ارشيف الذاكرة .. سوق الخميس والمجنون
يمنات
أحمد سيف حاشد
- عندما كنّا أطفالا في القرية، كنا ننتظر يوم الخميس بفارغ الصبر، و لو طلبت الأقدار منّا التمنّي، بما نرغب و نشتهي، لطلبنا منها أن تجعل كل أيامنا خميسا لا ينقطع و لا ينتهي..
- كان يغمرنا الفرح حالما نرتاد سوق الخميس .. ننتظره بشوق و لهفة .. كان هذا السوق بالنسبة لنا نحن الاطفال أشبه ببازار أو كرنفال بهيج .. الخميس يوم زاهي و مميز في أيام الأسبوع .. لولا هذا اليوم لاختلطت أيامنا حابلها بنابلها .. كانت أيام الخميس تيجان أيامنا، و فواصلها البهيجة .. أيامنا القادمات و الذاهبات ليس لها معنى بدون يوم الخميس .. يوم الخميس فسحتنا الجميلة التي نرى فيها ما لا نراه و لا نسمعه في الأيام الآخريات..
- كان الهدير و الصخب يميز هذا المكان و هذا اليوم البهيج .. إنه المكان الذي يجتمع فيه الناس .. يتقاطرون عليه من كل حدب و صوب .. يقطعون المسافات البعيدة، و يتجشمون مشقة التضاريس، و يتحدّون حدود التشطير، و يلتقون في سوق الخميس .. يسلمون على بعض بشوق و لهفة، و يتحدثون إلى بعضهم بحفاوة و حرارة..
- يكتظ مركز السوق برواده، و تمتد أطرافه .. يموج بالبشر و السلع .. بيع و شراء و حياة تدب فيه دبوب .. تسمع هدير و همهمات السوق قبل أن تراه أو تصل إليه .. صخب و جلبة و حياة و نشاط دؤوب .. يبتاعون و يشترون .. يتحدثون و يقهقهون..
- بعضهم يتناول فطور الصباح، و بعضهم يحتسي الشاي و القهوة، و بعضهم يتناول وجبة الغداء في عز النهار .. هناك مقهى لــ”دولة” و هي امرأة بيضاء فارعة الطول، مليحة الوجه و زاد الوشم فيه جمالا و تأنق .. و لم تكن جائحة التشدد و التزمت بعد قد وصلت إلى قرانا، و لم يكن يومها الخمار يُضرب على وجوه النساء، و كانت العفة و البراءة و الطيبة هي من تسود دون خدش أو تعرّض، أو وجود ما يفسد البراءة و الحياة..
- في سوق الخميس كانت هناك مقهى لـ”رُكيز” الرجل المبتسم الطيب، الذي تشعر و أنت تراه بالألفة و الرضى و الارتياح .. كانت ما تصنع يداه من الطعام مشتهى، و قهوته تحسّن الكيف و تعدّل المزاج .. و هناك حميد أنعم الرجل الفقير و الطيب، يبيع الماء البارد و الليم، و يعلن بصوته الرخيم “البانهيس .. البانهيس” .. و كثيرون في السوق يعلنون و يروّجون لسلعهم، و أحيانا يعتلي “المطرِّب” ما هو مرتفع، و تسمع إعلانات لموالد و مناسبات أو ما يهم الناس من شأن عام، و يُستهل الإعلان بـ”الحاضر يعلم الغائب..” جميع هؤلاء الناس رحلوا، و وجدنا اليوم أنفسنا في حضرة الحرب و الخراب و الدم، وسط الأوغاد و اللصوص و المجرمين .. يا إلهي كم كانت تلك الأيام جميلة، و كم كان ناسها طيبين..
- كانت أيام الخميس بالنسبة للأطفال الذين يرتادون السوق أعيادا بهيجة .. و لكن كان إحداها بالنسبة لي يوم غضب و عراك .. كان المجنون و يدعى “العولقية” مشهورا لدى الاطفال .. كانت تداهمه نوبة توتر عصبية، و حركة انفعال تهب فجأة، و فيها نوع من العدوانية، و افراغ شحنة من التوتر و الغضب، تصاحبها اطلاق كلمات شاتمة و ألفاظ سب، و يستحضر فيها اسم “العولقية”..
- الحقيقة لا ندري ما سر هذه “العولقية” في حياة هذا “المجنون”..!! و ما علاقته بها..!! ليتم تسميته باسمها..!! “العولقية” هي اللغز المغلق في حياة هذا الرجل المبتلى بحالة نفسية و عصبية و ضربا من “جنون”..
- تذكرت هذا، و أنا أقرأ قصة نجيب محفوظ “همس الجنون”، و الذي كتبها في ثلاثينات القرن الماضي، متقمصا الحالة، و فيها يحاول الإجابة على سؤال ما هو الجنون..؟! كتب في مستهلها: إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة و كالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، و الجوهر، فسر مغلق..
- كان “المجنون عولقية” يشكل هاجس قلق و خوف للأطفال في السوق .. كانوا يذعرون منه عندما يشاهدونه .. و كان أحيانا يهاجمهم و يلاحقهم، دون سبب، لاسيما إذا انتابته الحالة، فيهجم و يضرب بيده من يجده أمامه من الاطفال، و يواصل سيره دون أن يعير بالا لأحد .. و في بعض الأحيان كان يراجم بالحجارة، و يقوم بحركات متعدية، تجلب الفزع و الخوف للأطفال، و أحيانا يعترضوه الكبار، و يصرخون في وجهه: “بلا جنان فجّعت الجهال” لا أدري في الحقيقة لماذا يفعل هذا..؟! لماذا عدوانية هذا “الجنون” تتجه في شطر منها نحو الأطفال..؟! هل ألحق الاطفال فيه يوما اعتداء أو أذى أو استفزاز مثير..؟!! الحقيقة لا أدري..!
- و مع هذا “المجنون” كان لي قصة .. لا أدري كم كان عمري يومها عندما تفاجأت و هو يشق الزحام في السوق، و يسكع رأسي من قفاه بضربة قوية .. لا أدري كيف ركبتني نوبة غضب و انفعال “مجنون” .. اعتركت معه، و كان المجنون يطلب من الناس التدخل لفض العراك و يسألهم: ابن من هذا المجنون..؟!! فيما كان الأطفال يحيطون بنا، و يتابعون ما يحدث..
- تدخّل الناس و فضّوا العراك .. بدا لي يومها أن الجنون مع الجنون يفلح .. تذكرت هذا قبل سنوات، و أنا اشتبك بالكلام مع بعض المجانين، غير أنني اكتشفت مؤخرا إن لا تضيّع كثير من وقتك بمراجمة المجانين، أو لا بأس أن تعترك معهم، دون أن تكف عن البحث عمن يقف وراءهم، و داعميهم .. فإذا وجدتهم عليك بهم، هؤلاء الأوغاد يستحقون الجنون، و حتى النتائج مهما غلظت و عظمت عليك..
- بدأ “العولقية” يسأل عن والدي، و عندما دلوه عليه، و كان معروفا في السوق، شكاني إليه وقال له:
– معك ابن مجنون .. شوف ابنك ايش فعل بي..!..
و كان يعرض على والدي قميصه المقطوع، و أثار الأظافر و الخربشة على يديه و بعض من أجزاء جسده..! .. غير أن الأطفال الموجودين، و منهم ياسين عبد الوهاب أنجدوني بشهادة لصالحي، و شهدوا أن “العولقية” هو من بدأ بسكعي في رأسي، و بتلك الشهادة، نجوت من عقاب شديد و قاسي كان ينتظرني من والدي المعهود بالشدة و القسوة و الصرامة .. من يومها قيل إن “عولقية” كف عن العدوانية حيال الأطفال..
- رحل “العولقية” قبل سنوات قليلة، و قيل إنه تعافي من حالته النفسية قبل أن يموت .. و لكن لم تمهله أمراضه الأخرى كثيرا .. لم أراه منذ وقت بعيد .. رحل عن الحياة بهدوء .. رحمة ربنا تغشاه..
- كانت البراءة في تلك الأيام غامرة، و كانت حرية المرأة أكبر، و السواد على النساء لا نراه إلا بثوب “الثبيت” الجميل قبل أن تفتك بنا الوهابية و الأفكار السلفية المتشددة التي جاءت من خارج مناطقنا في مستهل الثمانينات .. لازلت أذكر كلمات عمتي “سنبلة” أم عبده فريد مع أحد مسوقي التشدد و التزمُّت في قرانا في تلك الأيام، حالما كان يحاول أن يسلّم عليها بطرف أصابعه، و هو يلفها بخرقة القماش التي كان طرفيها مسدول على جانب يديه و مدورة على عدنه من الخلف..
فقالت له:
– إلى أمس يا ابني و أنت تبول فوقي .. كنت “أبوّلك” و “أخرّيك” و اليوم لا تريد أن تسلم علي إلا بالمشدة .. أني مثل أمك .. من أين أتيتم بهذا الدين..؟!!
لقد كان احتجاج قاسي على هذا الجحود و التصرف السطحي الذي أبداه هذا الصغير على مرأة بسن و مقام أمه .. و لكن كان هذا الجحود يتم باسم الدين، و قد اغتالوا البراءة و الطيبة التي كانت تسود..
يتبع .. حكايتي مع الأشباح
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.