من أرشيف الذاكرة (50) .. قصتي مع القات
يمنات
أحمد سيف حاشد
(9)
* أكثر مجالس القات التي حضرتها، و معظم مقايل القات التي تمت في مجلس مقيلي، كانت غالبا تتحدث في السياسية، وبين رحاها، وتمتد إلى كل ما له صلة فيها، وقليلا هي تلك المواضيع التي تنتمي إلى غيرها، ونخوض فيها، وتكون متعلقة بقضايا شؤون الفكر أو الفن أو الأدب أو الجمال أو ما عداه..
* حتى مياتمنا ومجالس العزاء والمناسبات الأخرى الغير سياسية، سيسناها، أو صارت لا تنجو من السياسة، وصرخات التعبئة، وزوامل الحرب التي تثوِّر الدم في العروق، بل حتى تلك المقايل الذي نخصصها لشأن آخر، أو نستوعد أن تكون بعيدة عن السياسية، نجد السياسة تخترقها، أو تتسلل إليها، كما يتسلل الهواء والضوء من النوافذ والشقوق، بل أحيانا تخترق السياسية الجداران، مهما كانت سماكتها ومهما كانت خالية من الثقوب.. إنها السياسة، لعينة ومحتالة في كل اللغات..
* عندما نحاول صد السياسية أو إخراجها مطرودة من مجلسنا، نجدها تحاول العودة بإلحاح ودون أن تكل أو تمل من المحاولة.. إنها في الحقيقة أبعد ما تكون عن اليأس.. إنها الكائن الوحيد الذي لا ييأس ولا يخون مناه.. إن ما لم يحققه الاستعمار في بداية القرن العشرين، يريد أن يحققه اليوم في القرن الواحد والعشرين.. إنها “فن الممكن”، بل هي الممكن والمستحيل معا..
* كلما فكرنا في الهروب من السياسة، تدركنا بسهولة، وتظفر بنا بكلتي اليدين، بل نجد أنفسنا غارقين بين أمواجها المتلاطمة.. كلما أقسمنا في المساء أن نكف عنها وأن نغلق أبوابنا دونها، وجدنا أنفسنا نلاحقها في الصباح، ونلحق بها في عز المقيل.. إن لم ندركها نحن هي من تدركنا، ولا محال بيننا..
* في مقايلنا تعود إلينا السياسية من النوافذ والأبواب، وعندما نغلق في وجهها كل النوافذ والأبواب والشقوق تعود بتلقائية من اللاوعي، وتفرض نفسها على المقيل، بعد أن تغلب ما عداها من حديث يدور.. إنها السياسية يا صاح..
* أحيانا نجد أنفسنا نلوك كل يوم رتابة نفس الحديث الممجوج، ونفس المواضيع المكررة، ومع نفس الأشخاص المعتادين المقيل معهم، ومع ذلك لا يضنكون من بعض، ولا يشعرون بالملل حيال بعض، أو حيال ما هو مكرور من الحديث..
في حضرت القات كل شيء بالي يبدو جديدا حتى وإن تقادمت عليه السنين.. أما أنا فأحيانا أضطر إلى التمرد، وأشهد بعض الخروج، وأحاول كسر طوق الملل والروتين المستحكم، ومع ذلك وبعد يومين أو ثلاث، أجد الحنين يجرفني لنفس الشخوص، وربما أيضا لنفس الحديث بعد أن نقرنه بمستجد جديد.. إن الحياة تبدو لي أحيانا محتارة بنا، وهي تجد نفسها تعيش معنا غربتها في حضرة الروتين والملل الذي يقلبه القات إلى جديد فيه كثير من السعادة والانتشاء والرضى والمستقبل الذي نريد.. وبعد المقيل ينقلب الحال إلى النقيض.
* من أهم مجالس القات المحدودة التي حضرتها، ولم تتطرق إلى موضوع السياسية قط، لا من قريب ولا من بعيد، ذلك المقيل الذي كان بمعية الصديق مروان الغفوري، في منزل صديق له في الدائري.. أذكر أنني علّقت في نهاية المقيل وقبل المغادرة بقولي: “إنه مقيلا استثنائيا بكل ما تعنيه الكلمة”..
* في ذلك المقيل كان يبهرني مروان الغفوري بسعة اطلاعه في قضايا الكون والنشأة، رغم أنني كنت اعرف أن تخصصه في مجال الطب لا غيره.. وتعود معرفتي بمروان الغفوري منذ الفترة الأولى لإصدار صحيفة المستقلة التي كنت أتوسم فيه أن يحرر الصفحة الطبية في الصحيفة.. أظن أن هذا المقيل الذي أتحدث عنه كان فيما بين عامي 2005 ـ 2006. نعم.. لقد كان مقيلا خاليا من الدسم وكسترول السياسة..
* أدهشني في المقيل أن جميع الموجودون فيه، لم يطرقوا للسياسية بابا أو نافذة.. كل الحديث ومن أول المقيل حتى مسك ختامه، منحصرا بين النشأة والزوال.. من السديم، وما بعده، مرورا بنشأة الكون وتشكل مجرتنا ومجموعتنا الشمسية، وليس انتهاء بنشأة الإنسان، وعمّا إذا كان قد تحول من قرد إلى إنسان أم لا.. هذا دون أن يغفل حديثنا احتمال وجود حضارات أخرى في عوالم أخرى كثيرة..
* في الحقيقة هذا المقيل لم يكن مقيلا، بل كان رحلة كونية عجيبة من النشأة إلى الفناء.. رحلة في المجهول تفوق قصة الأسرى والمعراج.. لا أدري في الحقيقة ما نوع القات الذي اشتريناه ذلك اليوم..
* لقد هممت بسؤال مروان وأنا أزور برلين في أخر مرة، ولكني لم أجده، وعوضا عنه، وجدت الدكتورة أروى الخطابي التي كنت سعيدا بلقائها، وقد فرقتنا ما دون السياسة بعده ببرهة، وحتى يومنا هذا تفرقنا الطبائع أكثر من السياسة، حتى بلغت بنا القطيعة مبلغا وولغا..
* أول خلاف أو بالأحرى امتعاض غير معلن مع أروى بعد لقاءنا في برلين ببرهة، كان بسبب أنني نشرت صورة جماعية، ونسيت أن أذكر اسمها ضمن أسماء من ذكرت ممن كانوا حاضرين في الصورة، وقد أستدركت حينها، وتم التعديل والاضافة بمجرد أن أخطرني صديق بغفلتي..
* كنا نفكر نحن وأروى أن نؤسس حزب سياسي، ولكن هو الله ستر ولطف ولم أعلم سر حكمته إلا منذ مدة قريبة.. كان لطبائعنا رأي وقطع، رغم أن مشكاتنا ووجهتنا كانت واحدة، أو تكاد أن تكون، أو كما هو مفترضا أن يكون.. ظل خلافنا يبرز ويتلاشى بين حين وآخر حتى أنتهى بقطيعة تدوم..
* العلمانيون زمرا وأشتاتا وشظايا.. أغلبهم لا يطيقون بعض، ومن باب أولى لا يطيقون خصومهم .. بل نجد بعضهم يحمل فكرة استئصالية تتمثل في اجتثاث الخصم، وينتقدون العنصرية بعنصرية أشد.. ويظلمون الحق باسم الأقيال وعبهلة الجميل.. فضلا عن أنهم مشتتون يغالبون بعض ويفتقدون لاحترام بعض.. جمعهم صاروا أشبه بذلك الحظ الذي ورد في قول الشاعر:
حظى كدقيق فوق شوك نثروه
ثم قالوا لحفاة يوم ريح اجمعوه
صعب الأمر عليهم ثم قالوا اتركوه
إن من أشقاه ربى كيف أنتم تسعدوه
* أعود لموضوع مقيلي مع مروان الغفوري.. كنت مهتما فيما جرى من حديث المقيل.. رحلة كونية لم تتكرر .. تفاعلت في كل ما طرقه المقيل من حديث عن الكون والنشأة وحتى الزوال.. ربما اهتمامي بالحديث كونه موضوع مثير للاهتمام وما يكتنفه من غموض.. وربما لما لموضوعة من نكهه معرفية متميزة، أو ربما بسبب أنني كنت قد كتبت في مطلع التسعينات شيئا عن العلم والدين والخرافات والأساطير.. لا أدري أين ذهب ما كتبته، وهو على الأرجح اعطيته صديق للاطلاع عليه ومراجعته ولكنه لم يعيده.. لا زلت احتفظ ببعض البطائق البحثية التي كنت استند إليها وأدون فيها بعض المقتبسات مذيلة باسم المراجع.. أذكر أنه كان بحث موثق كتبت فيه أكثر من تسعين صفحة تقريبا أو على وجه التقريب..
* كثير من قضايا البحث كنت أثيرها بصراحة وشجاعة مع زملائي في القضاء العسكري عام 1990، وكانوا يحاولون أن يجيبوا على بعض الأسئلة والإشكاليات الفكرية التي أثيرها، ولكن كانت إجابتهم لا تبدو لي مقنعة، بل ربما حتى لأنفسهم، ولكنهم قصدوا الحصول على الأجر والثواب من رب العالمين.. فيما كان بعضهم يعرضون عليا اللقاء بعبد المجيد الزنداني، كونه عالم “طحطوح” في قضايا الإعجاز العلمي..
* مشهد مقيلي مع مروان الغفوري يتكرر استذكاره، كلما أشاهده، وهو يخوض اليوم بين رحى السياسية وغمارها، والتطرق إلى موضوعات وشؤون الساسة..
* إنه مقيل لازال نادرا في حياتي، أو بالأحرى لا زال غامضا إلى اليوم.. تداهمني الأسئلة كلما أشاهده وهو يخوض غمار السياسية والتحليل والمعلومة.. هل كان الحديث يومها هروبا من السياسية، ولاسيما أنني لمست حرص و رغبة في عدم الخوض فيها..؟!!
* هل كان الخوف من السياسية هو الدافع أو السبب ..؟!! هل كان يتحاشي السياسية هروبا من كلفة دفع ثمن الانزلاق مستقبلا إلى أتونها ومحارقها في وضع غير آمن وغير مستقر؟!! هل هو هروب من السياسية وورطاتها وكلفة دفع الثمن في المستقبل..؟!! هل كان وجودي في المقيل هو المانع والسبب في الهروب من السياسة؟!! أم هي الصدفة والمزاج في ذلك اليوم الذي أحجموا فيه عن الرغبة في الحديث بالسياسية!!.
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.