ارشيف الذاكرة .. ادارة التناقضات
يمنات
أحمد سيف حاشد
كان الواقع الانتخابي معقدا للغاية، ومكتظا بالمتناقضات، وعليك العبور في طريق مزروعة بالألغام والأشراك والفخاخ.. تناقضات مناطقية، وأخرى عشائرية وقبلية، وبعضها متعلقة بمصالح أنانية مفرطة، وهناك تناقضات مردّها حزازات ماضوية، وبعضها حديثة العهد، وتناقضات أخرى لا تخلو من تعصبات قطيعيه.. تناقضات عصبوية ضيقة لا أنتمي لأحد منها، ولكن لا مناص أن تجدها في مواجهتك وجها لوجه، وربما بعضها يُهدد بالانفجار في وجهك، أو تنفجر بغتة تحت قدميك، إن لم تسوسها على نحو حكيم، أو تتجاوزها بحذر بالغ..
عليك أن تحسن التصرف، وأن لا تقع في الخطأ الذي يمكن أن يحدث في لحظة شديدة الحساسية تدفع ثمنها غاليا، وتحصد الفشل المرير.. عليك أن تسوسها باقتدار، وعلى نحو حكيم وواعي، وأن لا تنزلق إلى إحداها، أو تلوذ بها، أو تتحوّل معها إلى عصبوي صغير.. عليك أن تكبر بنفسك قدر ما تستطيع..
يجب أن تسير إلى نهاية الحبل المشدود، وأن لا تفقد توازنك مع أي ميل أو اهتزاز أو لحظة اختلال.. عليك أن تتجاوز عثرات الطريق وأن تستعد لمواجهة كل الاحتمالات السيئة لتصل إلى نهاية الطريق دون كلفة، أو بكلفة أقل إن باتت ضرورية أو مفروضة بأمر واقع أكبر منك.. كل هذا كان حاضرا في البال، وأنا أخوض غمار المعركة الانتخابية مستعينا بالعقلاء الذين يؤازروني، ودونهم ما كنت..
لقد كانت تلك العصبويات تؤلم مشاعري، في واقع وجدته أكثر تعقيدا وانتاجا لها، فيما كان الواجب يحتم تجاوزها، وأن لا أخسر نفسي فيها، وفي احتدامها الذي يحدث هنا أو هناك، وأن لا أفقد صوابي أو توازني في لحظة ضعف، ولا أتخلى عمّا أحمله من مبادئ وقيم واخلاق، وكل ما لا يقبل التنازل..
كان هناك اشتراكيين لا يطيقون المؤتمر، وهناك مؤتمرين لا يطيقون الاشتراكي.. هناك من يحاول أن يستفز الاشتراكي بشعار “الحصان” بدلا من الشريم، وهناك من يناهضه بحسم وقوة.. هناك صور صالح التي تستفز بعضهم، وهناك من يستغل فتاح ويوظف هتافه في إفساد ما تعمله.. هناك من يقذفك بتوصيفاته المُغرضة، وهناك من يلقي بوجهك الاتهامات الجائرة، وأنت بريء من هذه وتلك..
عصبويات مناطقية وقبلية.. أعبوس وقبيطة.. نجارين وفقرة.. عصبيات كثيرة أصغر منها.. حزازات الماضي يتم توظيفها والاستفادة منها، ولا تخلوا المعركة أيضا من الأنانية والحسد.. شخصيات قيادية ووجهات اجتماعية بأنانية مفرطة، تحسب الأمور من منظورها ومصالحها الذاتية، وبحسابات ما ستجنيه من هنا، وما ستربحه من هناك.. إنه المجتمع بكل ما فيه..
***
كان لدي فريقان انتخابيان ليسا على وفاق مع بعضهما، وربما لا يتوفر بينهما الحد الأدنى من الانسجام والتفاهم.. الفريق الانتخابي المكون من الاشتراكيين والمستقلين وفيهم المتمردين على أحزابهم، والفريق الانتخابي الآخر المكون من المؤتمر الشعبي العام.. توحيد الفريقين في فريق واحد كان يعني تفجير مكون الفريق الجديد من داخله..
ولهذا كان الاتفاق أن يبقى كل فريق مستقل عن الآخر، على أن يتم سياسة الفريقين بطريقة، أتجنب من خلالها صنع الأسباب التي يمكنها أن تؤدي إلى الاحتكاك والاصطدام بينهما.. ومع ذلك كادت بعض الاحتكاكات أن تفسد أو تنسف جل ما هو صالح أو بعضه..
كان كل فريق يعمل وفق خطته الخاصة في الحملة الانتخابية، مع مراعاة محاذير ومخاوف الطرفين، وكان لوجود الدكتور عبدالله عبدالولي ناشر، والشيخ محمد هزاع من المؤتمر، وعبده فريد حاشد، وأنوار هزاع وعبد الفتاح العبسي “الأسود” ومحمد علوان ثابت ومحمد فريد ونصر عبدالجليل ومانع على مانع وغيرهم في فريقي الانتخابي دورا مهما في المشورة والمساندة، بل واحتوى الخلافات، وحل المشكلات الناشئة، ونزع فتيل بعض النزاعات والتوترات التي كادت أن تتحول في بعضها إلى مواجهة أو صراع محتدم..
في المهرجان الذي أقمته في منطقة “ظبي” في “الأعبوس”، كاد الخلاف أن يفسد هذا المهرجان، وهو المهرجان الثالث الذي أقمته في إطار حملتي الانتخابية.. وصلنا في الموعد المحدد للمهرجان في مدرسة الارشاد بظبي، وكان يفترض أن تسير الأمور على ما يرام إلا أنني تفاجأت بوجود اشكاليات حول فقرات المهرجان، وبجهود العقلاء تم التغلب عليها وحلها باتفاق على حذف بعضها، واضافة فقرة بديلة.. كما كانت هناك خلافات حول شعار المؤتمر وصور الرئيس صالح، تم حلها أيضا، وتم نزع الفتيل الذي كاد ينسف هذا المهرجان من أساسه.. مع ملاحظة ان ما حدث في “ظبي” لم يحدث في مكان اخر.
كان لوجود أنور هزاع والدكتور عبدالله عبدالولي وآخرين دورا مهما في تجاوز تلك الفخاخ والمصائد التي استهدفت إفساد ذلك المهرجان.. لقد نجح مهرجان “الرماء – قبيطة” لوجود التفاهم المطلوب، ونجحنا في مهرجان “الرام – أعبوس” الذي تم تحت رعاية رجل الأعمال المحترم علي درهم العبسي وتنظيم وولاء وانضباط رجاله هناك.. فأرادوا تفخيخ وإفساد المهرجان الثالث المقرر أن يكون في “ظبي” أعبوس، ولكننا نزعنا الألغام وتجاوزنا ما يفسد، ونجح المهرجان على من حاول تفخيخه..
القى في المهرجان الدكتور عبد الله عبد الولي ناشر كلمته، استغلها أحد الذي كانوا ضمن فريقي الانتخابي، وقد صار مواليا لمنافس آخر، محاولا إفساد هذا المهرجان مع مجموعته الصغيرة الذين حاولوا أن يثيرون الهرج والمرج في المهرجان..
لقد كان هذا “الواحد” ضمن فريقنا، واستلم دعمه منّا، فيما أنقلب علينا إن لم يكن قد خطط لهذا الانقلاب ابتداء.. كان بإمكانه أن يوجه طعناته من الأمام، ولكن راق له الطعن من خلف ظهورنا.. كان بإمكانه أن يقيم مهرجانا موازيا، ولكنه فضّل أن يتسلل ويخاتل إلى مهرجاننا ليثير فيه الفوضى ومحاولة إفساد ما نصنعه.. ننسى ونتسامح مع صاحب الطعنات التي تأتينا من الأمام، ولكن نسامح ولا ننسى طعنات الغدر التي تأتينا من خلف ظهورنا.. نحترم الاعتراك بنبل وأخلاق الفرسان ولا نحب ما دونها..
شكك بصفتي المستقلة، وانتمائي “اللامنتمي”.. استخدم ومجموعته بسابق تدبير هتاف في غير محله “حزبك باقي يا فتاح .. حزب العامل والفلاح”.. متناسيا أنني منتميا إلى هذه الطبقات التي تحدث عنها، ومخلصا لقضاياها وقضايا الفقراء من أي طبقة أو شريحة كانت، دون أن أغرق في التنظير أو أتعسف النظرية والتطبيق..
انتهت المحاولة بالفشل وتصدىّ فريقي في الأعبوس والمنتمي للحزب الاشتراكي لهذه المحاولة باقتدار بعد ملاسنة، ولكن المفارقة أن هذا المركز الذي كان في الدورات الانتخابية السابقة أحمرا بامتياز قد حصد حزب الإصلاح معظم الأصوات فيه..
وفي المقابل وهي المفارقة الثانية أن معقل الإخوان وحزب الإصلاح في “ثوجان” عاصمة مديرية القبيطة، وهي مسقط رأس مرشد الإخوان المسلمين ياسين عبد العزيز، ولأول مرة في تاريخها الانتخابي، ومعها المركز المجاور في منطقة “الرمأ – قبيطة” جاءت النتيجة وبسابقة غير معهودة من قبل، خسر فيهما “الإصلاح”، وصرت صاحب المرتبة الأولى فيهما، وبفارق مئات الأصوات، وهو ما كان صادما له؛ لأنه لم يكن يتوقع هكذا نتيجة، لاسيما في هاذين المركزين اللذين أعتبرهما معقلا له ..
***
كثيرون هم الذي ساعدوني وكان لبعضهم باع وخبرة في الشأن الانتخابي وحل المنازعات، وكان لوجودهم معي دورا في جعل الأمور المُهددة تتحول إلى وفاق وسلاسة.. تجاوزت العوائق والكوابح التي كانت تنشأ هنا أو هناك وتعترض مساري الانتخابي.. وفي المحصلة تظافرت كل الجهود لتحقق النجاح بفارق إجمالي بلغ أكثر من ألفي صوت مع منافسي الأول وهو مرشح حزب الإصلاح الدكتور عبدالودود هزاع..
لقد لعب عقلاء الفريقين دورا مهما في تجاوز ما يطرأ وينشأ من خلافات، فيما كنت أشبه بمن يسير على الحبل، وبيده عصا لعبوا دورها أولئك العقلاء، ومن خلالها تم ضبط توازني حتى وصلت نهاية الحبل المشدود الذي أسير عليه، ودونهم ما كنتُ وصلت..
كان لهؤلاء العقلاء دورا مهما فيما تم تحقيقه من نجاح، بل وأيضا في فرملة حماس واندفاع بعض الشباب قليلي الخبرة في الشأن الانتخابي، فالجهل أيضا عدو صاحبه.. ترافق كل هذا مع العمل الدؤوب على تقليل الاحتكاكات، وإزالة أي التباس، أو سوء تفاهم، ينشأ هنا أو هناك، حتى أنتهى الأمر إلى خير أروم..
لم ينحصر التناقض بين فريقي المؤتمر وفريقي الانتخابي، بل كان هناك تناقض حتى في إطار الفريق الواحد، حيث وجدتُ أن في كل فريق أيضا لا يخلوا من تناقضاته، وفي كل حال كانت تجري الحلول بعيدا عن الطيش والانفعال وردود الفعل.
كنت أسوس كثير من التناقضات بمعاونة العقلاء في واقع معقد ومفخخ أيضا.. ليس سهلا أن تدير التناقضات التي يهمك أمرها، وعلى نحو يجعلك تحول دون اصطدامها بك، وتتجاوزها باقتدار، فيما تجد من يوتر ويشحن تلك التناقضات، أو يفخخها لتنفجر في وجهك، خدمة لهذا الطرف أو ذاك، أو حتّى بقصد افشالك لمصلحة أصغر، أو حتى ثارا وانتقاما منك..
الحقيقة أنني لم أكن أجيد دور المهرج، أو رجل السرك المتمرس على اجادة دوره الذي أحترفه، لنيل اعجاب الجمهور، بل كنت أقرب إلى رجل نزع الألغام الذي يسير في طريق ملغومة ومفخخة، وعليه أن يتوخى كل المحاذير، ويبذل الحذر الأقصى، ويلتزم دقة العمل، في لحظة ضيق، ربما الخطأ فيها يكلفك كل شيء.. لحظة ضاغطة ربما لا تتيح لك هامشا لنزع الفتيل، أو مساحة من الحيز تنجد بها نفسك..
***
يتبع..