من أبطال الحرية إلى سجناء النسيان: شهادتي من خلف قضبان زنازين صنعاء

يمنات
عبدالوهاب قطران
قد سار من كل شيء أحسنه حتى من السجون!
كان السجن السياسي زمانً في عهد الجمهورية والدولة، عهد الديمقراطية والحرية والتعددية السياسية، في زمن الرئيس الراحل علي عبدالله صالح رحمه الله. مفخرة ،كان يُسجن المعارضون السياسيون، لكن لم تكن تُقتحم بيوتهم، ولم تُستباح حرمة مساكنهم. وكانت الدنيا تقوم ولا تقعد لأجلهم، ويُتم ترميزهم ، وتتضامن معهم الصحافة ووسائل الإعلام المحلية والدولية، والمنظمات الحقوقية في الداخل والخارج.
وكانوا يتلقون دعمًا ماديًا، فلا تجوع أسرهم ولا أولادهم، وهم في السجون العادية. ثم يُحاكمون، ويُفرج عنهم بعفو رئاسي في المناسبات الوطنية، ليخرجوا من السجن أبطالًا يُشار إليهم بالبنان، وتُمنح لهم الجوائز والأوسمة من منظمات دولية ودول، وتُفتح لهم الأبواب، ويسافرون إلى أوروبا وأمريكا والشرق والغرب.
ولا حاجة لذكر أسماء، فالكل يعرف ذلك.
كل تلك الامتيازات والتقدير كان يلقاها السجين السياسي في حقبة صالح، أما اليوم فلا يجد سوى التجاهل والنسيان. وفي أحسن الأحوال، يكون سعيد الحظ إذا تضامن معه البعض ببضع منشورات فيسبوكية وتعليقات شكلية كلها من باب “إسقاط الواجب” و”تضامننا الكامل”!
وعندما يخرج من السجن، يلقى المنّ والأذى، بل إن البعض يعيره ويمنّ عليه بأنه “تكرم وتضامن” معه بمنشورين فيسبوكيين كإسقاط واجب! وما أن يختلف معه بالرأي حتى يرمى في وجهه: “آسف أني تضامنت معك وضحيت وكتبت عنك وأنت في السجن، ما كنتش تستاهل تضحياتي تلك!”
وكما يقولون: اطلب عمر تلقى عجب.
أما اليوم، في هذه الحقبة المظلمة المتوحشة، حقبة المليشيات والجماعات، فالمواطن اليمني يُختطف من وسط بيته، وتُستباح حرمة مسكنه، ويُجرّد من كل حقوقه الدستورية والقانونية، ليُسجن ويُغيَّب خلف القضبان أشهرًا وربما سنوات بلا محاكمة، بتهم كيدية مفبركة: عمالة، خيانة، تجسس وغيرها.
يُختطف الإنسان ويُحرم من أبسط حقوقه، وهو جائع، وأسرته جوعى، لا أحد يلتفت لمعاناتهم ولا احد يقف بجانبهم.
البعض يموت منسيًا في السجون، ومن يخرج بعد معاناة يخرج مريضًا منهكًا لا أحد يذكره، بل قد يُتهم هنا بالارتزاق والعمالة وتلقي الأموال من الخارج، وهناك يتهمونه بالحوثية والكهنوتية!
وقد تذكرت ذلك وأنا الذي عايشت عن قرب ظروف السجناء وأهاليهم وأنا مغيّب خلف قضبان زنازين مخابرات صنعاء، ووقفت شاهدًا على أحوال بعض السجناء الذين جرى اعتقالهم وتغييبهم خلف الشمس في سبتمبر من العام الماضي، وسبتمبر من هذا العام، فقط بتهمة النية في الاحتفاء بثورة السادس والعشرين من سبتمبر.
رأيتهم هم وأسرهم في ظروف بالغة البؤس والقسوة، جوعى معدمين، لا يجدون ما يسد رمقهم، وهؤلاء يتهمونهم بالعمالة والخيانة، وأولئك يزيدون بهم ولا يقدمون لهم أي دعم أو معونة. مجرد متاجرة بهم وبالقضية!
وأقول ذلك بصدق وإنصاف، رغم أنه فبرك لي تهمة “تمجيد الهالك عفاش”، وهي من جملة التهم التي ألصقت بي حين جرى تغييبي خلف الشمس ستة أشهر قبل عام ونيف في زنازين وأقبية جهاز الأمن والمخابرات. وهي اليوم أخطر تهمة قد تُفضي إلى السجن والتغييب. ولا يزال ابن قريتي جميل شريان مغيّبًا بالسجن منذ قرابة شهر، وظروفه وظروف أسرته في غاية العوز والبؤس والإملاق، بينما “المؤتمر” والعفاشيون لا يعرفون حتى أين خريته الكلاب!
لا أحد سيحتفي بهؤلاء، ولا أحد سيتكفل برعاية أسرهم وهم في السجون. سيجوعون وتضيع أسرهم معهم، ولن يتضامن معهم أحد، ولن تُمنح لهم جوائز أو سفريات أو تكريم. ستذهب تضحياتهم سُدى، ويمحوها النسيان بلا أثر، لأننا نعيش مرحلة ضياع وتيه، لم يعد لأي شيء فيها قيمة.
فيا لمرارة أن يصبح السجن مقبرة للأحياء،
ويا لخذلان أن يتحول المناضل إلى رقمٍ منسيّ في سجلات العتمة،
ويا لفجيعة وطنٍ يدفن أبناءه في الزنازين، ثم يتركهم يذوون جوعى عطشى،
كأنهم لم يكونوا يومًا صوتًا للحقيقة، ولا وهجًا للحرية.
ومع كل هذا الألم، تبقى كلمة الحق واجبة، ويبقى التضامن الإنساني أبسط ما يمكن أن نفعله من أجل هؤلاء السجناء المظلومين المنسيين وأسرهم الجائعة. فالتاريخ لا يرحم، والحرية لا تموت، والإنسانية لا تُقبر خلف الجدران.