عندما نتكلم عن تضامن تجاه شأن من شؤوننا اليمنية يكتنف هذا التضامن ثنائية “التطابن” وهو نوع من الغيرة التي تجد لنفسها حق يمنحها مماثلة وعادة ما تكون هذه المماثلة خارج الزواج كحالة وطنية مثلا، كارثية ، إذ لا يجب على الإطلاق ايجاد اعذار تتشارع اضدادها لهدف أناني بحت ، إما بالإلغاء او للإثبات فتتجاسر تلك الأنانية بنكهة عناد مفرغة من أي أصل أخلاقي في سبيل التمويه والتغطية وتستغل أي أسباب لإعاقة ما قد يفضح وجودها الخاطئ .
أغرب تعليق على منشور صديق قرأته اليوم – وليس بغريب إذا ما قارنه بظروف وملابسات المشروع التفتيتي للنسيج الاجتماعي – والذي كان عبارة عن تضامن مع مكتبة السعيد التابع لمؤسسة السعيد للثقافة والعلوم، كبرى مؤسسات البلد في الشأن الثقافي والبحث العلمي، لما تقدم من أدوار هامة لمنح مثقفي وأدباء وشعراء ومبدعي اليمن عموما، من اهتمام ملموس وعلى قدر من التقدير والفاعلية اذا ما قسناه بوضع هذا القطاع شبه المطموس في اليمن ، وﻻ يمكننا سوى التضامن مع أي مؤسسة كانت كبيرة او صغيرة عندما تتعرض في بلد يشق طريقه للعبث الجاهلي، وتنمو بأتجاهه مفردات العنف والمناطقية والطائفية والإنسحاق بفعل الجهل والأمية، وتسيد طابع التحالفات القبلية والاسلاموية المتطرفة التي تتغذى من هذه الحواضن القروسطية ، تضمنت عبارة أحد المعلقين عبارة انسحاب مناطقية ” مؤسسة السعيد حق تعز أيش حشرك من صنعاء ” ! عبارة تصكك وتغلقك على انفعالات جد مريرة، وقد تعودناها مرارا وتكرارا على خلفيات احتدامات سلبتها تصدعات حالة الاقتتال الدائرة في تعز وما اجتلبته لنا من ويل النزيف وانسحاق تماسكنا الإجتماعي وترابطنا الأخوي ، الا أنه كانت مؤسسات الثقافة والإبداع متوحدة بين الشمال والجنوب منذ القدم قبل ثورتي سبتمبر وأكتوبر، كانت ملاجئ وحدوية يمنية اصيلة بوعيها التاريخي بمصيرنا الواحد ، مثل هذه المؤسسات إن تعرضت لمكروه في قطب العالم فشانها شأن كل مثقف واديب ومبدع في أقطاب الأرض، فما بالنا بمؤسسة يمنية لم تفرق يوما بيننا وكانت لنا ضوء يهدينا صراط الحرف وفسحة الحب و قبلة الوطن ، لا شيء يمنعنا من هذا القبيل السامج ولن يردع تماسكنا الثقافي و الإبداعي أي انحراف مكمم بعبوات تفخيخية تحكمه نزوات الشاردون في الدم والقتل.
مؤسسة السعيد ومكتبتها تخص كل مثقف واديب وشاعر وصحفي وكل مبدعي اليمن .
أول مرة زرت هذه المؤسسة كانت قبل سنة ونصف تقريبا من الآن عندما لفتت ادارتها انتظارا طويلا لشعراء محافظة حجة ، فخصصت لي ومجموعة شعراء من ابناء المحافظة صباحية شعرية جميلة بحجم بهجة تعز المبثوثة من عالي قمة العروس وقمم الحجرية ، و بسعة و طراوة قلب هو كل تعز ، القدير الفاضل الأستاذ فيصل سعيد فارع ، تجولنا ضفاف المؤسسة رفقته بعد الصباحية السعيدة واندهشنا بمؤسسة لمجالها واسع الأفق تحث أثر غابر وتغمز لتأثير المستقبل ، ما زلت أرى يدي عمو فيصل يلوح للأشياء سيرتها المعرفية والتاريخية و يؤصل و يحقب ازمان مخطوطاتنا وعملاتنا اليمانية القديمة ، ويصف جهدا عميق الحثة والجدة والتتبع .. والتتبع هذا له قصصه نادرة الغرابة يقضي بتقصي الأخبار والبحث والسعي للحصول على بقايا إرث اجدادنا المادي للمساند والعملات وادوات العيش ومخطوطات ..الخ مما استطاعت المؤسسة جمعه وانجازه ، لا اعتقد أن الدولة اليمنية قدمت مسعى كهذا لإيجاد جزء من تاريخنا القديم والإهتمام به كما فعلت مؤسسة السعيد، ولم تقدم أي حكومة لمثقفي البلد ومبدعيها اهتماما كما فعلت السعيد ، كانت مؤسسة تبحث في مداها الحالم عن شرفات تأمل منه إطلالة سعيدة بحق لائقة بمثقف اليمن عامة ، ولإبن تعز خاصة ، إذ لأبناء تعز حق خاص عليها والعكس ثانيا .
الآن، كيف امتدت أيد الوسخ التأريخي المعفن الى كل رف من ارففها؟ وكيف اضرمت في واسعها النار؟ وكيف استطاعت فكرة فعل كهذا؟! ما المقاربة التي احتسبتها أفكار هؤﻻء الهولاكيين ليدمروا فضيلة بهذا البهاء؟ ماذا اسمو غزوتهم و أبوا من كان يتقدم جَربهم واحقادهم على ضياء المعرفة وبشارة العلم وسراج المقامات؟ أي قلب هذا الذي يحرق مكتبة وكيف سينام ليلته؟ من يشعل النار في مكتبة كان قد أطفأ بصيرته منذ اشتباه آدميته؟ قوم الطاعون الذي زفرته كتب التشدق .. هؤﻻء زنادقة الحياة والعلم والتنوير ، قبح إنجزأ من اعمق فكرة وهبت لحرق الكتاب الأول ، أبالسة ، رجماء خطيئة لا تتوب ابدا . لكن من جهة وحيدة أولى واخيرة ما يمكن لمسه و مشاففته من هذه النيرونية هو ، أن مؤسسة السعيد كانت هدفا قديما للتكفيريين، مبني ضدا لدورها التنويري الذي اصبحت تشكل عصبه في اليمن ، وما تقدمه حقا هذه المؤسسة الضليعة بالثقافة والإبداع والمعرفة والبحث العلمي من أهمية فائقة في محاربة ومحاصرة تمدد الظلام، ومحاولة انطباق جفنه على عيون شعاع التنوير، وطمس منطق العقل المتحرر من خرافة الكهنوت و انزلاقاته الخطيرة جدا على مستقبل البلد ، كونوا اكيدين من مخاطر ما سيأتي أكثر وأكثر إن لم نوقفه فسيبتلع مستقبل اجيالنا مئات السنين.
تضامني اللامحدود مع مكتبة ومؤسسة السعيد اقدمه لكل مثقفي اليمن قاطبة ولقطبها الأوحد ومديرها الامجد فيصل سعيد فارع. وندعوا الجميع إدانة هذا الفعل المشين المغولي وأن يسعى الجميع للتصدي له، وأن يحاسب بشدة كل يد امتدت ورجل وطأة عظمة هذا الصرح وان ينزل عليهم أشد العقاب رادعا تاريخيا لكل نفس تفكر مستقبلا الاقتراب من مؤسسات الثقافة والإبداع ومن أي مؤسسات مدنية أخرى.