الاعتبارات تم اطلاق سراحي بضمانته، و مع ذلك تم استدعائي و توقيفي من قبل مسئول البحث أكثر من مرة، و في إحداها تم توقيفي أنا و المصاب معا بعد أن شفي من الاصابة و تم حل القضية و إغلاق ملفها..
أما أمي فلم يصبها مكروه، و لكن أصابها الهلع، بعد أن علمت من بعض رفقائي بما حدث، و كان مدير المستشفى أخ المصاب دكتورا يقدر المسؤولية، و يهتم بمرضاه، و لا يسئ و لا ينتقم..
إن ما حدث كان تهورا و طيشا و سوء تقدير في عمر كنت لا أزل فيه حدثا، و كان شعوري بالغربة و الاستفزاز المتكرر و الشعور بالتعالي من قبل ما بدا لي أنها عصابة دفعتني إلى فعل ندمت بسببه و تعلمت منه..
ندمت أيضا لعدم تمكني من رؤية الرئيس سالمين و عبد الفتاح اسماعيل .. و بعد فترة صدمني خبر الإطاحة بسالمين الذي كان محبوبا و ذو شعبية لدى الكثيرين من البسطاء بما فيهم الرجل الطيب عبد الوهاب، فيما كانت شعبية عبد الفتاح اسماعيل في الغالب نخبوية، و مكانته كانت أكبر عند المثقفين..
و بقي السؤال: لماذا السياسة تفسد العلاقة بين من نحبهم..؟! إنها الدنيا و السلطة و غياب العقل و قلة الحكمة و حضور التهور و الطيش، و قلة التجربة .. و ربما تعقدت الأسباب، و كان لدورات العنف نتائجها الكارثية التي أطاحت بالجميع، و أثقلت المجتمع بما لا يطاق، و شوهت ما كان يفترض أن يكون جميل و مثال..
***
يتبع..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.