الكوليرا ليس وباء عابرا .. هل نحن شعب غير نظيف أم لدينا حكومة غير نظيفة..؟
يمنات
لطف الصراري
في رائعة جابرييل غارسيا ماركيز «الحب في زمن الكوليرا»، يرغب فلورينتينو، بطل الرواية، بتخصيص سفينته لرحلة نهرية تجمعه بحبيبته بعد خمسين سنة من تعثر زواجهما.
و لكي يفعل ذلك، لجأ لرفع علم أصفر على سفينته لإيهام المسافرين بوجود مصابين بالكوليرا على السفينة، الأمر الذي استنفر السلطات ولم تسمح للسفينة بالرسو عدا للتزود بالوقود والعودة إلى النهر.
لم تكن تلك خدعة في الواقع. فماركيز، ذي البراعة الفائقة في تنويع حيله السردية، كان يستلهم هذه الحيل والتقنيات من وجود حقيقي أو رمزي لها في الحياة الواقعية.
قصة الرواية نفسها استلهمها من قصة حب أبيه وأمه، وزمنها يمتد من الربع الأخير للقرن التاسع عشر حتى الثلث الأول من القرن العشرين.
خلال ذلك الزمن، كان وباء الكوليرا لا يزال في قمة ازدهاره وينتقل في كل أنحاء العالم دون اكتراث للأعلام الصفراء. كل جائحة منه لم تكن تمر بصورة عابرة أو خفيفة الأثر؛ فبين سنة وعشر سنوات مثلاً، يستمر حصاد الأرواح بعشرات ومئات الآلاف على مستوى كل بلد.
و تشير إحصائية لموسوعة «بريتانيكا» أن نصف مليون روسي ماتوا بالكوليرا خلال الربع الأول من القرن العشرين، وهي الفترة التي كانت أوروبا قد سيطرت على الوباء.
و مع تقدم نظم الرصد الوبائي حتى بداية القرن الواحد والعشرين، لم يعد انتشار الكوليرا مزدهراً سوى في البلدان التي لا تهتم بالنظافة الشخصية والعامة.
هل نحن شعب غير نظيف إذاً أم لدينا حكومة غير نظيفة؟ و«غير نظيف» هذه، ستبدو صيغة مخففة لوصف القذارة مقارنة بالتلوث البيئي الذي أدى لتفشي الكوليرا إلى مستوى الوباء.
منذ أسبوعين فقط، تسارع ارتفاع عدد الوفيات بمرض الكوليرا في صنعاء من 30 حالة ومئات المصابين خلال الأسبوع الأول، إلى 205 وفاة و17 ألف مصاب نهاية الأسبوع الماضي.
قيل إن تراكم القمامة في الشوارع هو سبب تفشي الوباء، وهناك من يشير إلى مؤامرة محتملة لنشر الوباء في ظل الحرب التي تشهدها البلاد، لكن الأمر لا يحتمل النكاية واستخدام حياة الناس وموتهم للدعاية الحربية.
عدد المصابين والوفيات يرتفع بتسارع مخيف حتى بعد أن تم تسليم مرتبات عمال النظافة ورفع النفايات من الشوارع. وعند هذه النقطة بالذات، ربما يجدر بالسلطات الصحية والبيئية تقصي الطريقة التي بها تم التخلص من هذه النفايات.
إذ لا يكفي إعلان صنعاء مدينة منكوبة بالكوليرا في الوقت الذي لا تستنفر الفرق الحكومية في تفقد سلامة مصادر المياه والغذاء. كما لا يكفي إعلان التوعية المجتمعية بضرورة الاهتمام بغسل اليدين بالصابون قبل الأكل وبعد قضاء الحاجة.
النظافة الشخصية ليست سلوكاً وقائياً ضد المرض فقط، ويجدر بالتقارير الطبية للمستشفيات ألا تقتصر على الأرقام الإحصائية لعدد المصابين والوفيات؛ ذلك أن تضمين التقارير نبذة مختصرة عن تشخيص الحالات المؤكد إصابتها، أمر لا يقل أهمية عن سبل الوقاية والعلاج ورفع الإحصائيات للحكومة والمجتمع الدولي.
و لعل أهم ما في هذه النبذة المختصرة، ذكر ما تناوله المصاب في آخر 24 ساعة قبل ظهور أعراض الإصابة بالكوليرا. سيقود هذا إلى مصادر متخفية للتلوث من قبيل آبار معينة أو أغذية معينة، ونحن نعرف كيف يضطر الناس في المناطق المحاصرة لتدبر مياه الشرب من الخزانات الخيرية المنتشرة في الأحياء، وكيف وصلت حالة العوز والفقر بالناس إلى سد الجوع بقرص خبز غزته الفطريات.
إنه الجوع؛ من ينجو منه تتلقفه الكوليرا، ومن ينجو من الكوليرا، لن يكون لديه حتى قارب ورقي يبحر به مع حبيبة وعلم أصفر لتخويف الدخلاء.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا